هل سيقرض أصحاب الأرباح الحكومة؟!
عاد الحديث عن سندات الخزينة الحكومية ليتجدد، أي: الحديث عن أن الحكومة عليها أن تجد مصادر للتمويل، من السيولة المتكدسة في السوق السورية، على أن تعطي هؤلاء أوراق دين على شكل سندات، وتضمن لهم سداد أموالهم مع فائدة، رفعها البعض سابقاً إلى 20%، وتتراوح اليوم بين 5-6% بحسب مقترحات أكاديميين سوريين.
في الفكرة المطروحة إيجابية متمثلة بنقل كتلة هامة من السيولة من الجمود إلى الحركة، وهي ضرورة لتحريك عملية الاستثمار الراكدة بل المتراجعة في الاقتصاد السوري خلال سنوات الأزمة.
لماذا يكتنزون أموالهم ولا يستثمرونها؟!
ويجب التفكير في ظل اقتصاد السوق الذي نعيش فيه، ما هي القوانين التي تمنع حائزي هذه السيولة من كبار قوى السوق السورية عن الاستثمار والتوسع، وما هي القوانين التي تدفعهم نحو اكتنازها على شكل عقارات أو دولارات، أو تهريبها إلى خارج البلاد؟! لأن عدم إلغاء هذه الأسباب سيجعل أية محاولة لتحريك السيولة، أي: توظيفها في الاستثمار دون جدوى.
الأسباب كثيرة، ولكن في جوهرها يكمن العائد أو معدل الربح: فتكاليف الإنتاج وصعوبة تأمين مستلزماته بشكل مستمر ودون أزمات وتقطعات، تقابلها إمكانات استهلاك منخفضة إلى حد غير مسبوق في سورية، بعد أن أصبحت كتلة المستهلكين الأساسية أي: أصحاب الأجور لا يحوزون إلا على نسبة قد لا تزيد عن 13% من الناتج القليل، وإذا أردنا أن نكون أوضح فإن بلاداً فيها 13 مليون شخص بحاجة للمساعدات الإنسانية، لا يمكن أن تكون هدفاً للمنتجين، فسكانها لا يستطيعون تأمين استهلاك حتى حاجاتهم الأساسية. وربما يفسر هذا لماذا ظهرت مصانع للسلع الكمالية مثل السيارات، والعطور خلال الأزمة، أي مصانع تنتج منتجات لشريحة كبار المستهلكين، من القلة الرابحة في سورية اليوم، كما تحاول صناعات البقاء والاستمرار على أمل التصدير لا الاستهلاك المحلي، كما في بعض الصناعات النسيجية..
الربح السهل من خسارة الليرة فلماذا المخاطرة؟!
إذاً: التراجع الكبير في الأجور، وبالتالي في الاستهلاك هو معيق أساسي لاستثمار السيولة في توسيع الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي، بل وحتى التجاري.
ولذلك يميل حائزو السيولة، أو أصحاب الربح الكبير، إلى اكتناز أموالهم ليضمنوا الحفاظ على قيمتها، أو المضاربة عليها، فعندما تشتري عقاراً بـ 30 مليون ليرة، ويتحول سعره إلى 60 مليون خلال سنتين، تكون قد استثمرت أموالك، بعائد 100% خلال سنتين، أو عندما تشتري الدولار بـ 200 ليرة، ويتحول سعره إلى 550 ليرة، تكون أيضاً قد حققت عوائد، بالمقارنة باحتمالات المخاطر الكامنة في أن توسع منشأةً، ولا تكون قادراً على تأمين الطاقة اللازمة لها، أو لا تضمن استهلاك منتجاتها في سوق الفقراء السوريين.
إذاً، حتى تستطيع الحكومة أن تقنع هؤلاء (المعبأة جيوبهم) بأموال السوريين، كي يقدموا أموالهم دَيْناً للحكومة، عليها أن تقدم لهم ربحاً أو عائداً أعلى من العائد الذي يحققونه من خسارة قيمة الليرة! فهؤلاء لن يقدموا ليراتهم المكدسة للحكومة، إلا إذا استقرت قيمة الليرة، بل وبدأت بالصعود.
لأن كلاً من هؤلاء سيقول لنفسه: (مليون ليرة أحولها لدولار، تربح خلال سنة بمقدار ارتفاع سعر الصرف أي 32% على سبيل المثال في السنة الماضية، أما إذا أعطيتها للحكومة فستخسر، ويجب أن تعطيني الحكومة فائدةً بمقدار خسارة قيمة الليرة لقيمتها، أي: نسبةً تقارب 60% في العام الماضي!).
ولذلك فإن المنطق البسيط للأمور يقول: بأن هؤلاء لن يضعوا أموالهم كدين عام للحكومة، طالما أن الليرة تخسر وتتراجع، وهم يربحون من خسارة قيمتها.
أما إذا أرادت الحكومة أن تستدين بالدولار من هؤلاء، فعليها أن تقدم لهم معدل فائدة أعلى من ارتفاع سعر الصرف، بل أعلى من وسطي الربح عبر المضاربة، وهذه الحالة ستؤدي حكماً كما يعلم هؤلاء، إلى عدم قدرة الحكومة على سداد الدولارات وفوائدها، ولذلك فإنهم لن يخاطروا الآن بدولاراتهم ليقرضوها للحكومة، لأنها لن تكون قادرةً على السداد إلا إذا باعتهم أملاكها، وهو أمر وارد، ولكنه يحمل مخاطر سياسيةً بالنسبة لهؤلاء حالياً، لذلك تبقى عملية استثمار دولاراتهم في الحصول على أملاك السوق من عقارات ومنشآت وغيرها أضمن حالياً.
لنكن واقعيين ومبدئيين!
إن الحديث عن تمويل الحكومة من السوق، إذا كان حديثاً يهدف إلى خدمة الاقتصاد الوطني والمال العام، ويخدم فكرة تحريك السيولة، يجب أن يكون واقعياً، ومبدئياً، أي مقترناً بشروط محددة.
فهو أولاً غير واقعي حالياً، إلا بمستويات أسعار فائدة قياسية، ما يعني صعوبةً في السداد، وجملةً من التأثيرات المالية والنقدية السلبية، وسيحمل آثاراً تضخمية كبيرةً، ويعيق عملية الإقراض وتسديد القروض المتعثرة حالياً، وهو لن يحصل.
وثانياً: لن يكون من الواقعي الحديث عن إقراض أصحاب الأرباح أموالهم المكتنزة للحكومة، إلا بشرط أن يتبين تماماً أن الليرة استقرت وقيمتها تتجه نحو الصعود، وهذا مرتبط بتحسن الإنتاج والاستهلاك، أي مرتبط بالاستقرار السياسي، وانطلاق عملية إعادة الإعمار.
وثالثاً: لن يقرض أصحاب الأرباح أموالهم للحكومة حتى بعد استقرار الليرة، إلا إذا ضمنت لهم معدل فائدة أعلى من معدل الربح الموجود في السوق، ولو بنسبة قليلة، لذلك علينا أن نقول: أنه حتى لو استدانت الحكومة من أموال السوق، عليها أن توظف هذه الأموال في قطاعات ذات عائدية عالية، تستطيع من خلالها أن تسدد الفوائد، وتحقق عوائد لها، وترفع معدل النمو في الاقتصاد الوطني، أي: إن هذه العملية يجب أن تكون مشروطة ومراقبة ومرتبطة بدراسات جدوى اقتصادية، وبتحكم الحكومة بقطاعات كبرى تحقق فيها عائديةً مرتفعة. عندها تكون فعلياً قد حرَّكت السيولة، وأمنت قدرتها على السداد، وعدم ارتهانها لمقرضيها، ودفعت لهؤلاء عوائد، وأمنت الطريق كي لا تحتاج لتمويلهم بعدها.
الطريق الأسلم والأكثر واقعيةً في اللحظة الحالية، لتحريك السيولة، هو في تخفيض تكاليف مستلزمات الإنتاج، وفي تحريك الاستهلاك أي: زيادة الأجور، وحتى لو طبعت الحكومة نقوداً، أي مولت نفسها بالعجز، فإن استخدام هذه الأموال بالاتجاهين معاً: تخفيض تكاليف الطاقة، ورفع الأجور، سيؤدي إلى آثار إيجابية، ولن يؤدي إلى آثار تضخمية، لأنه سيضمن زيادة الإنتاج وارتفاع قيمة الليرة، أي: انخفاض الأسعار. أما أصحاب الأرباح فلن يقرضوا الحكومة الآن لتفعل كما يقترح البعض، لأنهم يربحون اليوم بالدرجة الأولى من تدهور قيمة الليرة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 807