هل تكون العقوبات الاقتصادية: «أمّ المعارك»؟
تتحول العقوبات الاقتصادية يوماً بعد آخر إلى واحدة من الأدوات الأكثر استخداماً في المعركة الدولية المتصاعدة، تحديداً بين الغرب وروسيا. والعقوبات التي يقودها الأمريكيون، لا تزال في بداياتها، فهم حتى اليوم ينتقون قطاعات وشخصيات وشركات روسية لتطبق عليها عقوبات جزئية، ولم تنتقل العقوبات بعد إلى مستويات واسعة وشاملة، فالمعركة لا زالت طويلة ولكنها من أصعب المعارك.
بإمكان الولايات المتحدة أن تتلاعب بقيمة الشركات الروسية الكبرى المدرجة في أسواق المال العالمية، كما حدث مع شركة روسال عملاق صناعة الألمنيوم التي خسرت 50% من قيمتها السوقية بعد إدراجها في العقوبات. كما أنه باستطاعة العقوبات أن تسرّع عملية هروب رؤوس الأموال خارج روسيا، وهو ما يحدث الآن ففي الشهرين الأوّلَيْن من 2018 تضاعفت الأموال الخارجة من روسيا لتصل إلى 9,8 مليار دولار بينما كانت في 2017: 4,4 مليار دولار خلال الفترة ذاتها. وهذه العملية باستمرارها وتصاعدها قد تؤدي إلى انهيارات متسارعة في قيمة العملة الروسية، التي خسرت قرابة 10% من قيمتها تقريباً منذ بداية موجة انخفاضها الحالية.
بل أكثر من ذلك بإمكان الغرب أن يجمّد بل وربما يصادر جزءاً من الاحتياطيات الروسية البالغة: 458 مليار دولار تقريباً. ويستطيع كذلك أن يعزل الاقتصاد الروسي عن جزء كبير من التعامل الخارجي بالدولار، إذا ما تم حجب روسيا عن منظومة سويفت للتبادل العالمي بين البنوك، أي: أن يعرقل جزءاً هاماً من وصول منتجاتها إلى السوق العالمية، ويعرقل شركاتها عن عقد صفقات دولية، وهي التي تشكل تجارتها الخارجية نسبة 37% من ناتجها الإجمالي.
العقوبات على روسيا ستسمر
العقوبات سلاح فعّال فعلاً، وهي قادرة على هزّ الاقتصاد الروسي، وإجراء تغييرات هامة تطال جوانب حساسة، مثل: العملة، ومستويات الأسعار، وإمكانات التمويل والتجارة الخارجية، وبالتالي تحمل تأثيرات على الناتج المحلي الإجمالي، والنمو الذي يتوقع الخبراء أن انخفاضه إلى الصفر ممكن، في حال استمرار وتيرة العقوبات.
حتى الآن يقول كبار المسؤولين الروس: إن روسيا تجهز نفسها لأسوأ الاحتمالات، ولكن بعض الاقتصاديين الروس يحذرون من خطورة هذه المعركة، ومن التباطؤ في أخذ الإجراءات الضرورية.
للولايات المتحدة أهداف من تدريج العقوبات على روسيا: حيث إن التدريج والتلويح يسمح بإطالة أمد الأزمات، ويفتح باباً للتفاوض، كما أن هذا النوع من العقوبات المحددة يهدف للضغط على النخب الروسية، وإجراء تصدعات في الحكم، وتشكيل وضع داخلي اقتصادي مضطرب، يجعل الأهداف الروسية التنموية الطموحة صعبة المنال، ويشكل أرضية متصاعدة من الاحتقان الاقتصادي الاجتماعي في الداخل الروسي.
أي: إن العقوبات عملياً تهدف إلى نقل الساحة الأولى للمعركة والمواجهة مع روسيا إلى داخلها، وإذا ما صعّد الغرب العقوبات دفعة واحدة، فإن ردود الأفعال الروسية ستكون «عنيفة»، ويصبح إغلاق كل الأبواب المفتوحة للغرب في الداخل الروسي ضرورة سريعة، وتزداد ضرورة تسريع بدائل التعاون المالي والنقدي البديل عن منظومة الغرب المالية المهيمنة، والتي تعتبر الأساس في قدرة العقوبات على التأثير... والغرب لا يريد للأمور أن تسير بسرعة، بل يريد إطالة أمد المعركة.
نتائج تجربة العقوبات الأولى
أجرى الغرب تجربة أولى في 2014، حيث كانت روسيا هي المستهدفة من أزمة النفط وتخفيض سعره للنصف، ثم عقوبات الاتحاد الأوروبي التجارية على روسيا عقب الأزمة الأوكرانية، وانخفض سعر الروبل، واضطربت الميزانية الروسية، ولكن هذا كان مؤقتاً... وأدت هذه العقوبات إلى سد بعض الثغرات المفتوحة في الاقتصاد الروسي منذ التسعينيات. فتحولت إلى حافز روسي للتركيز على قطاعات أخرى عدا النفط، فعاد القطاع الزراعي الروسي، والصادرات الروسية الزراعية إلى مستويات ما قبل التسعينيات. كما أبدى قطاع التصنيع غير الاستخراجي مرونة وتكيفاً مع الأزمة، فبعد أن تراجع نموه عام 2015 إلى -4%، عاد في عام 2016 لينمو بنسبة 1,1%، ثم لينمو في 2017 بنسبة 4,7%.
كما أن العقوبات الماضية سرعت إلى حد بعيد الخطوات الروسية تجاه آسيا، فأصبحت روسيا المصدّر الأول للنفط الخام إلى الصين، وتسارع تنفيذ مشاريع نقل الغاز السائل، ومد الأنابيب الضرورية له بين البلدين، ومؤخراً جرى نقل أول البواخر من غاز الأورال الروسي إلى الهند... ما يعني أن روسيا أعطت الإشارة إلى أن عزلها عن السوق الغربية، سيفتح لها سوق الطاقة الأكثر توسعاً في آسيا، عبر الصين أولاً والهند لاحقاً.
القطاعان المالي والنقدي هما الأخطر
العقوبات الماضية أدت إلى سد ثغرة في الاقتصاد الروسي، ولكن ثغرة كبرى لا تزال موجودة، وتحديداً في السياسات والسلطات النقدية والمالية، حيث توجد منطقياً أقوى الارتباطات والمصالح بين المنظومة المالية الغربية، والنخب الأوليغارشية الروسية صاحبة النفوذ.
ففي عام 2014 وعقب تراجع العملة الروسية، أجرى البنك المركزي الروسي خطوات تجاه تعويم العملة الروسية، أي: تركها لتحددها السوق رغم العقوبات. بالإضافة إلى أنه لم تتم أية إجراءات للحد من خروج رؤوس الأموال من روسيا، بل على العكس من ذلك يرى بعض الاقتصاديون الروس: أن بنك روسيا المركزي كان يساهم هو ذاته في إخراج الأموال، وذلك عبر مراكمة الاحتياطيات الدولية. حيث يتم إخراج رؤوس الأموال على شكل استثمارات في الأوراق المالية الأجنبية، مثل: استثمار المركزي الروسي في سندات الخزينة الأمريكية: 93,8 مليار دولار، أو ودائع لدى البنوك الأجنبية تبلغ 70,4 مليار دولار، وغيرها.
حيث يشير البعض إلى أن مجمل ما خرج من رؤوس أموال خارج روسيا في الأشهر الثلاثة الأولى من 2018 قارب: 32,7 مليار دولار، من بينها 19,3 مليار دولار خرجت عبر بنك روسيا كوودائع واستثمارات الاحتياطي الروسي في الخارج...
في المقابل، هنالك مؤشرات تدل على التحضير لتجاوز هذه الثغرات، فعلى سبيل المثال: بدأت روسيا بتخفيض ملكيتها من سندات الخزينة الأمريكية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، كما تعتبر روسيا من أكثر الدول توسيعاً لاحتياطيها من الذهب، والذي أصبح يشكل نسبة 19% من الاحتياطيات الروسية في بداية 2018 بينما كان يشكل نسبة 15,7% في العام الماضي. حيث تأتي روسيا في المرتبة السابعة عالمياً من حيث حجم احتياطي الذهب المركزي لديها.
هل يخرج «بنك روسيا» الأموال؟
رغم وجود هذه الإجراءات والاتجاه الروسي لتوسيع الاحتياطي الذهبي، إلّا أن هذا غير كافٍ، ووتيرته بطيئة بالقياس إلى الضرورات التي يراها بعض المحللين الروس، فعلى سبيل المثال: لا زالت الاحتياطيات الروسية بالدولار والجنيه الاسترليني تزداد لتشكل نسبة تزيد على نصف الاحتياطيات، وهذه مهددة بالعقوبات الأمريكية وبتدهور العلاقات مع بريطانيا، ويعتقد البعض: أن احتمال مصادرتها لا تجميدها فقط، يجب أن يوضع على الطاولة. كما أن الاحتياطيات الذهبية المتزايدة لا تزال تشكل نسبة قليلة من مجمل الاحتياطيات إذا ما قورنت بنسبة الذهب لاحتياطيات الدول الغربية، فمقابل 19% في روسيا، فإن نسبته في منطقة اليورو الوسطية 53,8% من الاحتياطيات، وفي الولايات المتحدة 74,5%.
وبينما تمتلك روسيا حوالي 1826 طناً من الذهب الاحتياطي، فإن الولايات المتحدة تمتلك 8133 طناً، رغم تشكيك البعض بهذه الكميات الأمريكية. ويشير الخبراء الروس، إلى أن عملية بيع الاحتياطي الروسي من سندات الخزينة الأمريكية وشراء الذهب، أو حتى تحويل مجمل احتياطيات الودائع الأجنبية الأخرى للذهب، قد يرفع الاحتياطي الروسي إلى أكثر من 7960 طناً. ويحمل تأثيرات كبرى على أسعار الذهب العالمية، وعلى أسعار الدولار، وعلى مفهوم النظام النقدي، والاحتياطي الدولي.
العقوبات الغربية، هي استخدام المعركة الاقتصادية التي تكشف كل الأوراق، والتي تفتح الأبواب على مصراعيها، والأهم: أنها تدفع روسيا لخيارين: إما المواجهة مع قوى الليبرالية والأوليغارشية والمال الداخلية لسد الثغرات، وإما خسارة المعركة. فإذا ما أدت العقوبات الأولى إلى استعادة قطاع الزراعة، ورفع مستوى التصنيع، فإن العقوبات الحالية يجب أن تقضي على الثغرات في القطاع المالي والنقدي الروسي... أو أنها ستكون نقطة لصالح الولايات المتحدة، وتطيل عمر الاضطراب الدولي الذي يقوده الغرب.