مواجهة الدولار  من الأوهام إلى الدراما

مواجهة الدولار من الأوهام إلى الدراما

تعقيدات أوضاع النخب في أزمتهم، وارتفاع مستوى التوتر، واللحظة السياسية الحالية، تدفع إلى أشكال جديدة (لمواجهة ارتفاع الدولار)... فبعد أن كثر الحديث عن وهمية السعر، يتم اللجوء اليوم إلى (دراما الشيراتون) حيث تصطف وجوه المال في مزاد من (أجل الليرة) ليُحْسِن كل منهم على الاقتصاد الوطني بما استطاع. فيبدأ (أتخن الوجوه) بـ 10 ملايين دولار، وتدور الأحاديث عن إمكانية جمع ما قد يصل لـ 500 مليون دولار.

ولكن السؤال الفعلي، ما الأثر الاقتصادي لـ (صندوق الندم وتكفير الذنوب) هذا، وهل من جديد؟
سعر الدولار في سورية مرتفع لأن الليرة ضعيفة، وضعف الليرة من ضعف الإنتاج الذي لا يسنده أي إجراء جدي حكومي، وفي إطار قوى المال الكبرى يوضع الإنتاج حالياً في مرتبة متدنية، حيث يمكن تحصيل أرباح سهلة كبيرة وسريعة من المضاربة والاستيراد الاحتكاري والتهريب والقطاع الأسود والإتاوات وغيرها... ومجمل نشاط هذه القطاعات يُضعف الطلب على الليرة، وينعش الطلب على الدولار.

حقنة ضخ دولار.. حل جديد!

يمكن القول إن هذا الحل الدرامي، يندرج اقتصادياً في إطار حقنة تخفيض الطلب على الدولار، وزيادة عرضه مؤقتاً، مما قد يقلل سعر صرفه الذي ارتفع ويرتفع لأسباب اقتصادية وسياسية عميقة ممتدة منذ نهاية العام الماضي. وهذا الإجراء قد يخفّض سعر السوق خلال أسبوع إلى حدود يمكن أن تعود إلى مستويات السوق الموازية في بداية العام، أي قرابة 550 ليرة مقابل الدولار كما يقال، ولكن السؤال: هل سيعني هذا إزالة أسباب ومحفّزات الارتفاع؟
بالطبع لا... فالأسعار تحركها قوانين اقتصادية، وليس عمليات من هذا النوع، وحقنات ضخ. والجميع يتذكر كم (أجهد نفسه) المصرف المركزي في السنوات الخمس الأولى للأزمة، وهو يحقن السوق بالدولار بينما يستمر سعره بالارتفاع.
فعملياً، هذه الحركة قد تخفض سعر الدولار، وتُخسّر هؤلاء 40 مليار ليرة تقريباً بين دولاراتهم بسعر 630، وبسعر 550 مثلاً... ولكن هذه الـ 40 مليار ليرة يمكن استعادتها بإعادة رفع سعر الدولار مرة أخرى!
الطلب على الدولار سيستمر بالارتفاع، طالما أن نشاطات الأعمال الأساسية هي ما ذكرناه سابقاً، والأهم أنه حتى لو انخفض سعر الدولار، فإن قيمة الليرة لن ترتفع. لأن قيمة الليرة، أي قدرتها الشرائية تحددها عوامل موضوعية ترتبط بعوامل محددة: توسع الإنتاج المحلي، كتلة الليرة الموجودة، وسرعة حركة الأموال ودورانها في السوق. والعمل على هذه العوامل هو فقط ما يرفع قيمة الليرة، وبالتالي يُخفّض الأسعار، وهذا الأهم.

تحويل الليرة المتكدسة إلى استثمار

إن تحويل جزء هام من كتلة الليرات المتراكمة في السوق والتي قد تصل إلى 5-6 ترليونات ليرة إلى استثمار إنتاجي هي الطريقة الفعالة لزيادة قوة الليرة، وهذا يعيقه نوعية الأعمال السائدة في الاقتصاد السوري، والتي ينشط بها (رجال أعمال الشيراتون)، ومن هم أكثر نفوذاً وقدرة مالية منهم.
إن إدخال 1700 مليار ليرة للاستثمار الفعلي، كفيل بتحقيق ناتج إضافي إجمالي يقارب 400 مليار ليرة إذا ما كانت فعالية الاستثمار لا تتعدى 20%، وهي قد تكون أعلى من هذا في ظروف استثمار ما بعد الدمار...
حيث إن استثماراً قليلاً لإزالة الألغام من المراعي وتحسين الأنواع الحيوانية وزيادة إنتاج الأعلاف والأدوية، وتقليص كلف النقل، كفيل باستعادة نمو الثروة الحيوانية، والتي فقط بتأمين ظروف استقرار نسبي في مناطق تربيتها نمت بنسب جيدة. فحمص مثلاً استعادت خلال عام واحد أكثر من 500 ألف رأس غنم، وما يقارب نصف خسارتها خلال سنوات الأزمة ككل وفق تقديرات بعثة الأمم المتحدة للزراعة والغذاء في سورية. وتوسيع مساحات الأراضي المزروعة وتوسيع إنتاج وتوزيع بذار الحبوب يحقق ناتجاً زراعياً إضافياً، حيث قيمة إنتاج الحبوب فقط في سورية قاربت 880 مليون دولار في 2018                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ضمن المعطيات الحالية التي تعتمد على جهد المزارعين والأمطار بشكل أساس!
كما أن توسيع الاستثمار في الصناعة العامة التي لا تموّل عملياً باستثمار إضافي إلا ما ندر، يستطيع أن يحقق عوائد صافية تزيد عن عشرات المليارات التي تحققها الآن من تشغيل البنية القديمة الموجودة... أما الصناعة الخاصة، فإن لها مطالبها ومحدداتها الواضحة لتتكفل بتحريك نشاطها الاقتصادي، إن يتم إقراضها إنتاجياً وحل مسألة القروض المتعثرة تحديداً للمنتجين، وأن يتم تقييد المستوردات على أساس أولويات الصناعة المحلية، وأن يتم تحريك الطلب المحلي، والسعي لفتح الطرق وتفعيل علاقات التصدير مع الدول المستعدة لتجاوز العقوبات، وجملة توصيات شملها مثلاً المؤتمر الصناعي الثالث الذي انعقد في 11-2018.

 

إن توقف ارتفاع الدولار بشكل حاسم يرتبط بزيادة قيمة الليرة، وهذا بدوره ليس (اختراع ذرة) كما يُقال، فالخسارات الكبرى هي في الزراعة والصناعة، والثروة الفعلية تولد هناك. وكلا القطاعين يحتاج إلى ضخ استثماري فعّال، عبر بنية مؤسساتية لا تزال موجودة في جهاز الدولة، وممكن تفعيلها. ولكن المشكلة أن من يملك حل المشكلة الاقتصادية لا يريد حلها حلاً فعلياً، بل يريد إدارة الأزمة بكثيرٍ من الضجة والدراما والإيحاء بالحركة، ويفضّل ألّا يحدث أي تغيير جدي لأنه سيضر بمصالح (بزنس الفساد).

معلومات إضافية

العدد رقم:
933
آخر تعديل على الإثنين, 30 أيلول/سبتمبر 2019 14:45