قطَّاع الظلّ المالي العالمي: لا رقيب على النهب والإجرام
(حرية حركة رؤوس الأموال) عنوان أساس في المرحلة النيوليبرالية ومع تغوّل القطاع المالي العالمي، ووراء شعارات حرية حركة الأموال وضمان السرية المصرفية ونماذج الازدهار السريع البراقة... هنالك قطاع الظل المالي العالمي الخارج عن أية رقابة، والذي يُغطّي حركات الأموال غير القانونية وتتبيّض ضمنه الأموال غير الشرعية والإجرامية العالمية.
عند مراقبة الحركة العالمية للأموال ومصادر الاستثمار والإقراض والتحويل، تظهر دول وسلطات وجزر هامشية في مواقع متقدمة بشكل استثنائي لا يتناسب مع حجمها الاقتصادي... كأن تكون جزر برمودا مثلاً هي المصدر الأساس للاستثمارات الخارجية المباشرة للهند، وأن تستقبل استثمارات مباشرة من الولايات المتحدة خمسة أضعاف ما استقبلته الصين في عام 2006!
OFCs ونصف أصول البنوك في الظل!
تعكس هذه الحالة واحدة من تجليات ظاهرة المراكز المالية العالمية الخارجية: OFCs: Offshore Financial Centers)) وهي التي تتمركز فيها تدفقات مالية داخلة وخارجة لأشخاص وشركات أجنبية غير مقيمة في الدولة أو السلطة المحلية التي تلعب دور OFC.
نسبة 51% من الأصول والالتزامات البنكية العالمية متواجدة في مراكز OFC، وبمبلغ قارب 12,2 تريليون دولار، وذلك وفق التقديرات البحثية المتوفرة عن عام 2007، حيث لا تنشر تقارير دورية عن قطاع الظل المالي لصعوبة تقديره.
إن هذه الأصول والالتزامات غير مراقبة دولياً، وهي موجودة في المراكز التي تتمتع فيها بالسرية المصرفية، وحرية الحركة، وقلة الشفافية... خارجة عن قيود التشريعات والقوانين المحلية لدولها وللقانون الدولي. لذلك فإن اتساع الدور المالي لهذه المراكز، يعكس توسع عدم الشرعية في ظل القطاع المالي العالمي.
المال غير الشرعي من الجنوب للشمال
الأموال غير الشرعية هي التي تم جنيها بطريقة غير شرعية، أو تحولت بطريق غير شرعية، أو تُستخدم بطريقة غير قانونية عبر العالم... مستفيدة من مزايا (السرية واللا قيود) التي تجعل تعقب السلطات للمصادر الفعلية لهذه الأموال صعباً ومعقداً.
إن أحدث التقديرات لحجم الأموال غير الشرعية العابر عالمياً تقارب 1-1,6 تريليون دولار سنوياً. ولوجهة حركتها الكثير من الدلالة، فنصفها تقريباً ينتقل من دول الأطراف عبر العالم إلى المراكز المصرفية في الدول المتقدمة. كما أن نسبة 80-90% من هذه الأموال التي تخرج من الدول الفقيرة إلى مراكز المال لا تعود إليها، أي تتحرك باتجاه واحد من الجنوب إلى الشمال، بينما تتحرك هذه الأموال بالاتجاهين بين الدول المتقدمة (كأن تتحرك تدفقات الأموال غير الشرعية من الولايات المتحدة إلى سويسرا وبالعكس). تخرج سنوياً ما يقارب 500 مليار دولار أموااًل غير شرعية من الدول الفقيرة للدول الغنية، وهي للمفارقة تشكل 5 أضعاف المساعدات الدولية المقدمة من الشمال للجنوب والتي تقارب 100 مليار دولار!
تحويل غير شرعي وإجرام وفساد
للمال غير الشرعي العالمي ثلاثة مصادر أو مكونات، الأول والأكبر هو عبر التجارة وآليات التحويل غير الشرعية، وهي تشكل نسبة 60-65% من كتلة هذا المال وتقارب 600- 1000 مليار دولار، ونصفها يتدفق من الدول النامية، وهي آلية لتهريب الأموال.
إن هذه الآلية تعتمد كثيراً على التحويلات بين فروع الشركات العابرة للحدود، والتي لها مالك مشترك، حيث يمكن التسعير دون ضوابط... وهذه العمليات تعتمد على آليات، مثل تقليص فواتير التصدير من الدول التي يجب إخراج الأموال منها، بينما يتم الدفع في الخارج بالسعر الكامل، ويبقى الفارق حر الحركة والتحويل. أو بالعكس يتم تضخيم فواتير الاستيراد ليتم إخراج كمَّية أكبر من المال إلى الخارج. كما أنَّ التلاعب في مواصفات البضائع وجودتها يعتبر أيضاً آلية في التلاعب بقيم التحويلات وتحريك الأموال بطريقة غير شرعية.
أما المكون الثاني فيرتبط بالقطاع الإجرامي الذي يشكل نسبة 30-35% من هذه الأموال غير الشرعية ورقماً يقارب 300-550 مليار دولار سنوياً، وهذه تشمل أموال القطاعات السوداء كالمخدِّرات والإتِّجار بالبشر والنشاط الإرهابي وغيرها. أما المكون الثالث هو المرتبط بالفساد الحكومي العالمي، وهو الأصغر بين هذه مكونات الأموال غير الشرعية، ورغم هذا فإنه أكثرها تسييساً وينال أكبر تركيز إعلامي.
تريليونات من التهرب الضريبي
يلعب قطاع الظل المالي العالمي دوراً هاماً في التهرب الضريبي للشركات الكبرى عالمياً، وبشكل أساس عبر الواحات الضريبية، التي يمكن أن يتم فيها فتح فروع وهمية في أغلب الحالات للشركات الكبرى ونقل الأرباح إليها، حيث تعفى من الضرائب. كأن تقوم شركة 3COM الأمريكية بفتح فرع في جزر سايمان البريطانية (وهي واحدة من ثلاث جزر بريطانية- مستعمرات سابقة- تعتبر أهم ثلاثة مراكز تهرب ضريبي وفق تصنيف صندوق النقد لعام 2018)، وهذا الفرع لديه أصول مالية بقيمة 153 مليون دولار مقابل صفر موظفين!
والأمثلة كثيرة في سويسرا وهولندا ولوكسمبورغ وجزر برمودا وقبرص وإيرلندا وسنغافورة وهونغ كونغ وغيرها من الدول والسلطات التي توصف بعضها بأنها واحة ديمقراطية استثنائية، أو أنها نموذج برّاق للنمو الاقتصادي النيوليبرالي، بينما تعبّر واحات الفساد الدولي هذه عن طبيعة ونشاط القطاع المالي العالمي.
تتراوح تقديرات الأموال المتهربة ضريبية عالمياً بين 7,6 تريليون دولار وصولاً إلى 21-32 تريليون دولار في 2012... أي ضعف ناتج الولايات المتحدة في حينه.
إن التهرب الضريبي واحد من الموارد المالية الهامة للدول التي تجنيها بشكل غير شرعي الشركات الكبرى، وبتقدير لعام 2012 فإن الضريبة المستحقة على الأموال المهربة تقارب سنوياً 189-288 مليار دولار، والرقم في الدول النامية يقارب 66-84 مليار دولار سنوياً...
تخسر الدول خسارات سنوية بمليارات الدولارات عبر التهرب الضريبي فقط الذي يتيحه فساد الشركات العالمية الكبرى ومنظومة القطاع المالي العالمي، وبالمقابل تلتزم هذه الدول في ظل ديونها على القطاع المالي العالمي بسياسات تقشف ونظم إقراض جائرة ترفع السخط الاجتماعي إلى مستويات غير مسبوقة...
يطوف عبر العالم قرابة تريليون دولار أموالاً غير شرعية يُقدّر أن ثلثها مال إجرامي وبما يتجاوز 500 مليار دولار سنوياً! كما أن تريليونات الدولارات من الأرباح تهّرب من المستحقات الضريبية، وكل هذا يجري في غطاء النيوليبرالية التي تسوِّق لحرية حركة الأموال والسرِّية المصرفية، في أكثر مراحل المنظومة الرأسمالية تعسفاً وفساداً حيث القطاع المالي خارج سلطة الدول والقوانين والشعوب، فاسحاً المجال لتغطية أشكال النهب والإجرام العالمي.
فلاشة: 12 تريليون دولار من أصول البنوك العالمية في المراكز المالية الخارجية التي تتيح السرية المصرفية وحرية الحركة وعدم تعقب هذه الأموال!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 940