ا. د. اسماعيل شعبان ا. د. اسماعيل شعبان

اقتصاديات الوقت.. (بين التقدم والتخلف)

تضيع حياة أبناء «العالم الثالث»، والعاشر في اللهث وراء السراب في المتاهات الروتينية والدوائر البيروقراطية المغلقة، والعمل العضلي المرهق والمنغصات الكثيرة. وعندما يتهالك ذلك الُمتْعَب في منزله آخر النهار لا يجد رغبة في قراءة أو كتابة أو عمل فكري أو إبداعي، فيتبع الأسهل له: متابعة مسلسل تلفزيوني، أو سماع أغنية عاطفية، أو مشاهدة مباراة كرة قدم، وما يتخلل ذلك من دعايات تجارية سمجة وإعلانات سخيفة تدعو إلى الغثيان..

1 ـ لاشك في أن أهم ما يمتلكه الإنسان المعاصر هو الوقت الذي هو مجموع ثواني حياته القصيرة التي يعيشها على هذه الأرض، ولا سيما في هذا العصر الإلكتروني السريع، حيث في الوقت الواحد هنالك آلاف الخيارات أمامه للقيام بإحداها، سواء من أعمال رسمية، أو اتصالية، أو اطلاعية، أو الإبحار عبر آلاف المواقع على الإنترنيت، أو مشاهدة إحدى مئات المحطات على الديجيتال،أو الاستماع إلى إحدى عشرات المحطات الإذاعية على الموجة الواحدة، أو القراءة لأحد مئات الكتب أو إحدى آلاف المقالات الممتعة والمفيدة الصادرة في مواضيع مختلفة في عشرات المجلات  الأسبوعية أو الصحف اليومية أو زيارة المتاحف والمعارض والمسارح ودور السينما.. الخ..
2 ـ ولكن المهم في عصرنا الحاضر هو كيفية إيجاد الوقت الحر اللازم لدى الإنسان المعاصر للاستمتاع ولو بجزء صغير جدا من كل ما تقدم عرضه من خيارات.
3 ـ ولذلك فقد اخترع المتطورون من الناس وسائل كثيرة لتوفير كل ما يمكن توفيره من الجهد المهدور في غير محله والوقت الضائع به، وذلك لخلق الوقت الفائض (الذي تقاس به رفاهية الأمم المعاصرة ) ، لأجل المزيد من الاستمتاع به بالقراءة والتفكير والتأمل والإبداع والاختراع والتطوير والفن والموسيقى..الخ، فاخترعوا وأنتجوا وطوروا المواصلات السريعة والأسرع والأكثر سرعة، من الطيارة والسيارة والباخرة والقطار TGV.. الخ الخ، وكذلك أوجدوا وسائل الاتصال السريعة والمريحة من الإيميل، والفاكس، والتيلكس، والهاتف، والخليوي.. الخ، وآلات الطباعة والخياطة والتعليب والتغليف والنقل.. الخ.. وكل وسائل الإنتاج عالية الإنتاجية والمردود، وحتى المؤتمتة و «المروبتة» منها.. الخ، وكل ذلك لزيادة هامش الوقت الحر لدى الإنسان المعاصر لاستغلاله فيما تقدم.
4 ـ لك طوروا الحاسوب (الكمبيوتر) للإسراع بواسطته في الإنجازات العلمية والتقنية والفنية والإبداعية.. الخ وتخزين أكبر كمية ممكنة من المعلومات واستدعائها بأسرع وقت ممكن عند اللزوم.
5 ـ كذلك طوروا فن الإدارة الحديثة، الذكية، والرقمية، والعمل عن بعد، الذي يوفر أكبر كمية من الجهد والوقت، وقسموا العمل الاجتماعي والمؤسساتي لزيادة الإنتاجية ، وخلق المزيد والمزيد من هامش الوقت الحر للعيش به بما يليق بالإنسان المعاصر..الخ، فكم من مليارات الساعات المجهدة فيزيولوجيا وعصبيا قد وفرتها وسائل الإنتاج الحديثة كانت تبذل في الطحن البدائي القديم وكذلك في الَعصر والخَبز والطبخ والغسل و المواصلات والنقل والاتصالات و.. و.. و.. الخ.
6ـ لا عجب أن أصبحت المصارف في الدول المتطورة تقوم بدفع كل الفواتير المترتبة على الإنسان في تلك الدول من التأمين الصحي، والماء، والكهرباء، والهاتف، وقسط المنزل، وأقساط التأمين على الحياة، وحتى تجهيز المدفن والتابوت والموسيقى والزهور اللازمة للدفن في اليوم الأخير من الحياة، وتحويل الوقت الموفر إلى رفاهية حقيقية وأعمال إبداعية أخرى وجديدة تغني الحضارة الإنسانية والوطنية والذاتية.
7 ـ عاش الإنسان المتطور في بحبوحة من الوقت الحر ، للاستمتاع به فيما تقدم من خيارات في الفقرة (1)، أو للسياحة خلاله في بلاد الله الواسعة وزيارة المتاحف والآثار القديمة، أو الاستجمام على الشواطئ، أو الاستمتاع به في المطاعم والمقاهي والمنتزهات الفسيحة، أو حضور المحاضرات العامة والندوات والمؤتمرات العلمية، أو الاجتهاد في المكتبات والمختبرات، للمزيد من الإبداع والاختراع والتميز في ميادين الحياة الجديدة، والعمل لإضافة كل مجتهد لبصماته المميزة له على جدار التاريخ الطويل واللامتناهي.
8 ـ تلك الاجتهادات والتميزات تطورت العلوم التطبيقية والفنون الحياتية والإبداعات والاختراعات العلمية والتكنولوجية والفنية والإلكترونية بدون حدود وفي كل مجالات الحياة وبما يتجاوز الأفق المنظور لحواس الإنسان الخمس.
9 ـ ولكن ويا للأسف الشديد، لايزال أبناء العالم الثالث، والرابع، والعاشر، وربما العشرين.. الخ، بعيدين جداً عن كل ماتقدم، إلا بما يستوردونه من منجزات الآخرين مما ورد ذكره من منجزات تقدم، فهم لا يزالون يكدحون أغلب أوقاتهم وراء لقمة العيش المغمسة بالعرق، وكثيرا من الأحيان بالذل والألم والدم، لأنهم لم يجهدوا أنفسهم بتشغيل عقولهم الخام بالإبداع أو الاختراع العلمي والتقني والفني كما فعل المتطورون  أو ربما لم يوجد لدى بعضهم الوقت الفائض من أجل ذلك)، ولا بتصويب وتحكيم ضمائر ذوي القرارات فيهم، لتحسين مستوى معيشتهم أو تخفيف ما يمكن تخفيفه من الأعباء الحياتية عنهم وكان بإمكانهم فعل ذلك ولوعلى الأقل بتقليد المتطورين فيما فعلوا في هذا المجال، وكيف سهلوا حياتهم وخلقوا فائض الجهد والوقت لديهم، الخ . ولذلك لايزال هؤلاء اللامبدعون لحلول مشاكلهم يجرجرون أرجلهم لدفع فواتير الماء والكهرباء والهاتف والخليوي والنظافة وقسط المسكن وتجديد أوراق السيارة، وتسجيل معاملات البيع والشراء، وأخذ براءات الذمة، وتجديد الأوراق الشخصية المنتهية الصلاحية.. و... و.. الخ الخ هنا وهناك وهنالك في عمليات روتينية وبيروقراطية عقيمة وسقيمة، ومنهكة ومدمرة للطاقة والوقت والأعصاب، ولاسيما الاضطرار للوقـــوف الســـــاعات الطـــوال بالانتظار بالدور على الرجلين المنهكتين في قمة الحر أو القر، في بعض المؤسسات القابضة الجاحدة أو السادية، لأنها تضن على الدافعين لها بكرسي أو مقعد خشبي أو مروحة أو مكيف أو كلمة طيبة،أو حتى ابتسامة، ونحن الذين نكرر في الصباح والمساء القول المأثور )ابتسامتك في وجه أخيك صدقة.. وإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم..الخ) ولكن يبدو إننا أصبحنا نضن بالابتسامة حتى على أنفسنا أمام المرآة.

يتبع

معلومات إضافية

العدد رقم:
178