الليرة التركية نقطة ضعف وموضع صراع
أصبحت الليرة التركية في العام الحالي العملة الأكثر تراجعاً عالمياً بعد العملة الأرجنتينية... وتتقاذف الأطراف التركية الاتهامات لتظهر المسألة كصراع سياسي بين سطوة أردوغان، وبين مسعى البنك المركزي التركي للاستقلالية! ولكن كل المقدمات تقول: إن الليرة ستنخفض وتستمر بالانخفاض حتى تنعتق تركيا فعلياً من «القيد الغربي».
تتراجع قيمة الليرة التركية منذ بداية العام الحالي، حيث ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية بنسبة 22%. وفي قلب هذا التراجع يكمن الضغط التمويلي الغربي، ولكن هذا التراجع هو تراجع منطقي في ظروف تركيا.
أسباب موجبة لتراجع ليرة تركيا
يستمر الاقتصاد التركي وناتجه الإجمالي بالنمو منذ عام 2010، حيث كان ضمن اقتصاديات (الدول الصاعدة) التي تعافى نموها سريعاً بعد الأزمة المالية في عام 2011، عندما نمى بنسبة 11%! ولكن هذه السرعة في التوسع بدأت تخفت سريعاً، حتى أصبح النمو في عام 2016 قرابة 3,2% فقط.
يرتبط فقدان زخم النمو في تركيا بالعامل الأكثر تحريكاً لاقتصادها خلال العقود الأخيرة، وبعد الأزمة المالية تحديداً: وهو تدفق التمويل الخارجي، وتحديداً حصص الاستثمار الأجنبي المباشر عبر الديون.
يملك المستثمرون الأجانب نسبة 10% من العاصمة التركية، وتشكل مستحقات وأصول المستثمرين الأجانب في تركيا نسبة 15,5% من الناتج المحلي، وقد نتج هذا عن مرحلة طويلة من تدفق المال العالمي إلى البلاد، والذي بلغ ذروته عام 2007 بمقدار 22 مليار دولار، ثم بدأ يتراجع، وقد ازداد تسارع تراجعه منذ عامين، حيث انخفض بين 2016 والأشهر الأولى من العام الحالي بنسبة 19% تقريباً.
يأتي 81% من الاستثمار الأجنبي لتركيا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو يساهم مساهمة كبيرة في قطاعات المال والمصارف، ولكن أيضاً يساهم في قطاع التصنيع التركي بنسب متقاربة، ليلي هاذان القطاعان: قطاع النقل والتخزين.
تتشابك الديون التركية مع الاستثمار الأجنبي تبلغ نسبة 48% من الناتج الإجمالي، ولكن بالنسبة للقطاع الخاص التركي، فإن ديونه تبلغ 170% من ناتجه! أي: أنه ينتج عن طريق الديون، ويقترض الأموال من الخارج، بينما اقتراضه بالعملة المحلية لا يشكل إلا نسبة 5% من ديونه، بينما يقترض بنسبة 60% بالدولار، والباقي باليورو! لتعيش تركيا حالة «دولرة» لعملية التمويل الاستثماري لقطاع الأعمال.
وبناء على ما سبق، فإنه من الطبيعي أن ينقطع «موال» النمو التركي المعتمد على «قربة» التمويل الغربي، لأن الغرب يرفع اليوم تكاليف التمويل، برفع الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة... وهو بهذا يقطع التمويل عن شركات تركيا التي اعتادت عليه، ويقوم عملياً برفع تكاليف الديون السابقة، ويهدد نمو قطاع الأعمال التركي بالتراجع الاقتصادي، والفشل المالي. وكل ما سبق يحمل تأثيراته المباشرة على الليرة التركية، وعلى سعرها مقارنة بالدولار، ويدفعها نحو الانخفاض. وبطبيعة الحال على النمو الاقتصادي إجمالاً، وما ينتج عنه من اضطرابات اجتماعية.
أوجه الخلاف بين طرفي الصراع
الصراع الذي يظهر حالياً حول مسألة الليرة التركية، يقوده ظاهرياً طرفان، الأول هو: الرئيس التركي أردوغان، الذي يتوعد بعدم رفع أسعار الفائدة المحلية لمواجهة تراجع الليرة، إذ لا يعتبر هذا حلاً، ويتوعد أيضاً بسعي الحكومة لمزيد من التحكم بالسلطة النقدية، أي: سلطة إصدار النقد في المصرف المركزي بالدرجة الأولى.
وعلى الطرف الآخر يقف المدافعون عن البنك المركزي، وعن استقلاليته، متهمين أردوغان بإخافة المستثمرين، وبمنع المركزي من رفع أسعار الفائدة، ليحمّلوه مسؤولية كبيرة في تراجع (المصداقية) وتراجع قيمة الليرة التركية، ووراء هذه الأصوات جوقة من الإعلام والمختصين والمستشارين الغربيين.
ولكن هذا لا يعبر
عن الحقائق فعلاً...
حيث ينبغي أن لا تُقتطع الأمور من سياقها، بل ينبغي النظر إلى الضغوط الغربية على تركيا، كمحدد أساسي في انقلابات مواقف أردوغان بما يمثله خطابه من قوى وتوازنات اقتصادية في الداخل التركي.
فمنذ محاولة الانقلاب في تركيا وصولاً إلى اليوم، والغرب يشدد من ضغوطه على الأتراك... ويصل اليوم إلى استخدام أداة هيمنته المالية والنقدية على الجزء الأعظم من قطاع الأعمال التركية، وهو يلوّح بشكل مباشر، أو غير مباشر لتركيا، بسلاح العقوبات الاقتصادية التي يرفعها بوجه روسيا وإيران.
وفي المقابل فإن الغرب لم يعد يقدم فرصاً هامة، ولم يعد ينفخ في فقاعة الاقتصاد التركي، بل أصبح تمويله الكبير وقروضه عبئاً ومصدر توتر اقتصادي، وسياسي واجتماعي في تركيا القلقة.
ولذلك، فإنه يمكن تفسير إرادة أردوغان_ بما يمثله من مصالح وجهات أعمال تركية_ لتخفيض أسعار الفائدة على الإقراض محلياً، كمحاولة تعويض النقص الذي بدأ، ويستمر في التمويل الخارجي للاقتصاد، عبر زيادة التمويل المحلي. الأمر الذي يتطلب إبقاء التمويل المحلي منخفضاً، ويتطلب إبقاء أسعار الفائدة منخفضة. وتحديداً في ظل نقص الاحتياطي التركي عن متطلبات سداد الدين، والحاجة إلى سهولة في إصدار النقد. ولكن في المقابل، فإن هذا يضع ضغوطاً تضخميةً على الليرة التركية، لا يمكن حلها إلا في إطار توسع النمو الاقتصادي من مصادر أخرى، وتحديداً من الانفتاح اقتصادي على الفرص والمنافذ الموجودة في الشرق والإقليم.
الظروف تدفع تركيا بهذا الاتجاه، إلّا أن البنية الاقتصادية والسياسية المرتبطة عميقاً بالغرب، لن تجعل الأمور سهلة. ينبغي الانتباه إلى مؤشرات لمساعي تركيا لرفع درجة استقلاليتها الاقتصادية، فمثلاً: استعادت تركيا ذهبها الاحتياطي لتضعه في خزائنها، وأبدت التصريحات التركية مرات متكررة انفتاحاً للتعامل بالعملات المحلية، مع إيران ومع روسيا، وحالياً تسعى أطراف تركية_ قد يكون خطاب أردوغان تعبيراً عنها_ نحو مزيد من استقلالية المصرف المركزي عن الغرب، وخضوعه للمحددات التركية، وزيادة التمويل الاستثماري التركي بالعملة المحلية.
ولكن هذا الاتجاه لا يمكن أن يمر بسلاسة في الظروف التركية، بل عبر صراع... نتيجة الترابط العميق بين قطاع الأعمال والغرب وديونه، وارتباط تركيا تمويلاً وتجارة بأوروبا والولايات المتحدة. الضغط سيزداد في اللحظة الحالية على تركيا، وقبل الانتخابات تحديداً، والليرة لن تتوفر لها ظروف استقرار، طالما أن أزمة الديون قد تتقد، وتمويل الشركات يتوقف... على تركيا لتنقذ عملتها أن تفتح جدياً أبواب التمويل والتجارة الكامنة في الشرق، مع الصينيين والروس وضمن الإقليم. وهو ما سيحاول الغرب إعاقته بالضغط، ولكن كل الظروف تدفع باتجاهه طالما أن الغرب لم يعد يملك شيئاً إضافياً ليقدمه لتركيا إلا الاضطراب والفوضى.