لماذا يلجؤون؟! موجة لجوء ثانية... أم عودة!

لماذا يلجؤون؟! موجة لجوء ثانية... أم عودة!

انخفضت وتيرة اللجوء السوري خلال العامين الماضين، مقارنة بما سبقهما... ولكن أسباب ودوافع اللجوء الأساسية والعميقة، تتجدد اليوم. لتجعل السؤال حول عودة اللاجئين أم موجة جديدة من الخروج، سؤالاً مطروحاً. جوابه العميق في إزالة دوافع اللجوء..

«في عالم اليوم: يضطر شخص لمغادرة مسكنه عنوة كل ثانية!» هذا ما تقوله منظمة UNHCR، ازدياد اللجوء ليس ظاهرة سورية فقط، بل عالمية، حيث وصل عدد اللاجئين إلى 22،5 مليون شخص عبر العالم في 2016، وهو رقم لم يسجل سابقاً...

البحث عن البقاء والثروة المنهوبة

يستهدف لاجئو العالم تاريخياً، دول المركز العالمي، أو دول الشمال الغني... حيث تضم الولايات المتحدة، ثم ألمانيا أعلى أعداد اللاجئين عبر العالم. ولكن اللجوء الذي كانت تفتح أبوابه بانتقائية، أصبح ظاهرة تفرض نفسها على دول المركز، ليدبّ الخلاف بين أطراف سلطتها، حول إمكانية استقبالهم من عدمها، حول فائدتهم أو عبئهم. وتميل الكفّة مع تعمّق الأزمة العالمية، للأطراف التي تحمّل اللاجئين وزر الأزمات الاقتصادية الداخلية، وتحوّلهم إلى أداة تحريضية لتقسيم المجتمعات الغربية إلى: أصليين ولاجئين.
فلماذا يتوافد الملايين عبر العالم، ليجوبوا البحر، ويصلوا إلى البر الغريب المتعالي، الذي في أحسن الأحوال يشفق عليهم، فيأويهم مؤقتاً لحين دخولهم سوق العمل الغربية.
الإجابة العميقة، بسيطة وواضحة... فعندما تشمل الظاهرة الملايين من الأشخاص المستعدين لتحمل الموت مقابل هدف الوصول، فإن هذا يعني أن الدافع هو غريزة البقاء، السعي نحو حياة أفضل، بل نحو حياة... إلى حيث تتوفر ظروف تأمين الحد الأدنى الضروري للاستمرار، حيث تمتلك حق العمل على الأقل، وتحصل بالمقابل على ثمن لقوة عملك يؤمن استمرارك واستمرار من تعيلهم. هذا الشرط غير المتوفر للجميع في أغلب دول الجنوب العالمي، أو ما يسمى الدول قليلة الدخل، وهو متوفر لهم في الغرب كلاجئين، حيث تضطر المنظومة الغربية للاستفادة ممن فرضوا أنفسهم عليها، فتعطيهم مقابل فرص الأعمال الدنيا، أجوراً تناسب مستوى معيشة بالحد الأدنى الضروري لاستمرار لاجئ في بلد غريب.
المعادلة بسيطة، فالفقراء يتحركون نحو الأماكن التي يرون فيها تكدس الثروة، ساعين كي ينالوا عملاً وحصة من التوزيع، وقد اشتدت هذه العملية منذ منتصف الثمانينات، مع النيوليبرالية الاقتصادية. لقد فُرضت «الحرية الرأسمالية النيوليبرالية» على الجميع، ولكن بشكل انتقائي... فهذه الحرية، هي حرية الحركة العالمية لرؤوس الأموال، التي ينبغي للجنوب العالمي أن يفتح الأبواب لها، لتدخل وتخرج كيفما تشاء، فتدخل وتشفط، وتنقل أرباحها، نتاج عملنا إلى المركز. وهي حرية انتقال البضائع عبر العالم، لتنتقل «بضائعنا الأولية» رخيصة الثمن لهم، وتنتقل «بضائعهم المصنعة» غالية الثمن لنا، محطّمة بطريقها تصنيع بضائعنا المحلية التي لا أمل لها في المنافسة. ولكن العنصر الوحيد الذي مُنعت حرية انتقاله منعاً باتاً، هو قوة العمل. حيث لا يمكن للأفراد من مواطني العالم الثالث حصراً، أن يتحركوا بحرية ليعملوا أينما يريدون...
بل تتم العملية بانتقائية مدروسة وصارمة، وبفلتر دقيق، يسحب المؤهلات العالية من دول الجنوب، ويوظّفها في دول الشمال، أما السواد الأعظم فهو محاصر في العالم الفقير، ليقوم رأس المال المتحرك بحرية، باستغلاله بكفاءة أعلى في دول الجنوب.
ولكن هذا الحصار المطبق لا يفلح في مواجهة غريزة البقاء التي تدفع الملايين من اليائسين، بالمغامرة للوصول إلى «الشمال الغني»، حيث رست الثروات المنهوبة من الجنوب.
لجأ إلى أوروبا 26 مليون شخص بين 1960-2009، ولكن نسبة 57% منهم لجأوا بعد عام 2000، عندما اشتدت النيوليبرالية، أي: الاستباحة الاقتصادية، التي يليها حكماً العنف والفوضى وحتى الاستباحة العسكرية.
فأوروبا الشرقية التي غزتها النيوليبرالية في التسعينيات، ومن ثم الفوضى في حروب البلقان، أدت إلى ارتفاع عدد اللاجئين إلى أوروبا الغربية من 11 ألف سنوياً في 1985، وصولاً إلى ذروة نصف مليون لاجئ سنوياً، في منتصف التسعينات.
أما في عقد الألفية، وبعد انتشار النيوليبرالية جنوباً، فإن موجات الهجرة الإفريقية والعربية والآسيوية كما من أفغانستان، توسعت مع جملة الاضطرابات والفوضى والحروب المرتبطة عميقاً بالعنف الاقتصادي. وانتقل عدد طالبي اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي ليصل إلى ذروة 1،2 مليون لاجئ في 2015-2016.

ولكنها في الظرف الاقتصادي الحالي في دول المركز، تنذر بتحويل اللاجئين إلى حطبٍ في وقود الأزمة الاجتماعية والسياسية في العالم المريض بضعف النمو والكساد والتوتر، والذي تطرق الأزمة أبوابه.

السوريون أيضاً يسعون للبقاء

قد يكون السوريون من أقل اللاجئين العالميين سعياً للوصول إلى أوروبا، بالقياس إلى الأعداد الكبيرة التي خرجت من البلاد، فمن أصل 6،6 مليون، فإن مليوناً منهم وصل أوروبا. أما الدوافع فهي أيضاً مشابهة، فالسوريون عانوا من سنوات تعمّق الليبرالية الاقتصادية، التي انفجرت في أزمتنا السياسية والاجتماعية العميقة، والتي كان إحدى نتائجها الكارثية خروج الملايين من البلاد.
وبينما تراجعت وتيرة لجوء السوريين مع انحسار المعارك العسكرية في العامين الماضيين، فإن المستوى الجديد من العنف الاقتصادي الذي يجري حالياً ينبئ بموجة خروج وليس عودة! فتشديد العقوبات الاقتصادية الغربية، وملاقاتها بإجراءات ليبرالية محلية عنيفة، جوهرها تسليم مهام جهاز الدولة لأصحاب النفوذ مباشرة وليس بالوكالة! وعدم قدرة البنية السياسية الحالية على اجتراح أي حل لكل المشاكل الاقتصادية- الاجتماعية الكبرى التي لا حصر لها. كل هذا ينبئ بالانتقال إلى مستوى أعلى من الأزمة السياسية، وبتعمق أسباب الهجرة واللجوء.
إن سورية في 2019 على مفترق طرقٍ حادٍّ، وتدخل إلى مستوى جديد من الأزمة السياسية، التي ستنتج حكماً من عدم قدرة البنية الحالية على إدارة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المتعمقة. والمفترق سيقودنا إمّا إلى خلق بنية جديدة تسمح للبلاد ولمن تبقى بداخلها بالاستمرار، وتفتح الباب لملايين السوريين بالعودة، أو سيقودنا في حال عدم تغيير البنية السياسية إلى المحافظة عليها، ولكن مقابل تهديد استمرار البلاد، وربما موجة مليونية جديدة.

إن أزمة اللاجئين السوريين والخوف الأوروبي والإقليمي من تدفق المزيد من «بائسي سورية»، والحاجة لإعادة الملايين الآخرين الموجودين خارجها حالياً، هي واحدة من العوامل السياسية التي تلعب دوراً في الضغط الإقليمي والدولي لحل الأزمة... حلاً لا يمكن أن يكون إلا بتغيير شامل وجذري للبنية السياسية يسمح للناس بالدفاع عن بلادهم، من خطر المصير المنتظر، إذا ما استمرت هيمنة نخب المال والفساد، الطريق الوحيد الذي يتيح فتح أفق بناء مستقبل للسوريين داخل بلادهم، ليبقوا فيها، ويعودوا إليها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
908
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2019 13:41