ملف إعادة الإعمار: الاتحاد السوفييتي (1) الخطة الوطنية والمركزة في الصناعة..
خرج الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، بخسائر بشرية ومادية كبيرة، ولكنه استطاع خلال خمس سنوات تجاوز الأثر المدمر للحرب في قطاعات اقتصادية مختلفة، وبالأخص قطاعات الصناعات الثقيلة والطاقة الكهربائية التي حققت تقدماً فاق المستويات التي كانت قبل الحرب. وتحققت معدلات نمو مرتفعة، بالاعتماد على الموارد المحلية دون قروض وبنسب بسيطة لتعويضات ما بعد الحرب.
خلال الحرب قتل 27 مليون شخص من الاتحاد السوفييتي وخسر حوالي نصف السكان بيوتهم، ورغم أن عملية نقل المشاريع الصناعية الأساسية من المناطق الغربية الأكثر تأثراً بالحرب إلى المناطق الأكثر أمناً في الشرق، قد أبقت على جزء هام من تلك المشاريع سليمةً، إلا أن الخسائر الكلية لرأس المال في المشاريع الاقتصادية والممتلكات الشخصية بلغت ثلثي الثروة الكلية قبل الحرب، بالإضافة إلى 33% خسائر الصناعة، 40% من مجمل منتوج القمح، أكثر من ربع المنشآت والأبنية، و 32% من المشاريع المملوكة للدولة.
مع انتهاء الحرب وخلال الأعوام 1945-1950 نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9% سنوياً، وبنسبة 5.8% سنوياً خلال الفترة بين 1951-1960. من خلال دراسة التجربة السوفييتية يمكن استخلاص عوامل رئيسيةً شكلت مفاتيح نجاح تلك التجربة..
خطة وطنية وقطاعات اقتصاد حقيقي
الاقتصاد السوفييتي اقتصاد مخطط، قائم على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، حيث الإنتاج موجه بشكل أساسي لتوفير الحاجات الضرورية للسكان وليس اتجاه تحقيق الربح، بينما التوظيف الكامل للعمالة مكفول دستورياً، والدولة تحتكر التجارة الخارجية، والتوزيع الداخلي. بعد الحرب وضعت الخطة الخمسية الرابعة (1954-1950) التي أشرف جهاز الدولة على تنفيذها، وكان هدفها الأساس إعادة بناء ما دمرته الحرب، وتحقيق نمو سريع في قطاع الصناعات الثقيلة، واعتمدت العملية على توحيد الموارد من قطاعات الصناعات الخفيفة والزراعة إلى قطاع الصناعات الثقيلة. حيث تم تخصيص النسبة الأكبر من الإنفاق الاستثماري لإنتاج وسائل الإنتاج، وكانت الرؤية معتمدةً على الفكرة الماركسية التي تقول، بأن قطاع إنتاج وسائل الإنتاج هو القطاع المحدد، في عملية تجديد الإنتاج الموسع، وهو الذي يقود التوسع السنوي، وعملية التراكم، بعلاقة تفاعلية مع قطاع إنتاج وسائل الاستهلاك. في عام 1950، بلغ إنتاج السلع الرأسمالية نسبة 68.8% من مجمل الإنتاج، بينما بلغ إنتاج السلع الاستهلاكية نسبة 31.2%. حيث كانت مرحلة ما بعد الحرب، وحتى نهاية الستينيات متركزةً على توسيع إنتاج السلع الإنتاجية، لتعود بعدها نسبة إنتاج السلع الاستهلاكية إلى الارتفاع.
التوسع السريع للصناعة أنجز ليس فقط من خلال انتقال تركز الموارد، بل كذلك عبر انتقال في العمالة، نحو القطاعات المستهدفة. حيث توسع تحويل جزء من القوة العاملة في قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة، مما ساهم في رفع إنتاجية الاقتصاد وإنتاج آليات متقدمة ساهمت فيما بعد برفع إنتاجية قطاعي الصناعة والزراعة معاً. وفيما حل القطاع الزراعي خلف الصناعة، عملت الخطة أيضاً على تطوير الزراعة من خلال إنشاء مشاريع ضخمة لبناء قنوات ومحطات الطاقة الكهرومائية، وإنشاء المزارع لحماية الأرض من الرياح والجفاف.
تمويل محلي وتعبئة الموارد
لم يحصل الاتحاد السوفييتي على مساعدات لإعادة الإعمار حيث رفض ستالين المشاركة في خطة مارشال، التي كانت أداةً اقتصاديةً سياسيةً لربط الدول المشاركة فيها بالغرب الأمريكي، بعد الحرب العالمية الثانية. وإنما حصل على تعويضات تتكون بجزء كبير منها من تجهيزات ومواد صناعية، حيث تشير الدراسات إلى أن وسطي قيمة ما حصل عليه الاتحاد السوفييتي بين عام 1945 و1956 هو 5 بليون روبل سنوياً، بمبلغ كلي 40 بليون روبل والذي شكل نسبة 7% فقط من الدخل الوطني الذي بلغت قيمته 577.7 بليون روبل وسطياً خلال تلك السنوات.
إطار تعاون دولي..
في عام 1949 تم إنشاء مجلس التعاون الاقتصادي (الكومكون) كبديل لخطة مارشال وهو منظمة اقتصادية ضمت: جمهوريات الاتحاد السوفييتي، ألمانيا الشرقية، المجر، بلغاريا، رومانيا، هنغاريا، تشيكوسلوفاكيا، كوبا، فيتنام، بولندا، ألبانيا ومنغوليا. وتهدف إلى التخطيط المنظم، القائم على قاعدة التبادل الثنائي بين الأعضاء وإنشاء منطقة للتبادل الحر بين دول المعسكر الاشتراكي. حيث التبادلات التجارية كانت تتم وفق اتفاقيات معينة هدفها تحقيق التنمية بين تلك الدول وتحقيق الاندماج الاقتصادي بين مجموعة الدول الاشتراكية، وتقسيم اشتراكي دولي للعمل فيما بينها، حيث كان الاتحاد السوفييتي يستورد المواد الخام ويصدر السلع المصنعة لتلك الدول بينما كانت تعطى المواد الأولية السوفيتية (قطن، فحم، مواد بترو كيميائية، خشب، حديد ونفط) لتلك الدول بأقل من الأسعار العالمية بالإضافة إلى منح الائتمان من غير فوائد، إضافةً إلى الإعانات .لذلك فإن التجارة الخارجية للاتحاد السوفييتي حتى الستينات بقيت محدودةً ومقتصرةً على دول مجلس التعاون الاقتصادي.
تقدم التجربة السوفيتية نموذجاً بديلاً لإعادة الإعمار يعتمد بشكل أساسي على الموارد المحلية وبإشراف جهاز الدولة من خلال خطة وطنية شاملة، بينما يسعى الجميع إلى الترويج لفكرة أنه لا يمكن لدول خارجة من حرب إعادة تحقيق نمو اقتصادي دون استثمارات وقروض خارجية، فبالمقارنة مع التجربة الألمانية التي اعتمدت في إعادة إعمارها على خطة مارشال والاستثمارات الأمريكية تشير الأرقام إلى أن متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد تجاوز مستوى ما كانت عليه قبل الحرب في الاتحاد السوفييتي بعد ثلاث سنوات بينما استغرق ذلك في ألمانيا عشر سنوات بعد نهاية الحرب، حيث بلغت قيمته خلال تلك السنوات في الاتحاد السوفييتي 8% وفي ألمانيا 2% فقط.
الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الحقيقي والصناعة تحديداً هو محرك النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي، وهذا لا يمكن أن يتم دون جهاز دولة قوي، يضع خطة وطنية ويشرف عليها، ويعمل على تعبئة الموارد في سبيل تطوير الصناعة والبنى التحتية وتوفير الخدمات الاجتماعية، بينما إذا ترك الأمر لقوى السوق والمستثمرين الخارجيين فإنهم سيستثمرون أموالهم في قطاعات سريعة الربح وسيسعون إلى تهميش دور الدولة، وهذا ما حدث في تجارب إعادة الإعمار الحديثة ذات التوجه الليبرالي، وهذا ما يجب أن نعتبرمنه في إعادة إعمار سورية اللاحق.
9%
معدل النمو السنوي في الاتحاد السوفييتي بلغ 9% خلال الفترة بين 1945-1950
8%
معدل نمو الدخل الفردي بلغ 8% ما يشير إلى التناسب الدقيق بين النمو الاقتصادي، والنمو السكاني.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 799