2015: عندما خسرت الصين معركة أبوابها الموصدة!

2015: عندما خسرت الصين معركة أبوابها الموصدة!

الكثير من المصطلحات تطلق على عمليات هيمنة رأس المال المالي، ودوره في الاقتصاد السياسي العالمي، إلا أن التسمية الأبرز: «الجغرافية السياسية المالية» التي أطلقها مجموعة من الباحثين الاقتصاديين الصينيين في دراستهم «هيمنة رأس المال المالي- الصين كحالة ملموسة» المنشورة في مجلة MONTHLY REVIEW بتاريخ 9-2-2017، والتي يقوم المقال التالي بقراءة معتمدة على البحث المنشور..

إن توسع القطاع المالي منذ ثمانينيات القرن الماضي، قد أتاح عمليات تحكم منظمة بالأسواق العالمية، عبر التوسع الهائل في حركة رأس المال العالمي المضارب، ومساهمته الموجهة والواضحة في أزمات اقتصادية عديدة، أبرزها أزمة النمور الآسيوية في التسعينيات، أزمة عام 2008، وحرب العملات المتقدة منذ عام 2015.

قاسيون

العملية الممتدة منذ الثمانينيات، والتي انفجرت آثارها في عام 2008، لم تتوقف بل أخذت مدىً واسعاً بعد الأزمة المالية العالمية، وهي تدار بشكل منظم في أزمات مالية الطابع، اقتصادية وسياسة الأثر، وموجهة بشكل خاص تجاه الدول النامية، والصاعدة منها تحديداً.

شراء طويل- بيع قصير؟

إن دور رأس المال المالي المضارب يتسم بثلاثة عناصر، الأول هو السيولة، أي عملية تحرير أسواق المال وحرية حركتها وتداولها والتي تؤمن ما يسمى (LONG BYING) وهي العمليات التي تدخل من خلالها رؤوس الأموال متوقعةً وصانعةً ارتفاعاً فقاعياً في أسعار الأصول في السوق المعنية، والثاني هو (SHORT- SELLYING) وهي العمليات العكسية أي: العمليات التي تبني حركة السوق على أساس توقع الانخفاض وتؤدي إلى موجة انهيار الأسعار والأزمة، والعنصر الثالث هو: التمركز الناجم عن الخسارات السريعة والانهيارات في الأسعار، وشراء قوى السوق الكبرى للحصص والثروات الحقيقية في السوق.

وكلما توسعت حرية حركة رؤوس الأموال، وتوسعت إمكانية التداول وأنواعها في السوق المالية لأية دولة، فإن إمكانية تحكم هذه الأموال العائمة بالأسواق، والتي مركزها المؤسسات المالية الكبرى في دول المركز المالي الغربي العالمي، كلما زادت إمكانية تحكمها بالأسعار والأزمات، وبالتالي بالثروات الحقيقية.

وقد اشتدت رحى هذه العملية، مع التوسع الكبير في سياسات التيسير الكمي التي أعلنتها الولايات المتحدة، ثم اليابان والمركزي الأوروبي، بعد الأزمة المالية العالمية. وقد أسست لتوسع المال العائم الرخيص، بفائدة صفر في أسواق مال الدول النامية عموماً، والصاعدة تحديداً.

هذه العملية التي أسست لتوسيع عمليات (الشراء الطويل الأجل)، تصل اليوم إلى خواتمها مع إشراف سياسة التيسير الكمي على التوقف، وإعلان بداية مرحلة (البيع القصير) أي إطلاق الأزمات.

ومؤشرات بداية البيع، عديدة، أهمها: حركة رؤوس الأموال التي تخرج سريعاً من أسواق الدول النامية، حيث خلال 13 شهر منذ تموز 2015 بلغ مجموع رؤوس الأموال الخارجة من أكبر 19 دولةً صاعدةً ما مجموعه: 940 مليار دولار، وفي أسبوع واحد من شهر تموز عام 2016 خرج أكثر من 9.3 مليار دولار من أسواق الدول النامية، 7.1 مليار دولار منها خرجت من الصين.

المؤشر الآخر هو: حرب العملات، التي تنتج عملياً عن خروج رؤوس الأموال من سوق الدول الصاعدة، ومن عمليات البيع القصير لعملاتها في الأسواق المالية، حيث بين حزيران 2014- وأيلول 2015 تراجعت العملة البرازيلية بمقدار 73%، التركية 55%، عملة جنوب أفريقيا: 34%، الهند 17%، والصين 5%.

فتح الباب للمال المضارب!

رغم أن الصين تبدو الدولة الأكثر تماسكاً في هذه المعركة، إلا أن مؤشرات سيئةً تأتي من السياسات الصينية المتبعة منذ عام 2015، التي تعاكس عملياً الضرورات التي تقتضي تقليص حرية الحركة والتداول في أسواق المال الصينية.. فالصين منذ عام 2015 قامت بإجراءات، يقول عنها الباحثون الصينيون: أنها أتاحت الفرصة الكبرى لرأس المال المالي المضارب، «بالبيع القصير للاقتصاد الصيني»! الفرصة التي لم تكن متاحةً سابقاً..

قامت الصين ومنذ التسعينيات، وفي إجراءاتها الهيكلية لتحرير الأسواق، بالفتح التدريجي وإزالة التحكم بشكل مدروس. فالأمر الذي بدأ بإزالة التحكم بأسعار السلع الأساسية، وإلغاء نظام البونات، امتد لاحقاً ليتوسع إلى هيكلة البنوك المملوكة للدولة، وتحويلها لبنوك تجارية، فتح الاكتتاب فيها للسوق، بينما بقيت حصة مهيمنة للدولة.

أسست منطقة التجارة الحرة في شنغهاي عام 2013، ولحقها مجموعة من المدن الصينية على السواحل، وقد توسعت فيها الخدمات المالية لتشمل تحرير أرصدة تداول الأوراق المالية، ولتشمل العملات المحلية والدولية وانطلقت في عام 2014، وتم الربط بين بورصتي شنغهاي وهونغ كونغ، حيث يتمركز تدفق رؤوس الأموال العائمة، بآثاره التضخمية على هونغ كونغ، وتوسع البطالة فيها، التي يعتبرها الباحثون أهم أسباب الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية فيها.

بعد هذا تم في عام 2015 توسيع التسهيلات في منظومة التحكم الصينية السابقة برؤوس الأموال المتدفقة، المنظومة التي تسمى (QFII): سياسة إدارة كفاءة مؤسسات الاستثمار الأجنبي، والتي كانت تحدد كميات المال الأجنبي الداخل إلى الصين، ليتم تحديد كمياته ونوعه، واشتراط تحويله إلى العملة الصينية للاستثمار والتداول بها في الأسواق الداخلية، واشتراط عوائد وحصص الاستثمار التي ستحول إلى العملات الأجنبية، والتي لا تخرج إلا بموافقة السلطات الحكومية، أي العملية التي كانت مضبوطةً ومتمركزةً، والتي حَدّت من دخول رؤوس الأموال المضاربة إلى الاقتصاد الصيني، قد جرت عليها تعديلات، وتوسعت إمكانية دخول رؤوس الأموال العاملة في الاستثمار بالعملة الصينية في أسواق المال الصينية.

وكانت النتيجة سريعةً، حيث منذ منتصف عام 2015 بدأ التراجع الحاد والأزمات في أسواق المال الصينية، عبر عمليات البيع القصير، حيث تراجعت بورصة شنغهاي من ذروة 5178 نقطة، إلى 3300، وأكثر من 18 تريليون يوان تبخرت بليلة وضحاها، واضطرت السلطات الصينية إلى الدخول بالاحتياطي الصيني إلى السوق، لتخفيف اضطراباتها،  ووفق  تقديرات الاقتصادي الصيني زانغ مينغ، فإن الاحتياطي الصيني نهاية 2016 قد تقلص بمقدار يقارب 800 مليار دولار، 500 منها استخدمت من قبل المصرف المركزي للتدخل في سوق العملات الأجنبية، ومع ذلك تراجع اليوان بنسبة 7% في العام الماضي.

يرى الاقتصاديون الصينيون: أن الصين خسرت معركة الصمود في وجه رأس المال المالي، وأن ضغط النخب المالية والاقتصادية الليبرالية الصينية، قد أدى بأن تتجه السلطات في ذروة الأزمة لفتح سوق رأس المال على مصراعيه، ويقدرون: أن رأس المال المالي العالمي اليوم يتحكم بثلث الصناعات الأساسية الصينية التي يحصرون عددها بـ 21 صناعةً. ويعتبرون أنّ استمرار هذه السياسة قد تودي بالصين إلى ما يشبه «خطة الأيام الـ 500» التي تمت للخصخصة السريعة للاقتصاد الروسي، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، ليؤكدوا لاحقاً بأن منظومة رأس المال المالي ستدفع بنفسها إلى أزمات عميقة لن تستثني أحداً، وعلى الصين إن أرادت أن تحمي نفسها مما خبرته في العامين الماضيين، أن تقوم بإجراءات عكسية ضرورية لتعميق التحكم بأسواق المال الصينية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
799