التنين الصيني محكوم بمعركة مع (الربح الأقصى)
يتغير ميزان القوى الاقتصادي الدولي بتسارع كبير، ويغير معه منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية... وفي قلب هذا المشهد الانعطافي العالمي، تأخذ الصين دور البطولة؛ فالصين التي ضاعفت ناتجها الوطني قرابة 38 ضعفاً خلال قرابة أربعة عقود، تعي وقوفها أمام مفترق طرق، فهي لن تستطيع الاستمرار دون المساهمة الفاعلة في تغيير المنظومة العالمية.
أنتجت دول المركز الغربي (الولايات المتحدة- دول الاتحاد الأوروبي- اليابان) في ستينيات القرن الماضي ثلثي الناتج الإجمالي العالمي 66%، بينما بقية العالم أنتجت قرابة الثلث فقط 34%. أما في عام 2016 فإن هذه المعادلة انقلبت... وأصبح أقل من ثلث الثروة الجديدة، أي: القيمة المنتجة مجدداً، يُنتج في المركز الغربي بنسبة 32%، بينما ينتج الثلثان عبر العالم.
إذا ما أخذنا قطاعات إنتاج الثروة الحقيقية، أي: حيث يتفاعل العمل البشري مع أدوات العمل ومادته ليخلق بضاعة جديدة، فإن الصين هي المنتج الأكبر عالمياً...
فناتج الزراعة والصناعة والإنشاء والبنى التحتية والطاقة الصيني يقارب 19% من الناتج الحقيقي العالمي مقابل 12% للولايات المتحدة. أما إذا أخذنا قطاع التصنيع فقط، فالغلبة للصين أيضاً ولكن بفارق أقل 20% مقابل 18% لأمريكا.
ولكن الأهم من هذا وذاك، هو: السير الصيني الحثيث لتطوير القوى المنتجة، والتأثير على علاقات الإنتاج الرأسمالية في المرحلة الحالية من الإمبريالية.
الصين:
تطوير منظم للقوى المنتجة
يستخلص الماركسيون الصينيون من الخطط الخمسية الصينية منذ عام 2013 ما يسمونه المبادئ الثمانية... والمبدأ الأول:
«قيادة العلوم والتكنولوجيا للاستمرارية، وبشكل أدق استمرارية تطور القوى المنتجة، لأنها العامل الذي يؤدي إلى تحرير وتطوير القوى المنتجة، الأمر الذي يعتبر المهمة الأكبر للاشتراكية في مراحلها الأولى، والتي يتطلب تحقيقها مستوى محدداً من قاعدة تطور المواد والتكنولوجيا... والتركيز في الاقتصاد الصيني يجب أن ينصَبّ على العناصر الأساسية: قوى العمل، أدوات ومعدات العمل، ومواضيع العمل، ومنها تشتق عناصر ثلاثة محددة أكثر، وهي: العلوم والتكنولوجيا، الإدارة، والتعليم. ومن ضمنها، فإن العلوم والتكنولوجيا، هي العنصر الأثقل الذي يقود التغيير الذي يؤدي إلى تطورات في الإنتاج» وفق ما عبر عنه cheng enfu نائب إدارة مركز الاقتصاد السياسي الاشتراكي في جامعة شنغهاي، لعلوم الاقتصاد والمال.
تتحول الأهداف الصينية لتحقيق نقلة تكنولوجية هائلة إلى حقائق معترف بها. فالصين اليوم تقف في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث مستوى الإنفاق على البحث العلمي، ونسبته للناتج، وانتقلت حصتها العالمية من الصادرات الصناعية عالية التكنولوجيا من نسبة 3% عام 2000، إلى 18% في 2015، بينما تراجعت حصة الولايات المتحدة من 17% إلى 9%. وأخيراً، يمكن أن نشير إلى بيانات من قطاع تصنيع الروبوتات المعبّر عن درجة التكثيف الصناعي الرأسمالي، والذي تعتمده الـ UNDP كمؤشر، ليتبين: أن الصين ركبت أعلى عدد منها في 2015 بنسبة 27% من التركيب العالمي، وأن المخزون الصيني قد تضاعف بين 2010 و2015 أربع مرات تقريباً بنسبة 390% مقابل نمو 42% فقط في الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها.
أما على صعيد القوى البشرية، فإن الصين تخطو خطوات سريعة ولكن انطلاقاً من وضع معقد وصعب، فمعدلات الفقر الناجمة عن مرحلة الانفتاح النيوليبرالي الصينية، هي الهدف الصيني الأول في مجال رفع مستوى المعيشة. ووفق خطة مواجهة الفقر الشاملة منذ التسعينات فإن الصين انتشلت أكثر من 600 مليون مواطن من الفقر حتى عام 2015، وبقي أمامها تحد لحوالي 70 مليون من فقراء الريف، يفترض أن تنتهي عملية نقلهم خارج دائرة الفقر في عام 2020.
أما حصة الأجور من الناتج والتي خفضتها مرحلة الانفتاح من مستويات 50% إلى 37% حالياً، فإنها أيضاً واحدة من المبادئ الاقتصادية المعتمدة في الخطط، بهدف توسيعها، وتزداد الأجور الحقيقية بتسارع ملفت منذ الأزمة المالية العالمية، على عكس الاتجاه العالمي، وفي الغرب تحديداً.
حيث بلغ وسطي الأجر في الصين عام 2015 ضعف مستواه في عام 2009، وارتفع الاستهلاك النهائي للأسر في الصين بنسبة 2.1% من حصة مساهمته من الناتج، أي: بارتفاع بنسبة 119% خلال ست سنوات. كما أن تغيرات تجري على طبيعة القوى العاملة الصينية، ومستويات تعليمها ليصبح نصف الداخلين الجدد إلى سوق العمل من حملة الشهادات الجامعية.
إن استمرارية تطوير القوى المنتجة وفق محددين: توسيع الاستثمار في مجالات التكنولوجيا العالية، وتوسيع حصة الأجور من الناتج، يعني التحكم الدقيق بعملية توزيع الدخل والثروة... فإذا ما كان الدخل ينقسم بالمحصلة بين الأرباح والأجور، فإن الصين تريد أن تزيد حصة الأجور من جهة، وأن تزيد حصة التراكم الاستثماري النوعي الآتية من الأرباح من جهة ثانية، وتوسيع الأولى والثانية يعني حكماً: تقليص الحصة المتبقية من الربح، والعائدة لاستهلاك المالكين الخاصين لوسائل الإنتاج... وهو ما يعني: أن الصين تريد أن تنهي المرحلة التي كانت فيها «واحة» للاستثمار العالمي منخفض التكاليف، لأن نموذجها واتجاه سياساتها الاقتصادية، تزيد حكماً من ميل معدل الربح لديها نحو الانخفاض، وهو ما يحمل تأثيرات على معدل الربح العالمي، وهو يضع الصين أمام تحد مماثل بالاستعداد لتراجع الاستثمار الدولي في الصين، الأمر الذي بدأ منذ عام 2014، والذي استتبعه في عام 2017 تقييد كبير على حركة رؤوس الأموال من الصين إلى العالم.
تقف الصين أمام استحقاقات كبرى لاستكمال نموذجها، وضمان استمرار تطوير قواها المنتجة تحتم عليها: تخفيض حصة الأرباح الخاصة، ومنع انتقال الموارد إلى الخارج، وزيادة تنظيم الموارد وتوجيهها إلى الاستثمارات عالية التكنولوجيا، وهو ما يتطلب توسيع دور الدولة وملكيتها، الذي حافظت الصين عليه رغم سنوات الانفتاح الليبرالي، ما أعطاها موقعاً تفاوضياً أعلى.
وما سبق من ضرورات لا يعني فقط أنه على الصين أن تنظم وتضبط توزيع الثروة والدخل في الاقتصاد الصيني، بل أن تضمن أيضاً تقليص عوائد المركز الغربي، من الثروة المنتجة داخل الصين... أي: مواجهة كل آليات العلاقات الاقتصادية الدولية التي تساهم بهذه العملية، أي: آليات التبادل اللامتكافئ بين المركز الإمبريالي والأطراف العالمية، التي تعتبر الصين خاضعة لها كواحدة من الدول الموجودة خارج المركز الغربي والخاضعة لاستغلال علاقات إنتاجه خلال عقود الانفتاح وحتى الآن...
الهجوم على علاقات
التبادل اللامتكافئ
انتقلت الصين من الدفاع إلى الهجوم، في إطار العلاقات الاقتصادية الدولية... أدارت الصين بشكل منظم تراجعها خلال المرحلة الذهبية للمركز الغربي عقب الحرب العالمية الثانية، ومنذ الستينات مع ترسخ أدوات التبادل اللامتكافئ. وقد استطاعت الصين خلال مرحلة الانفتاح الليبرالي، أن تؤمن عناصر قوة وتماسك: أولها: الإبقاء على ملكية جهاز الدولة الواسعة، والثانية هي: عمليات الانفتاح التدريجية المنظمة والمقيّدة. ورغم أن القوى المنتجة الصينية، من قوى عاملة وموارد قد خضعت لمستويات استغلال عالية خلال هذه المرحلة، واندمجت في التقسيم الدولي للعمل إلى الحدود القصوى، لتتحول إلى مصنع التصدير العالمي، حيث توسع تصنيعها بالدرجة الأولى عبر الاستثمار والتمويل الدوليين، واتجه نحو الاستهلاك الغربي بالدرجة الأولى، وكانت كغيرها من دول أطراف العالم، محكومة بأدوات التبادل الدولي، وبحصة لمالكي الدولار العالمي من كل عملية تبادل صيني، وكان جزء هام من الفوائض المالية الصينية يتجه نحو الاستثمار في السوق المالية العالمية، وتحديداً في سندات الدولار.
إلا أنّ العاملين السابقين مضافاً إليهما الوزن القاري للصين... قد ساعداها على الوصول إلى المرحلة الحالية- مرحلة تجدد ظهور الأزمة العميقة للمنظومة الاقتصادية الرأسمالية، وللإمبريالية الغربية- بموقع متقدم، لتستطيع استكمال بل وتسريع عملية تطوير قواها المنتجة، وذلك ليس فقط بتسريع وتائر تطوير رأس مالها الثابت، وقواها البشرية، بل أيضاً بالانتقال إلى الهجوم على منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية التي تتيح عملية «شفط القيمة».
تلعب الصين دوراً بارزاً في تغيير معالم التجارة الدولية، والتمويل والاستثمار والمساعدات الدولية، وأخيراً المنظومة النقدية العالمية... وهذه الجوانب الثلاثة لا تنفصل عن بعضها البعض، وتشكل محاور أساسية في عمليات التبادل اللامتكافئ، وانتقال الثروة من الأطراف إلى المركز.
الصين اليوم هي الشريك التجاري الأكبر لـ 120 دولة عبر العالم، بينما الولايات المتحدة هي الشريك الأول لـ 70 دولة فقط، وتحول الصين إلى اللاعب التجاري الأهم، هو الأساس في تعميق التبادل بين دول جنوب_ جنوب، بما يعنيه هذا من تقليص حصة الأسد العائدة للمركز الغربي من التجارة الدولية.
أما في إطار المساعدات والتمويل والاستثمار، فبين 2004 و2013 ضاعفت الصين استثماراتها الخارجية 13,7 مرة، من 45 مليار دولار إلى 613 مليار دولار. والتمويل الاستثماري الخارجي في الدول النامية الذي يتم عبر البنكين الحكوميين الرئيسين: بنك التنمية الصيني CDB، وبنك الصين للصادرات والواردات ((China Exim، قد تجاوز منذ عام 2010 تمويل الولايات المتحدة.
مسألة كم الاستثمار، والمساعدات التنموية الصينية، في دول الأطراف عبر العالم، قد أصبحت محسومة لمصلحة الصين. ولكن الأهم هو النوع، والنموذج.
فمن حيث النموذج تأتي مسألة عدم وجود شروط سوى السداد، والإقراض القائم على العلاقات والاتفاقيات المباشرة بين دولة_ دولة، إلى آليات الدفع القائمة في بعض الحالات على الدفع عبر تقديم السلع، وصولاً إلى تخفيض في نسبة رسوم المخاطر، التي يرى البعض أنها تقلل تكاليف التمويل الصينية عن الغربية بنسبة 30-50% من تكلفة القرض، وصولاً إلى المساعدات التنموية. أما من حيث نوع التمويل، فهنا تأتي النقلة النوعية حيث التركيز على القطاعات الحقيقية والبنى التحتية، فإذا أخذنا التمويل في أمريكا اللاتينية نموذجاً، فإن التمويل الموزع بين الصين والغرب، يتوزع بالشكل التالي: تمول الصين 66% من قطاعي الطاقة والصناعة، و88% من قطاع البنى التحتية، بينما نسبة 93% من تمويل قطاعات التجارة والمال ممول من الغرب.
تنتقل الصين إلى تثبيت هذه النقلة في العلاقات التجارية والاستثمارية التمويلية الدولية، إلى أطر منظمة، ومؤسسات جديدة... أبرزها مساهمتها بتشكيل مجموعة بريكس، ومن ثم مشروع (الحزام والطريق) لربط قارة آسيا بأوروبا وإفريقيا، إضافة إلى تشكيلها لبنك تمويل الاستثمار في البنى التحتية في آسيا AIB، كبنك تمويل دولي مفتوح للمساهمة العالمية. وفي كل تقدم لهذه الأطر والمشاريع، تراجع للمؤسسات الغربية القائمة بعد الحرب العالمية الثانية: وأهمها: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ولكن مجمل عمليات التجارة والتمويل الصينية السابقة، كانت تتم في كنف المنظومة النقدية الغربية، أي: عبر الدولار، وبالتالي، تحت هيمنة مالكيه وشبكة مؤسساتهم المالية والمصرفية العالمية: أي: بحصة لهم من تداول الدولار وما يرتبط به من أوراق مالية، وبإمكانية تهديد هذه العمليات بالتوقف أو التجميد.
وعلى هذا الأساس فإن هيمنة الدولار، أي: هيمنة النقد العالمي، وأدواته المصرفية والمالية هي واحدة من أهم العقبات أمام ترسيخ علاقات تبادل دولية أكثر عدالة، أي: أقل استغلالاً، وبالتالي أقل ربحاً. ولذلك فإن الصين كانت أول من أعلن عن مشاريع التبادل بالعملات المحلية، ومن ثم نجحت بفرض عملتها كعملة احتياطية دولية، ونجحت في توسيع التبادل بها، مع شركاء محددين... ولكن النقلة الأهم هي: فيما أعلنته الصين عن إطلاق عقود مستقبلية لشراء النفط، مسعّرة باليوان الصيني، القابل للمبادلة بالذهب. أي: أن الصين تسعى لتحويل حصتها من تجارة النفط العالمية أي: 17% من سوق النفط العالمية، إلى سوق مسّعرة باليوان، ما يعني اقتراب فك ارتباط الدولار بالنفط، ونهاية البترو دولار. الأمر الذي يعني الهجوم على عصب الهيمنة المالية الغربية، تلك التي تدرك أن الهجوم الصيني على (الملكية المطلقة للمال العالمي)، هو هجوم على نقطة المركز في تحقيق الربح الأقصى الإمبريالي.
الصين تغير وَقْع الاقتصاد العالمي وتأخذه إلى منعطف جديد، مفتوح الاحتمالات والآجال... ولكنه قائم على فكرة أساسية: أن الصين في سيرها للأمام محكومة بمواجهة علاقات الإنتاج الرأسمالية في الداخل الصيني، وعلى مستوى الاقتصاد الدولي. وهي في مسار تحقيق أيٍ من أهدافها حتى المحلية متوسطة المدى منها، محكومة بالتناقض مع قانون السعي نحو الربح الأقصى... وهو القانون الأساسي في تطور الرأسمالية.