نهاية النيوليبرالية والتاريخ يولد من جديد
لقد طوت أزمة 2008 صفحة الطروحات النيوليبرالية الاقتصادية وأعلنت هزيمة فكرة الحرية المطلقة للأسواق التي كان يجري تصديرها بالإجبار! اليوم، وعلى أعتاب أزمة اقتصادية يتوقعها الاقتصاديون الغربيون قبل غيرهم، يعلو الصوت لدى هؤلاء حول ضرورة إعلان نهاية حقبة للتوجه نحو أخرى في المنعطف التاريخي الذي يشهده الاقتصاد الرأسمالي والفكر الاقتصادي كذلك، قاسيون تنشر مقالاً للاقتصادي الحائز على نوبل جوزيف ستيغليتز منشور بتاريخ 4-11-2019.
عند نهاية الحرب الباردة، كتب العالم السياسي فرانسيس فوكوياما مقالاً شهيراً بعنوان «نهاية التاريخ؟» زعم فوكوياما أن انهيار الشيوعية من شأنه أن يزيل العقبة الأخيرة التي تفصل العالم بأسره عن مصير الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق... وقد وافقه كثيرون.
اليوم، ونحن نواجه تراجعاً عن النظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد، حيث يقود حكام مستبدون وزعماء الدهماء دولاً تضم ما يزيد على نصف سكان العالم، تبدو فِكرة فوكوياما غريبة وساذجة. لكنها عززت العقيدة الاقتصادية النيوليبرالية التي سادت على مدار السنوات الأربعين الأخيرة.
في هذه الأيام، أصبحت مصداقية العقيدة النيوليبرالية في الأسواق المتحررة من القيود، باعتبارها أكثر الطرق جدارة بالثقة إلى الرخاء المشترك، في حالة موت إكلينيكي. وهذا ما يجب أن يكون. إن تزامن اضمحلال الثقة في النيوليبرالية والديمقراطية ليس من قبيل المصادفة أو مجرد ارتباط أو علاقة متبادلة. فقد ظلت النيوليبرلية تقوض الديمقراطية لمدة أربعين عاماً.
الواقع، أن نمط العولمة الذي وصفته النيوليبرالية جعل الأفراد ومجتمعات بأسرها غير قادرة على السيطرة على جزء مهم من مصيرها، كما شرح بوضوح شديد الخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد، وكما ذكرت في كتابيّ الأخيرين بعنوان «عودة إلى العولمة ومنغصاتها»، و«الناس، والسلطة، والأرباح». كانت التأثيرات المتخلفة عن تحرير أسواق رأس المال بغيضة بشكل خاص: فإذا خسر مرشح رئاسي أساس في إحدى دول الأسواق الناشئة رضا أو تأييد وول ستريت، فإن البنوك تسحب أموالها من البلاد. ثم يواجه الناخبون اختياراً قاسياً: إما الاستسلام لوول ستريت أو مواجهة أزمة مالية حادة. هكذا كان الأمر وكانت وول ستريت تتمتع بسلطة سياسية أكبر من تلك التي يتمتع بها مواطنو البلد.
وحتى في الدول الغنية، قِيل للمواطنين العاديين: «لا يمكنكم أن تلاحقوا ما شئتم من سياسات»- سواء كانت الحماية الاجتماعية الكافية، أو الأجور اللائقة، أو الضرائب التصاعدية، أو النظام المالي جيد التنظيم- «لأن بلدكم سيفقد قدرته التنافسية، وسوف تختفي الوظائف، وسوف تُعانون».
في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، وَعَدت النخب بأن السياسات النيوليبرالية ستؤدي إلى نمو اقتصادي أسرع، وأنَّ الفوائد ستتقاطر إلى الأسفل حتى يصبح الجميع- بمن فيهم الأكثر فقراً- في حال أفضل. ولكن لكي يتحقق هذا، يتعين على العمال أن يقبلوا بأجور أقل، ويتعين على جميع المواطنين أن يقبلوا التخفيضات في البرامج الحكومية المهمة.
زعمت النخب أنَّ وعودها كانت تستند إلى نماذج اقتصادية علمية و«أبحاث قائمة على الأدلة». حسناً، بعد مرور أربعين عاماً، دعونا نلقي نظرة على الأرقام: لقد تباطأ النمو، وذهبت ثمار هذا النمو في الأغلب الأعم إلى قِلَّة قليلة للغاية عند القمة. ومع ركود الأجور، وارتفاع سوق الأوراق المالية إلى عنان السماء، تدفقت الدخول والثروات إلى الأعلى، بدلاً من التقاطر إلى الأسفل.
كيف من الممكن أن يُفضي تقييد الأجور- للوصول إلى القدرة التنافسية أو الحفاظ عليها- وخفض البرامج الحكومية إلى مستويات معيشة أعلى؟ لقد شعر المواطنون العاديون بأنهم وقعوا ضحية لعملية نصب. وكانوا على حق في الشعور بأنهم خُدِعوا.
نحن نشهد الآن العواقب السياسية المترتبة على هذا الخداع الأكبر: انعدام الثقة في النخب، وفي «علوم» الاقتصاد التي استندت إليها النيوليبرالية، والنظام السياسي الذي أفسده المال والذي جعل كل ذلك ممكناً.
الحقيقة، أنه على الرغم من اسمه فإن عصر النيوليبرالية كان بعيداً كل البعد عن كونه ليبرالياً. فقد فرض عقيدة فكرية كان الأوصياء عليها غير متسامحين على الإطلاق مع المعارضة. وقد عُومِل الاقتصاديون الذين يحملون وجهات نظر ابتداعية غير تقليدية على أنهم هراطقة يجب تجنبهم، أو في أحسن الأحوال حصرهم في مؤسسات معزولة.
إن النيوليبرالية لا تشبه «المجتمع المفتوح» الذي نادى به كارل بوبر إلا قليلاً. فكما أَكَّد جورج سوروس، أدرك بوبر أن مجتمعنا نظام معقد ودائم التطور، حيث كلما تعلمنا أكثر كلما غيرت معرفتنا سلوك النظام.
يتجلى هذا التعصب في أعظم صوره في الاقتصاد الكُلّي، حيث استبعدت النماذج السائدة إمكانية حدوث أزمات كتلك التي شهدها العالم في عام 2008. وعندما حدث المستحيل، جرى التعامل معه كما لو كان فيضاناً يحدث كل 500 عام- حدث استثنائي شاذٌّ ما كان بوسع أي نموذج أن يتوقعه. وحتى اليوم، يرفض دعاة هذه النظريات قبول حقيقة مفادها أنّ إيمانهم بالأسواق ذاتية التنظيم وتجاهلهم للعوامل الخارجية باعتبارها غير موجودة أو غير ذات أهمية أدى إلى إلغاء الضوابط التنظيمية، والذي كان محورياً في تغذية الأزمة. وتظل النظرية باقية، في ظل محاولات عقيمة لجعلها تتناسب مع الحقائق، التي تشهد على حقيقة مفادها أنّ الأفكار السيئة، بمجرد نشوئها، تواجه غالباً موتاً بطيئاً.
إذا فشلت أزمة 2008 المالية في جعلنا ندرك أن الأسواق المتحررة من القيود لا تعمل، فينبغي لأزمة المناخ أن تنجح في ذلك بكل تأكيد: ذلك أنَّ النيوليبرالية سوف تقضي على حضارتنا. ولكن من الواضح أيضاً أنَّ زعماء الدهماء الذين يريدوننا أن ندير ظهورنا للعلم والتسامح لن يزيدوا الأمور إلا سوءاً.
السبيل الوحيد إلى الأمام، والطريقة الوحيدة لإنقاذ كوكبنا وحضارتنا، هي أن يولد التاريخ من جديد. يتعين علينا أن نعيد إحياء التنوير، وأن نعيد التأكيد على التزامنا باحترام قيم الحرية، واحترام المعرفة، والديمقراطية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 941