أيّة «حرية اقتصادية» نريد...

أيّة «حرية اقتصادية» نريد...

لا يختلف اثنان من العقلاء اقتصادياً على الأثر السلبي للانفتاح الاقتصادي السوري «الماراتوني» الذي بدأ منذ عام 2003 وأنجز مهمات تحرير التجارة كاملة في سورية، وفسح المجال «لمدفع البضائع» الرخيصة الإقليمية والدولية لتزيح منتجات الورش والمعامل المحلية، وذلك عندما انتعش برنامج الليبراليين في سورية المسوقين لفكرة «عدالة الحرية الاقتصادية».

أدت هذه العملية إلى انتقال في صفوف العديد من الصناعيين وأصحاب الورش نحو التجارة، أي: نحو تسويق منتجات منافسيهم الجدد الذين غزوا الأسواق، فتوسعت التجارة خلال عشر سنوات قبل الأزمة بوسطي سنوي 12%، بينما توسعت الصناعة بمجملها بوسطي سنوي 2.7% فقط. وتراجع التشغيل والنمو الحقيقي، وسُجلت كأرقام نمو مرابح قطاعات المال والتجارة والخدمات، التي يتغنى بها إلى اليوم من يريدون استعادة النموذج السابق، ويشكك بها جميع العارفين بأن سورية كانت تفقد ثروتها الحقيقية وقدرتها على توسيع هذه الثروة، أي: كان نموها الحقيقي يتراجع.

تكيّف صناعي مشوّه ومؤقت!
ولكن بعض قطاعات الصناعة التحويلية السورية البسيطة التي تنتج مادتها الأولية محلياً كالنسيجية والغذائية تكيّفت نسبياً مع الوضع الجديد، نتيجة ظروف معينة أمّنت تقليصاً كبيراً للتكاليف وزيادة بالقدرة التنافسية.
 وكانت أهم مصادر التكاليف المنخفضة هي الأجور المنخفضة بشكل استثنائي في الصناعة الخاصة والذي يدل عليه وسطي الأجور في الصناعة التحويلية الخاصة عام 2010 والبالغ: 7000 ليرة تقريباً، تليها تكاليف الوقود والطاقة المنخفضة نتيجة وجود الدعم الحكومي للمازوت رغم ارتفاعه نسبياً قبل الأزمة، وللكهرباء.
ويضاف إلى هذا وذاك إمكانية تخفيض تكاليف إضافية عبر التهرب الضريبي، والتهرب الكهربائي، والتهرب التأميني، حيث كان الصناعيون -وتحديداً في قطاعات وورش الظل التي شكلت نصف عدد المنشآت في حلب قبل الأزمة على سبيل المثال: 35 ألف من أصل 65 ألف تقريباً- قادرين على الاستفادة من رخاوة الفساد الكبير تجاه تحصيل المال العام في علاقات تخديم بين أطراف القوى الاقتصادية، فتقلصت الحصة المدفوعة للمال العام وازدادت الحصص والرشاوى لمال الفساد الخاص.
ولم يكن هذا ينطبق على الصناعة الخاصة فقط، بل على مجمل دخل الأرباح في القطاعات كافةً، حيث كانت تتزايد حصة الفساد الكبير المتحكم بجهاز الدولة، وتتراجع حصة المال العام.
وإن كانت طريقة التكيف المذكورة أتاحت لبعض الصناعات الاستمرار، إلا أنه كان من المستحيل أن تتيح لها التطور والتوسع، فطالما أن السوق مفتوحة للمنافسة الخارجية، فإن هذه الصناعات لا تستطيع أن تستمر بالمنافسة في تخفيض التكاليف على حساب العمال والمال العام بالشكل السابق فقط، بل كانت ستحتاج إلى مواكبة التطورات التكنولوجية التي تحتاج إلى نفقات كبيرة، والتي تحدث نقلات نوعية في كلف الإنتاج، فتجعل ساعات العمل المطلوبة لإنتاج البضاعة الصينية عُشر ساعات العمل المطلوبة لإنتاج الكم ذاته من البضاعة السورية على سبيل المثال.
ولكن هذه التقنيات وامتلاكها ومواكبتها لا تناسب الإنتاج الصناعي السوري الخاص الذي نسبته 65% من إنتاجه تأتي من الورش التي تضمن 9 عمال بالحد الأقصى، أو حتى معامل تعتمد على تكثيف اليد العاملة، فطالما أن الصناعة تعيش في بيئة هشة وبعائد منخفض ومعتمد على هذا النوع من خفض التكاليف، فإنها لم تكن قادرة على تحقيق نقلات استثمارية كبيرة، وبالتالي لا تستطيع الاستمرار في المنافسة العالمية.

هل الاستيراد بديل؟!
وقد كان البعض يقول: بأنه طالما أنّ الاستيراد أقل كلفة والصناعة المحلية لن تستطيع المنافسة بالمستوى المطلوب، فلماذا علينا أن نستمر بالصناعة بينما العولمة الاقتصادية تؤمن لنا بضاعة عالمية أرخص وما علينا سوى أن نتاجر؟!
قد يبدو السؤال محقاً، وهو تعبير عن القانون الذي يعمل في السوق الرأسمالية العالمية، حيث إن الحرية الاقتصادية والمنافسة غير العادلة بين القوي اقتصادياً وتكنولوجياً وبين الضعيف تؤدي حكماً لابتلاع الأول للثاني، ولا ينجو من هذا القانون من صناعات وإنتاج دول الأطراف الأضعف، (إلا كل طويل عُمْر).
ولكن خيار حرية رأس المال الاقتصادية، هو ذاته خيار التبعية الاقتصادية، أي: أن نختار رهن حاجاتنا حتى الأساسية منها للسوق العالمية، ورهن مواردنا لحاجاتها لنصدر القمح ونستورد الطحين والمعكرونة، ونصدر القطن ونستورد الأقمشة، ونصدر النفط الخام ونستورد المازوت والمنتجات البلاستيكية وغيرها، وهو اتجاه ينزع منا قرارنا الاقتصادي الوطني، والمسألة لا ترتبط «بالكرامة الاقتصادية» فقط بل ترتبط أيضاً بحسابات الربح والخسارة: فعندما نخسر إمكانية التحكم بمواردنا، فإننا عملياً نخسر العوائد والقيم المضافة وفرص التراكم الداخلي والتشغيل والنمو التي تتولد ذاتياً، ونحول موارد البلاد إلى خزانات لسمسرة التصدير برخص والاستيراد بغلاء، مع ارتهان حتى مرابح النخبة المتاجرة للخارج حيث يودعون أرباحهم المجمعة من «خيار الحرية الاقتصادية».
وبناء عليه: فإنه علينا أن نخرج من خيار انغلاق اقتصادي لصناعة لا تستطيع التطور إلا ببطء وضمن ألغام التشوه الاقتصادي، وأن نلغي خيار وقف الصناعة واستبدالها ببضاعة العالم الرخيصة، فلا انغلاق مطلق ولا انفتاح مطلق، ولكن بمحددات للخيارين.

خيارات أعلى بديلة
لا يستطيع خيار الانغلاق أو الانفتاح الاقتصادي إلا أن يكون مركّباً، فأنت بحاجة استيراد مستلزمات الصناعة المعقدة في قطاع إنتاج وسائل الإنتاج كالآلات والمعدات والتكنولوجيا العالية، بينما يجب أن تحمي للحد الأقصى كل إمكانات إنتاج وسائل الاستهلاك وترفع قدرتها التنافسية المحلية، وتحديداً في القطاعات التي تمتلك ميزات تنافسية وقدرات تكاملية كما في الصناعات الغذائية، والنسيجية وبعض الصناعات المعدنية والكيميائية، والتي يعتبر أضعف الإيمان أن تستكمل حلقاتها الإنتاجية، لتنتج صناعياً كل ما تستطيع إنتاجه من القمح، والقطن، والثروة الحيوانية، والثروة المعدنية والنفطية، وتراكم منه رأسمالياً للانتقال إلى عتبة إنتاج أعلى في قطاعات أعقد، أما قطع هذا الطريق بالاستيراد الرخيص، هو بتر لعتبة النمو والتراكم الحقيقي الضرورية والمتاحة، والتي تجعل الانفتاح أكثر أماناً.
فسورية كبلد بسوق داخلية صغيرة وإمكانيات مادية تبقى متواضعة بأفضل الأحوال، لن تستطيع الانتقال مستقبلاً إلى مستوى صناعي أعلى من صناعات الحد الأدنى التحويلية إلا باعتبارها جزءاً من كل، أي: جزءاً من سوق إقليمية أوسع، فالانتقال إلى صناعة آلات النسيج على سبيل المثال وتطويرها لا يمكن أن يتم إلا في إطار علاقات استثمارية تعاونية وإنتاج لسوق أوسع من السوق السورية لتكون الجدوى محققة.

الصناعة في قطاع إنتاج وسائل الاستهلاك تحتاج إلى أعلى مستوى من التحكم بالموارد، وتقييد حرية البضائع المنافسة من السوق العالمية، وتمويل وإنفاق استثماري لرفع مستوى هذه الصناعة التكنولوجي للحد الأقصى الممكن، وهو أمر لا يمكن أن يتم دون مشروع وطني تمويلي تعاوني، أصبحت احتمالاته أعلى اليوم في ظل ما توضحه تجارب التمويل التعاوني، ونقل التكنولوجيا التي تقودها الصين بالدرجة الأولى، وفي ظل تراجع قدرة الغرب على فرض أحادية نمط تمويله المشروط بكم ونوع وسياسات. رفع صناعة حاجات الاستهلاك للحد الأقصى، تؤمن استمرار توليد النمو الداخلي، وإتاحة التراكم الضروري للانتقال لاحقاً نحو مستوى صناعي أعقد، في حلقات إنتاج وسائل الإنتاج، والتي لا يمكن أن تتم إلا بإطار انفتاح اقتصادي، وضمن علاقات تعاون إقليمي ودولي، ولا يمكن أن تنجح إلا بعد أن نتجاوز عتبة الصفر، أي: أن نستخدم أقصى ما نستطيع من مواردنا لننتج كل ما نستطيع من حاجاتنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
824
آخر تعديل على السبت, 19 آب/أغسطس 2017 16:29