الفوضى الاقتصادية (الخلاقة)
يستكمل الرئيس الأمريكي ما بدأ به من تغيير في السياسة التجارية الأمريكية، وبعد رفع التعرفة على واردات الحديد والألمنيوم الأمريكية... أعلن ترامب أن سياسته التي تستهدف الصين أولاً، ستسعى إلى تخفيض العجز التجاري الأمريكي مع الصين بما يقارب 100 مليار دولار سنوياً.
الصين تؤكد أنها لا تريد حرباً تجارية، ولكنها تؤكد في الوقت ذاته بأن إجراءات من هذا النوع لن تمر دون رد...
ما يهدف إليه الرئيس الأمريكي ترامب، من تقليص العجز بمقدار 100 مليار دولار، يعني أن فائض الصادرات الصينية للولايات المتحدة عن وارداتها لها والبالغ: 365 مليار دولار في عام 2017، سينخفض بنسبة: 27%، وستكون الخسارات الصينية أكثر من الربع، بفعل التعرفات الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية، التي ستخفف من كمياتها. ولكن الوصول إلى هذا الحد غير مضمون، فالإجراء الأولي البدهي، أن الولايات المتحدة ستتلقى خسائر أيضاً من ردود الفعل الصينية الأولية...
تقول الصين، بأن الرد المبدئي سيكون عبر فرض رسوم جمركية على المستوردات الأمريكية للصين، مثل: فول الصويا ومنتجات أخرى... ومن الممكن أن تتحول هذه العملية في حال اندلاعها واستمرارها، إلى تقليص هام في التبادل التجاري بين أكبر اقتصادين عالميين، وأكبر محركين للطلب العالمي المتراجع أصلاً، لتكون لهذه الحرب التجارية آثار عالمية، فمن التعرفة إلى مزيد من تراجع التجارة والطلب العالميين، فتراجع الإنتاج وهلم جراً...
ولكن الأدوات التجارية ليست وسيلة الردود الصينية الوحيدة، حيث يتوقع الجميع بأن حرباً تجارية، وتغييرات في فوائض، وعجوزات التجارة العالمية لدى الدولتين، قد يعني تغييرات هامة في أسواق العملات، وتدفع الأمور إلى معارك في القطاع المالي العالمي المهدد.
وتظهر معالم هذا من المخاوف التي تبديها وسائل الإعلام والأسواق الأمريكية، تجاه حيازات الصين الهائلة من سندات الدين الأمريكية، والبالغة 1،17 تريليون دولار. حيث بينت آخر تقارير الفيدرالي الأمريكي، حول حركة السندات الأمريكية في الشهر الأول من العام الحالي، والمنشورة حديثاً يوم 13-3-2018، بأن الصين قلصت من حيازتها للسندات الأمريكية في هذا الشهر، حيث باعت ما قيمته 17 مليار دولار من السندات الأمريكية في شهر 1-2018، ويأتي هذا الإجراء مخالفاً لسلوكها خلال عام 2017، حيث زادت حيازتها للسندات بنسبة 13%.
والدولار الأمريكي الذي تراجعت قيمته بنسبة 8% خلال عام سابق، لن يميل إلى الارتفاع بالضرورة في ظل هذا النهج الحمائي، وبفعل ارتفاع أسعار الفائدة... فوضع الدولار لا يرتبط بالمحددات الأمريكية المحلية، بل يرتبط بالطلب العالمي إلى حد بعيد، والتراجع التجاري العالمي قد يؤثر على الدولار هبوطاً، ولكن عموماً فإن الاضطرابات والأزمات تؤثر إيجاباً وارتفاعاً على سعر الدولار، عبر اللجوء العالمي إلى سوق السندات الأمريكية، التي لا تزال تعتبر أكثر الأوراق المالية العالمية أماناً، وتحديداً مع الجاذب الجديد لرفع أسعار الفائدة.
وفي هذا الموضع تحديداً تستطيع الصين أن تضرب ضرباتها المؤلمة، عبر امتلاكها للحصة الأكبر من هذه السندات، وقدرتها بالتالي على التأثير على أسعارها، عبر بيعها، وبالتالي تأثيرها على سعر الدولار عالمياً... وهو واحد من أهم الأدوات التي تعطيها قوة تفاوضية في هذا الصراع، ولكن ليس دون خسائر. بل ربما بخسائر هامة على قيمة احتياطياتها.
بينما يبدو السلوك الأمريكي (أرعنَ) ومثيراً للفوضى، حيث يسمي ترامب إجراءاته علناً (الحرب التجارية)، فإن الردود الصينية تأتي هادئة وميالة نحو التأكيد على أن الحرب التجارية ستؤدي إلى خسارة للجميع. ولكن بعيداً عن ظواهر الأمور، فإن الهجوم الفعلي هو هجوم صيني على موقع الدولار العالمي، وعلى عالميته... ومحاولة لتحويل ميزان القوى الاقتصادي الجديد، ليعبر عن نفسه في النظام المالي العالمي، أي: خلق البدائل عن الدولار، وتجهيز اليوان أو غيره من المنظومات والأدوات، ليأخذ مساحته المطلوبة عالمياً. والسلوك الأمريكي اليوم هو محاولة حماية ما يمكن من منظومة الدولار العالمية، وتثبيت مواقعها، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا عبر الفوضى. فحرب تجارية، وحرب عملات، وفوضى مالية، بتوقيتات أمريكية، قد تؤدي إلى تأخير تقدم الآخرين، وتأخير تشكيل بدائلهم المالية والنقدية العالمية، ويعني تحرك المال العالمي مجدداً إلى المركز الدولاري، الدولار والهيمنة المالية كأداة الربح العالمية الأهم، لا تحميها سوى الفوضى، فإن لم تنجح الاضطرابات المالية والتجارية في تحقيق الهدف، فإن الوسائل العسكرية تبقى الخيار الأمثل بمفهوم الهيمنة الإمبريالي.