2017: استبدال الدولار أمر محسوم

2017: استبدال الدولار أمر محسوم

يعتبر عام 2017 علامة هامة ومنطلقاً للقادم في سياق الأزمة الاقتصادية الرأسمالية، ليس بسبب تعمق المسار نحو الركود الاقتصادي وأزمة الديون، أو بسبب تغيرات موازين القوى الاقتصادية العالمية، بل لأن إزاحة الدولار باعتباره العملة العالمية، أصبحت عنواناً عالمياً عريضاً، وبدأت بلورة البدائل والحلول...

الدولار ليس عملة عالمية فقط، بل هو الأداة المكثفة لمنظومة الهيمنة المالية العالمية، وبالتالي فإن الانقلاب عليه والبحث عن بدائل، هو ضرب للنخبة الغربية المهيمنة على الاقتصاد العالمي عبر إمساكها بعصب التداول: النقد العالمي.

ما الذي تعنيه إزاحة الدولار؟!
كانت الولايات المتحدة القوى الرأسمالية الصاعدة قبيل الحرب العالمية الثانية، تحتضن رؤوس الأموال الكبرى العاملة بين العالم القديم، في المراكز الأوروبية، والعالم الجديد على ضفة الأطلسي الأخرى. وقد ساهمت النخب المالية في حينها في تغذية الفاشية النازية، وإيقاد الحرب العالمية الثانية، لتخرج الولايات المتحدة ونخبها غانمة من الدمار الأوروبي الهائل، وتوجت انتصارها: بالدولار... حيث امتلكت القدرة على تحويل ورقتها الخضراء ذات التكلفة بالسنتات، إلى أداة نهب عالمية، تنتقل عبر أثير الاقتصاد العالمي، وتتحول ورقة السنتات إلى 100 دولار أمريكي، وإلى كل ما يمكن شراؤه بهذا السعر من منتجات وقيم عالمية، بمعدل ربح يقارب 70 ألفاً بالمئة. وتعززت هذه العملية بأدوات الاستعمار الحديث المالية والتجارية كلها: بمنظومة الإقراض والدين، ومنظومة التجارة غير المتكافئة بين شمال العالم وجنوبه، بين مركزه وأطرافه.
تحول الدولار والمنظومة المالية الغربية ومؤسساتها، إلى أداة شفط القيمة العالمية، فالعالم يزرع ويصنع ويعمل وينقل ويتبادل، والمركز المالي الغربي يستولي على حصة الأسد من هذا النشاط العالمي كله، ويتغول عبر تضخيم منظومة السلاح، لتكون أداة الهيمنة العسكرية التي تحمي منظومة النهب المالي العالمي، والتي تهدد أية دولة أو قوة عبر العالم بالدمار، في حال محاولة الخروج عن الدور المحدد في المنظومة الاقتصادية التي رسمها الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
الدولار ليس مجرد ورقة مالية عالمية، بل هو وما خلفه من مؤسسات مالية واقتصادية دولية، خلاصة الهيمنة الإمبريالية الغربية، وأداة نقل الثروة من الأطراف إلى المركز، بل وتحديداً إلى مالكي المال العالمي في المنظومة المالية المصرفية الغربية.
ولكن، بينما كانت هذه المنظومة تمتد وتهيمن خلال العقود الخمس الأخيرة، كانت تناقضاتها تتفاقم، حيث فقد المركز الغربي الكثير من رشاقته التكنولوجية والعلمية والإنتاجية، وأصبح معتمداً على عوائد منظومة المال، وعلى بطش السلاح، وتباطأ تطوره، ليصبح مستهلكاً هائلاً لمنتجات العالم التي تنتج في الأطراف...هناك حيث أخذت دول صاعدة كبرى تسارع للحاق، وتحقق قفزات إلى أن امتلكت القدرة في عام 2016 على إنتاج ثلثي الإنتاج العالمي، بينما كانت تنتج ثلثه فقط في الستينيات. وبدأت هذه الدول تتلمس طريقها بعيداً عن منظومة الهيمنة المالية الغربية، وردت الأخيرة، بإشهار سلاحها منذ عام 2001 معلنة موجة جديدة من الفوضى العالمية، لمنع الخروج عن منظومة الهيمنة، ولعرقلة تقدم الصاعدين. فماذا كانت النتيجة؟

نتيجة إشهار السلاح الغربي منذ 2001
النتيجة، يمكن تلمسها اليوم وفي عام 2017 تحديداً، فعوامل الهيمنة الرئيسة تصدعت، أي: المال ومؤسساته من جهة، والسلاح وتدميره من جهة أخرى. أداة الهيمنة المالية تهتز على يد الصينيين بالدرجة الأولى: فالصين، أصبحت تمتلك القدرة على إنشاء منظومة مؤسساتية بديلة: مالية تقوم بعمليات التمويل الدولية، ونقدية تحاول أن ترسخ أداة تمويل وتبادل بديلة عن الدولار.
قطعت الصين شوطاً بعيداً في هذا وذاك، ففي إطار التمويل تأتي بنوك تمويل التنمية الصينية، والبنوك المشتركة مع البريكس، وأخيراً، بنك تمويل البنى التحتية... وهذا كله ضمن إطار مشروع كبير: (حزام واحد... طريق واحد)، حيث ترتبط آسيا بأوروبا وإفريقيا. أما في الإطار النقدي، انتقلت الصين إلى الإطار العملي في هذا العام، بتوسيع تجارتها بالعملات المحلية، وزادت الدول التي تتاجر مع الصين باليوان وإن كان جزئياً. والأهم، هو: الخطوة الأخيرة، والضربة القاضية التي أعلنتها الصين في هذا العام وهي تجارة النفط باليوان القابل للمبادلة بالذهب. فعندما تتحول الصين إلى مستورد النفط العالمي الأول، مزيحة الولايات المتحدة من هذه الصدارة التاريخية، فإنها تستطيع أن تفك الارتباط العميق بين الدولار والنفط، هذا الارتباط الذي كان واحداً من أهم دعائم هيمنة الدولار عالمياً.
أما السلاح الغربي الذراع الآخر للهيمنة، فإنه لم يعد يستطيع حسم المعركة، وعاجز عن تدمير المتمردين الجدد على منظومة الغرب، لأن هذه القوى الصاعدة أصبحت لديها قوة ردع عسكرية موازية، بل وأسرع نمواً. وفي المقدمة، روسيا التي تحوّل قدراتها العسكرية، إلى أداة ردع عالمية لمشروع الفوضى، والتي تحولت في هذا العام إلى الراعي الدبلوماسي الأساس للأزمات السياسية الدولية، وإلى المحارب الأهم للإرهاب العالمي. والفاعل الأساس في مشروع سياسي عالمي يواجه مشروع الفوضى الغربي.
وعندما يتعمق التحالف الروسي الصيني اقتصادياً، وسياسياً وعسكرياً، وتتعمق الروابط الاقتصادية والسياسية بين هاتين القوتين، وبين قوى إقليمية أساسية في بؤرة التوتر العالمي (الشرق أوسطية): أي: إيران وتركيا بالدرجة الأولى، ثم مصر، وحتى السعودية، فإن قدرات نشر الفوضى والحرب تتضاءل، ويصبح خيار التدمير العسكري كطوق نجاة غربي خياراً ذا أفقٍ مسدود، بل وله مفعول عكسي يسرع مع كل فشل عسكري في إضعاف الهيمنة الغربية...

هل يستسلم الغرب؟!
المعسكر الغربي لم يطوِ مشروع الفوضى العسكرية، ويحاول بنشاط أن ينقل عدوى التوتر إلى كل بقعة عالمية هشة، ولكنه يعلم أن النشاط الاحتوائي للقوى الصاعدة، وبالتحديد التحالف الصيني الروسي، هو أكثر فاعلية اليوم... لذلك فإن الغرب ينقل تركيزه تدريجياً إلى هيمنة المال ليستثمرها قدر الإمكان، ويستعد بل ويحفّز الفوضى المالية العالمية.
تبدي مراكز الغرب المالية مستوى عالياً من التمركز، منذ اندلاع الأزمة المالية، حيث أوجدت منظومة مبادلة عملات ودين ربطت بعمق البنوك المركزية الغربية الست: الولايات المتحدة_ بريطانيا_ المركزي الأوروبي_ السويسري_ الياباني، ونشرت سموم دَيْنِها عبر الاقتصاد العالمي مستخدمة المال الرخيص ومعدلات الفائدة الصفرية، وانتقلت منذ مطلع العام الحالي إلى الرفع التدريجي لأسعار الفائدة، ما يعني أنها بدأت تستخدم سلاح المطالبة بالدَّين مرتفع التكلفة لمزيد من الهيمنة العالمية، ولإنعاش الطلب العالمي على الدولار لسداد الديون. وإضافة إلى هذا، فإن إيقاد أزمة الديون العالمية، أو التلويح بها، كفيل بفتح مجال مراجعة عالمية للمنظومة المالية السابقة، التي يجهز الغرب لاستبدالها قبل أن يستبدلها الآخرون. محاولاً توحيد قواه المالية الكبرى، وجعل المركز مركزياً أكثر، ويرصد الباحثون عبر العالم محاولة فرضه لعملة إلكترونية موحدة، ومؤسسة موحدة مركزية تبقي الهيمنة محكمة في الغرب على الأقل. وما العملات الإلكترونية الحالية إلا بالون اختبار، بينما العمل الجدي يجري بين البنوك المركزية الغربية الست.
الغرب، سيسعى لإيقاد أزمة مالية عالمية، وصياغة حلول غربية للخروج منها قوامها: مستوى أعلى من التمركز المالي في الغرب، وابتلاع ما يمكن ابتلاعه عبر سداد الدَّين العالمي... ولكن هذا الخيار بمثابة فتح بوابات جهنم، وهو يعني: أزمة اقتصادية عميقة، وأزمة سياسية واجتماعية في المراكز بالدرجة الأولى، والأهم: أنه قد يعني اندفاع الأطراف العالمية الأخرى للانعزال عن الغرب ومنظومته الاقتصادية والمالية بشكل كامل، وصياغة البديل بقوة الضرورة.