«تقنين كهربائي» على قاعدة «خيار وفقوس»... أصابع الاتهام تشير لعمالقة نهب استفادوا بصفقات استيراد المولدات الكهربائية

تتوازى وتيرة انقطاع الكهرباء في المحافظات السورية مع تزايد وتسارع حجم التصريحات الرسمية المنطلقة من أروقة الوزارة، والإطلالات المتكررة لوزير الطاقة الكهربائية لتبرر هذا الانقطاع بشتى الوسائل، فالتبرير على ما يبدو أكثر أهمية لدى بعض الجهات الرسمية من محاولة إيجاد واستنباط الحلول، فـ«جداول التقنين» لم يعد من الممكن وصفها بهذا الاسم، لأن ساعات الانقطاع وصلت إلى 12 ساعة في اليوم الواحد، أي أن ساعات التغذية الكهربائية لا تتعدى 50% يومياً، وهذا ما لا يمكن  تسميته تقنيناً، فأزمة القطاع الكهربائي الآن تعكس حقيقة الخلل البنيوي والهيكلي في جذور هذا القطاع، والذي يتجاوز تفجير أحد خطوط النفط، أو تعثر تزويد المحطات بالوقود اللازم لتشغيلها بالقطارات إلى بعض المناطق...

تقنين عشوائي
التقنين العشوائي هو سيد الموقف اليوم، والذي لم يُعرف إلى الآن ما هي ضرورات تفاوت انقطاع التيار الكهربائي من محافظة لأخرى، أو بين مناطق المحافظة ذاتها، أو بين حي وآخر أحياناً، ففي أغلب المحافظات تنقطع الكهرباء ثلاث ساعات متواصلة، لتأتي بعدها ثلاث ساعات أخرى، أي أن ساعات التقنين الإجمالية تصل إلى 12 ساعة يومياً، إلا أن ذلك لا يحدث في مناطق أخرى، فلا تساوٍ في التقنين الكهربائي على اختلاف المناطق، حيث يوجد أحياء بدمشق مثلاً لا تقطع فيها الكهرباء سوى 3 ساعات يومياً، بينما يصل الانقطاع في بعضها الآخر لـ 12 ساعة يومياً، وبات السوريون يبحثون اليوم عن المساواة في تقنين الكهرباء على اختلاف مناطقهم، فليس من العدل هذا التباين في الانقطاع بين منطقة وأخرى، كما أنه لا بد من التساؤل: ما هي مبررات هذا التفاوت في التقنين أساساً؟!
إن المناطق التي لا تقطع فيها الكهرباء كسواها ليست بالمصنفة سياحياً أو صناعياً كي تتم مراعاتها، فما هي المعايير المعتمدة في التفاوت بالانقطاع الكهربائي بين المناطق والإحياء السورية من جانب وزارة الكهرباء إذاً؟! وهل بات السوريون مصنفين على قاعدة «خيار وفقوس»؟! أي أن هناك مواطنين من الدرجة الأولى، بينما يصنف آخرون بدرجات أدنى؟!

تخريب ممنهج
جذور مشكلة القطاع الكهربائي، تتمثل بأن هناك قطاعاً جرى تدميره في السابق، عبر الإهمال الحكومي المتراكم لمشاكله، والساعي من وراء كل ذلك لخصخصته، وهذا ما كان مرسوماً له، فالخصخصة لا يمكن أن تمر إلا بطريق واحد، هو ضرب هذا القطاع، وافتعال الأزمات فيه، لتبرير إدخال الاستثمار الخاص إليه في وقت لاحق، بحجة عجز الحكومة عن حل أزماته كما سيبررون لاحقاً، وبالتالي كانت سياسة تخريب هذا القطاع الممنهجة، هي التي مورست في السنوات السابقة، والقائمون على تنفيذ السياسات الحكومية استطاعوا إيصال القطاع الكهربائي إلى ذروة الأزمة، ليأتوا ويؤكدوا بعد ذلك أن لا حل لأزماته إلا بعرضه على الاستثمار، وهو ما قالوه في السابق، ولا يستبعد تكراره اليوم، متناسين أن لدخول القطاع الخاص إلى القطاع الكهربائي تداعيات اجتماعية واقتصادية كارثية، حيث تمت تعرية تجارب القطاع الخاص في الدول المتقدمة، والذي مثّل له هذا القطاع «بقرة حلوب» تدر عليه الأرباح الفاحشة دون انقطاع، والتجربة الروسية لا تزال شاهدة للعيان، فإذا سمح للقطاع الخاص دخول الاستثمار بالقطاع الكهربائي، فإنه سيربط أسعار الكهرباء المباعة في السوق المحلية بأسعار النفط العالمي، وهذا ما ليس للسوريين مقدرة على تحمله.

من المستفيد؟!
في عام 2006 عانى السوريون من أزمة كهربائية حادة، وانقطاع شبيه بالوضع الحالي على امتداد صيف متواصل، ليظن بعدها السوريون أن أزمة الكهرباء باتت خلفهم، ولم يكونوا مدركين أنهم سيشهدون هكذا أزمة في المستقبل القريب، والتي ستعيدهم إلى زمن الشموع، وأيام القنديل الكهربائي، والمولدات الكهربائية..
أقبل العديد من السوريين على اقتناء المولدات الكهربائية خلال الأزمة الحالية، لإحساسهم قبل معرفتهم بطول الأزمة وعمقها، تلك المولدات التي شهدت أسعارها ارتفاعاً بأكثر من 100% منذ مطلع شهر أيلول 2011 إلى اليوم، فالمولدات الصينية التي لم تكن أسعارها لتتجاوز 34 ألف ليرة في حينها، هي اليوم بما يزيد عن 70 ألف ليرة، والأسعار دون نقاش طبعاً، فسوق تلك المولدات بات رائجاً، والطلب عليها يتعاظم..
لا يمكن لأحد أن ينكر أن من استفاد من الأزمة الكهربائية في عام 2006، هم عمالقة النهب الاقتصادي، والمصنفون ضمن طبقة رجال الأعمال، وتجار سوريون من الدرجة الأولى، والذين عقدوا صفقات استيراد لتلك المولدات الكهربائية من الخارج حينها، وهذا ما ترك شعوراً أن هناك تواطئاً من نوع ما بين الوزارة ومستغلي الأزمات، وهذا يطرح علينا التساؤل حول طبيعة المستفيدين الحاليين من وراء هذه الأزمة؟! أليسوا هم المستفيدين السابقين ذاتهم!. ومن الذي يقف  وراء ارتفاع أسعار المولدات الكهربائية بهذا المستوى في السوق السورية؟!

الأرقام «أكبر برهان»
الأزمة بعكس ما يحاول أن يصورها البعض الحكومي، من أنها نتاج أوضاع طارئة نعانيها الآن، فالأزمة حقيقية، ولم تحصل بشكل مفاجئ، بل إن حالة هذا القطاع قد تردت بفعل الإهمال التراكمي لمحطات التوليد، وخروج بعضها من الخدمة، دون التفكير بإصلاحها، والتي تضاف إلى السرقة والرشاوى والفساد، والإبقاء على مشكلة الفاقد الكهربائي (الفني، التجاري) دون حلول، واعتبارها أزمة مستعصية، والتغطية عليها بالحديث الدائم عن الدعم الكبير للكيلو الواط الساعي، وتحميله «الدعم المقدم للمواطن» مسؤولية الخسائر التي يعانيها القطاع الكهربائي، وهذا ما أوصل القطاع الكهربائي إلى هذه الحالة المزرية، فالأرقام تشير إلى أنه كان لدى سورية احتياط دوار من الطاقة الكهربائية أكثر من 1300 ميغا واط في عام 2000، بينما أعلنت المؤسسة العامة لتوليد ونقل الطاقة الكهربائية في عام 2009، أن العجز يصل إلى حدود 1000 ميغاواط، وسيصل في عام 2012 إلى 1800 ميغاواط، أليس القائمون على هذا القطاع هم أنفسهم من أوصله إلى هذه الحالة المتردية؟!

بدائل تقابل بالرفض الحكومي
أمام هذا التراجع في الإنتاج الكهربائي، والتحول من الفائض إلى العجز خلال عقد من الزمن، كان يتزايد الإصرار الحكومي على «حلِ» مشكلات القطاع الكهربائي مع شريكهم الأوروبي فقط دون سواه، وهذا ما ضاعف الأزمة عمقاً، فرئيس الوزراء السابق ناجي العطري، حمّل الشركات الغربية مسؤولية الصعوبات التي يعانيها القطاع الكهرباء بعد أزمة عام 2006، لرفضها إقامة محطات جديدة لتوليد الطاقة الكهربائية (محطتين بقوة 750 ميغاوات لكل منهما، أحدهما في دير علي، والأخرى بدير الزور)، وذلك نتيجة الضغوط التي تمارسها الدول الغربية، فالمسؤولون أصروا على حل مشكلة القطاع الكهربائي، باتهام شركة ميتسوبيشي بأخذ تعليمات من جنرال إلكتريك، أو برفض شركة سيمنس الألمانية تركيب محطات كهربائية في سورية، وذلك دون محاولة البحث عن بدائل، والتي باعتقادنا يتوفر منها الكثير، بل إن وزارة الكهرباء كانت تؤخر التوقيع النهائي على عقود توسيع محطات الطاقة الحرارية في سورية، وإخفاق الاتفاق مع الجانب الروسي على توسيع محطة تشرين، فما الذي يقف وراء تأخير التوقيع على عقود تساهم في حل مشكلة قطاع استراتيجي؟! تنعكس مشكلته على القطاع الصناعي والتجاري، وعلى المواطن السوري، وزيادة أعبائه بالدرجة الأولى، لإجباره على البحث عن بدائل لم تكن واردة بقائمة مصاريفه!..

تحت «المقصلة» الأوروبية
البعض يمكن أن يبدي هجوماً على اقتراح شراء أو تركيب المحطات الكهربائية الروسية الصنع، أو يمكن أن يسجل اعتراضاً على الاستعانة بتقنيات بعض الدول الناشئة في  مجال تركيب محطات كهربائية على اعتبارها أقل جودة، وهنا لن ندخل في تحديد المواصفات أو الجودة، ولكن لا بد من التساؤل: هل من الأفضل الإبقاء على أزمة القطاع الكهربائي أم الاستعانة بالخبرات والمعدات الروسية أو الصينية؟! ولماذا الإصرار الحكومي على استمرار الأزمة ورفض البدائل المتاحة؟! ولماذا يضعون أهم قطاعاتنا الإستراتيجية تحت مقصلة شركات الدول الأوروبية؟!

الحل بضبط الفواقد والسرقات
إن أمان القطاع الكهربائي هو جزء من الأمن الوطني، ووضعه بين يدي القطاع الخاص يمثل تهديداً لهذا الأمن، وذلك لأن المستثمرين لا يعنيهم إيصال الكهرباء إلى الناس بالأسعار التي تناسبهم، بل إن همهم الوحيد هو الربح، ولا يأبهون بالناس والوطن والأمن الوطني، فإذا ما تذرع البعض بضعف التمويل، وهو ما يدفعهم لإدخال القطاع الخاص، أو إهمال هذا القطاع، فإننا لا بد من تذكيرهم، بأن الفاقد الكهربائي والهدر والسرقات تكلّف وزارة الكهرباء نحو 5 مليار ليرة شهرياً، وبما يقارب 60 مليار ليرة سنوياً، وهذا الهدر كفيل إذا ما تم ضبطه وضخه في شرايين القطاع الكهربائي، بحل مشكلة هذا القطاع خلال خمس سنوات فقط، ويعاني قطاع الكهرباء في سورية من أزمة تمويل، خصوصاً وأن إحدى الدراسات السابقة، أكدت حاجة هذا القطاع  لنحو 3.5 مليار يورو للاستثمار في مجال التوليد وحده في السنوات الخمس القادمة، وضبط تلك الفواقد والسرقات سيؤمن مبالغ الاستثمار تلك دون شك.

معلومات إضافية

العدد رقم:
541
آخر تعديل على الإثنين, 19 كانون1/ديسمبر 2016 03:21