التوازن الصيني الصعب: الدولة/ السوق
ليلى نصر ليلى نصر

التوازن الصيني الصعب: الدولة/ السوق

يصوُغ الحزب الشيوعي الصيني منذ 1981 التناقض الأساسي في المجتمع الصيني، على أنه تناقض بين احتياجات الناس، وبنية الإنتاج الاجتماعي المحدودة. وهو ما وجد تفسيره في التركيز على تطوير بنية الإنتاج كماً، طوال مرحلة الانفتاح الصينية منذ نهاية السبعينيات، ولكن توصيف هذا التناقض قد اختلف في مؤتمر الحزب لعام 2017...

وصف الحزب الشيوعي الصيني التناقض الأساس في المجتمع الصيني، على أنه تناقض بين التنمية غير المتوازنة وغير الكافية، وبين احتياجات الناس المتزايدة من أجل حياة أفضل. حيث لم يعد ممكناً أن يصف الصينيون بنية إنتاجهم بأنها محدودة، ولكنهم يبقون بعين الاعتبار المهمات الكبرى القائمة: لتطوير التوازنات الصعبة في (الاقتصاد الاشتراكي الصيني).

أبرز الصعوبات التي تواجه الصين هي: التوازن بين ملكية الدولة، وخططها ودورها الاقتصادي، وبين الدور المحوري للسوق، ومصالح أثريائها.

شركات الدولة الصينية تحمي بعضها
تتجاهل الصين النصائح الليبرالية العالمية كلها التي لا تفتأ تؤكد على إصلاح شركات الدولة الصينية، عبر الخصخصة، بذريعة المديونية الكبيرة لهذه الشركات. وبالفعل ارتفعت ديون الشركات غير المالية المملوكة للدولة الصينية من 53% من قيمة أصولها في عام 2008، إلى 64% في 2016. كما أن أرباحها تتراجع بثبات في السنوات الأخيرة، بتراجع بنسبة 6.7% بين منتصف عامي 2015 و2016. ولكن رغم هذا فإن العنوان العريض لخطة الإصلاح المعلنة في عام 2015 كانت: (جعل الشركات أكبر وأقوى)، ورغم إتاحة التمويل من السوق إلا أن شعاراً آخر أساسياً تم تثبيته وهو: (المحافظة على وضع السيطرة المطلقة) على قرار الشركات وتوجهاتها. وتبين نماذج الإصلاح الصيني لشركات الدولة حتى الآن، أنها أبعد ما تكون عن الخصخصة، ففي واحدة من شراكات الدولة المتحكمة بسوق الملح في الصين، تم إصلاح الشركة عبر فتح باب الاستثمار الخارجي، وأبقت الشركة حصة 47%، وتمولت من أربع شركاء آخرين امتلكوا 47%: ثلاثة منهم شركات أخرى مملوكة للدولة في إقليم Jiangxi، والشركات الأربع مملوكة بنسبة 83% لوزارة المالية، أما الستة بالمئة الباقية فقد اشترتها إدارة شركة الملح ذاتها! يضاف إلى هذا أن مقترحات حول إصلاح الشركات، تضمنت إتاحة امتلاك عمال بعض شركات الدولة لأسهم في الشركة، بنسبة تصل إلى 30%. (US- CHINA economic and trade relations- Sean O’Connor).

تقييد الأثرياء وحركة أموالهم
وفي مقابل الدعم الثابت لشركات الدولة، فإن مؤشرات عدة تدل على سعي الصين لاحتواء أثريائها الجدد الكبار: حيث إن هؤلاء يوسعون منذ عام 2009 من نقل الأموال، والاستثمار في الغرب وتحديداً في الولايات المتحدة وأوروبا، لتبلغ حجم استحواذاتهم الغربية 250 مليار دولار في 2016 وحيث تربط السلطات الصينية بين هذه العملية، وبين الفساد الكبير، وحصول هؤلاء على الدين الحكومي، وما ينجم عنه من خلل كبير في ميزان المدفوعات الصيني، نتيجة هروب رؤوس الأموال، ويقدر البعض أن الصين قد خسرت نتيجة هذا أكثر من 1,3 تريليون دولار بين 2011 و 2016. وفي الرد على هذا، تتقاطع ثلاثة اتجاهات، الأولى هي: محاربة الفساد الكبير في جهاز الدولة والحزب، والثانية هي: إجراءات في 4_ 2017  عندما طلب المكتب السياسي للحزب تدقيق البيانات المالية لخمس شركات استثمارية خاصة كبرى، وتم عرقلة نقل أثرياء الصين لأموالهم إلى الخارج للاستحواذ على أصول أجنبية عبر العالم (قاسيون 817).
والأهم من هذا وذاك، تجميد تحرير حركة رؤوس الأموال، وتحديداً الحساب الرأسمالي، حيث أوقف بنك الشعب الصيني عمليات تحرير الحساب الرأسمالي، وعاد بضوابط الرقابة المالية إلى مستوى أزمة التسعينيات الآسيوية. (Yu Yongding- pro-synd- 2017).

أهداف استراتيجية  تحتاج لشركات دولة
من الطبيعي أن تتوجه الصين نحو تعزيز دور شركات الدولة، ومن الطبيعي أيضاً أن تنخفض معدلات الربح في هذه الشركات، وأن يتوسع تمويلها بالديون الحكومية. ولا يمكن قراءة مؤشرات هذه الشركات في السياق التقليدي لأداء السوق. فالصين تضع لاقتصادها مهام تخطيطية تتعدى هدف الربح الأقصى السريع، ما يستوجب تقييد الأثرياء، وتعزيز إنتاج الدولة الكبير.
تضع الصين استراتيجية انتقال كبير في بنيتها الصناعية، وهي تنقل نقطة التركيز في البنية الإنتاجية الاجتماعية، من مستوى مرتفع إلى مستوى أعلى بشكل منتظم خلال المراحل: فبينما كانت الصناعات الثقيلة الأساسية هي محور في عام 2006 متضمنة الآليات_ والسيارات_ والبناء_ والحديد والصلب والمعادن اللافلزية_ وتكنولوجيا المعلومات وغيرها. فإن مجمل الهدف لم يتحقق فقط، بل انتقل جزء كبير من هذه الصناعات إلى حالة (فرط القدرة الإنتاجية)، أي: إمكانية إنتاج أعلى من قدرات الطلب العالمي، وأصبحت تغير من مستويات أسعار هذه المنتجات عبر العالم باتجاه تخفيضها.
وقد انتقل التركيز في عام 2010 إلى: تكنولوجيا الطاقة النظيفة_ الجيل القادم من تكنولوجيا المعلومات_ التصنيع عالي التكنولوجيا_ المواد الجديدة- التكنولوجيا الحيوية. بينما منذ عام 2015 ارتفع مستوى التركيز لتضاف أولويات مثل: تكنولوجيا الفضاء_ الروبوتات_ وسائل النقل الجماعية_ والمعدات الزراعية المتطورة.
إن اقتصاداً يضع خططاً منظمة لنقلات نوعية وضمن آجال زمنية، ولديه 18% من القوى العاملة العالمية، كما الاقتصاد الصيني، لا يمكن أن يعتمد على آليات السوق! بل يحتاج لتجنب إخفاقات السوق، أن يضمن سير خططه المحورية، عبر الشركات الكبرى الممولة بسخاء، وغير الربحية، أي: شركات الدولة، ليدخل إلى قطاعات جديدة ويتحمل تكاليف الانتقال...

أمام مشاريع الصين وأهدافها التنموية تحديات كبرى ومترابطة، بدأت تفتح معركتها: أولاً: بالتناقض مع رؤوس الأموال الصينية وأثرياء الصين الجدد، المرتبطين بالغرب، وبالفساد الكبير خلال عقود الانفتاح. والتي تجد صداها مبدئياً في الإجراءات الاستثنائية ضد الفساد، وضد تهريب الأموال المنتجة في الصين للخارج. وثانياً: بالتناقض الأهم مع المركز المالي والمؤسساتي الغربي، أي: مع منظومة الدولار، ونهبها وعرقلتها وعنفها العالمي، الأمر الذي تصعّد الصين في مواجهته ليس بتوسيع دور اليوان فقط بل الأهم بالمشاريع التعاونية والمؤسساتية العملاقة في آسيا وعبر العالم، وكذلك بالسياسة العالمية والردع العسكري.
ولكن كلا التحديين لا يمكن مواجهتهما، دون الأساس المادي المتين والضاغط، القائم في التطوير المنظم والسريع للقوى المنتجة في الصين، وما يولده حتماً من دور عالمي لدولة قوية ومرنة ومنفتحة عالمياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
835