معركة مع الوقت وهم «السعادة الرأسمالية» يزول
منذ انتقال البشرية من عصور مشاعيتها الأولى حيث الملكية الجماعية، إلى مراحل مجتمع الاستغلال القائم على الملكية الخاصة، كان الوقت الضروري للتغيير والانتقال من طور لآخر يتسارع...
استمرت العبودية آلافاً من السنين، ولكن الإقطاع عاش بعدها قرابة ألف عام من القرن الخامس الميلادي، وحتى القرن الخامس عشر، بينما يقارب عمر الرأسمالية الآن حوالي 400 عام فقط.
من الناحية الزمنية الصرفة فإن كل تشكيلة عاشت مرحلة زمنية أقصر من سابقتها، ويرتبط هذا التسارع التاريخي، بمستوى التطور الذي تخلقه كل منظومة عن سابقتها، وما ينتج عنه من حدة التناقضات، واختمار ظروف حلها والوصول للتغيير الثوري.
رُبع عُمر الرأسمالية مأزوم
هذا التسارع يمكن أن توجد ملامحه أيضاً داخل كل تشكيلة، وانتقالها من مرحلة الصعود إلى الهبوط التاريخي... فالرأسمالية دخلت في طور أزمتها بوقت أقصر قياساً بالإقطاعية.
فمنذ ظهور الإنتاج الحرفي البسيط المؤسس للعلاقات الرأسمالية في القرن الخامس عشر، وحتى أواخر القرن التاسع عشر، يمكن القول: إن الرأسمالية عاشت مرحلة صعودها. ولكنها مع مطلع القرن العشرين دخلت عصر أزمتها، مترافقاً هذا مع استتباب المرحلة الإمبريالية التي أعلنها لينين عصر الانتقال إلى الإشتراكية. وهكذا تكون الرأسمالية لحد الآن قد عاشت في طور أزمتها أكثر من رُبع عُمرها.
«الحُلُم الفردي الأسطوري»
إن صراع الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية هو لكسب الوقت، والبحث عن أدوات تسمح باستدامة عُمر النظام الطبقي، في مواجهة أزمته العامة المتعمقة. وهذا يطبع بطابعه الممارسة السياسية والإيديولوجية للرأسمالية، إما بالتسويف في الحلول وإطالة عمر الأزمات كما كان طِوال العقود الماضية ولا زال، أو عبر مجمل الأذرع الثقافية والاجتماعية التي تطيل من عُمر الأوهام في أذهان القوى المقهورة.
إن واحدة من أهم أدوات كسب الوقت، هي خلق الوهم لدى الطبقة العاملة، وهم برنامج الحياة الليبرالي المرسوم للفرد، الذي يسمح بالمهادنة مع نمط الحياة القاسي، وتجنب الأسئلة الجدية والكبرى حوله. لأنه الطريق الموضوعي لجملة الأحلام الآتية في المستقبل، والتي تشكلها جملة الصور التي تحمل في مضمونها معاني التحقق التي يسعى الفرد إليها، صور يسوقها مثلاً النموذج الهوليودي للزواج الأسطوري، أو الإنجاب الأسطوري، أو البيت الأسطوري، أو المهنة الناجحة الأسطورية.
وأبناء الطبقات العاملة في الغرب ممن عاشوا مرحلة الحُلم النيوليبرالي في عقود التوسع الرأسمالية المؤقتة في النصف الثاني للقرن العشرين، طال بهم الأمر حتى يدركوا عدم رضاهم الحياتي كون ما يحمله هذا البرنامج لا يستطيع أن يرضي الحاجات الفعلية للبشر، من عملٍ أو تأسيسٍ عائلة أو منزل أو مهنة، فقد لا ينجح الفرد في تحقيق أبسط هذه الأحلام، ولكنه ينخرط في السعي الحثيث إليها... وكسبت الإمبريالية وقتاً من خلال تأجيل التقييم الموضوعي لمعنى حياة الفرد ككل، بكل الأوهام المرحلية المسوّقة والمسوّفة. وحتى بأدوات أخرى يحملها مسمى «قتل الوقت» الذي يندرج تحته التوسيع الكبير في اقتصاد الترفيه، الممتدة من ألعاب الفيديو وحتى مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. فالوقت عدو يفترض عدم تعبئته إلّا بالوهم والعمل المضني، بما يمنع الوقفة الجدية والسؤال: عن الحاجة الفعلية لكل هذا الجري الحثيث، والمسبب الفعلي لهذا العبث اللاهث.
تأجيل السؤال عن معنى الوجود
إن نظريات عدة في علم النفس قدمت تصوراً حول الأهداف الكبرى والأهداف المرحلية، حيث تكون الأهداف الكبرى هي أساس حلقات (دورات) حياتية، يجري الوعي بها تقييماً عن مدى الرضى أو عدمه، بينما تكون الأهداف الصغرى المرحلية هي أساس حلقات تقييمية حياتية أخرى أصغر. وإذا ما أسقطنا نموذج رسم الأهداف الكبرى والصغرى وحلقاتها على النموذج الليبرالي لكسب الوقت وإدامة السيطرة، فإن الأحلام المسوّقة ليبرالياً، والتي قد تتحقق مرحلياً، تُبقي الهدف الأكبر بعيداً وتمنع عملية التقييم الموضوعي لمعنى الحياة. ليبقى السؤال عن المعنى الفعلي لتحقيق الذات، ومعنى الوجود سؤالاً مسوّفاً، يفرض نفسه مع اقتراب النهاية.
وهو ما يمكن أن يرتبط بتفسير ظواهر الانهيار العقلي، أو الجسدي في مرحلة انتهاء الحياة العملية في المجتمع الرأسمالي، حيث يكتشف الفرد أن ما أضاع حياته عليه هو «هباء منثور»، أي: أن الحلقة التقييمية الكبرى تكتمل على حسابٍ غير رابح وغير مُرْضٍ. حتى لو كان ذلك الاكتشاف لا يتم في شكله الناضج والواضح. إلّا أنه ينعكس مرضاً أو خرفاً أو يأساً عند تكشّف مدى فراغ الحلم الذي لاحقه الفرد.
لا فسحة للأوهام الصغيرة
حدة أزمة الرأسمالية اليوم، لم تترك متسعاً لوهم الأهداف المرحلية، وبدأ انهيار الحلقات الصغرى المرحلية، مع غياب فرص العمل وفقدان إمكانية تأسيس أسرة أو منزل. ما يُعطل أداة أساسية لكسب الوقت، في معركة الإمبريالية مع المجتمع. ووضعت الأفراد في دورة ضمن الحلقة الكبرى والتي تحتاج إجابات أكبر من تلك المرحلية، ووطأتها على الفرد أكبر، وتصبح الأسئلة عن معنى الحياة حاضرة دائماً. ويزول وهم السعادة الرأسمالية، الذي اعتمدته لكسب الوقت في صراعها مع المجتمع الذي نضجت إمكانات أن يسأل ويفعل: ماذا بعد؟!