لماذا انخفاض الاستثمار على البشر؟؟
يتكون الإنفاق العام عبر الموازنة العامة للدولة من إنفاق عام جارٍ وإنفاق عام استثماري ويبلغ متوسط الإنفاق الاستثماري بالنسبة إلى الموازنة حوالي 49.6% من العام 1996 إلى العام 2000 وهو يشكل ارتفاعاً عن النسبة نفسها للأعوام 1989 إلى 1995 بحوالي 42% مما يدل على تطور في الجانب الاستثماري في الموازنة العامة وهو مؤشر إيجابي.
ولكن ما هو موقع الاستثمار في الإنسان ضمن هذه الاستثمارات؟
يعد الإنسان منطلق عملية التنمية وهدفها في آن معاً فلا معنى لمعدلات نمو عالية ومؤشرات إيجابية كلية مثل زيادة الناتج المحلي أو زيادة الصادرات أو تطور في قطاعات معينة إذا لم تنعكس على المواطن بتحسن الظروف المادية والمعنوية المحيطة به، إذاً لتحقيق تنمية حقيقية علينا الانطلاق من الإنسان أولاً لأنه صانع التنمية، مما يحتم توفير الظروف المناسبة للمواطنين ابتداءً من الحد الأدنى من مستوى المعيشة وصولاً إلى توفير فرص التعليم والتدريب والتأهيل والتثقيف والبحث العلمي وخلق الجو الملائم للإبداع وحرية التعبير والمشاركة الحقيقية في بناء الوطن.
إن التوجه نحو بناء الإنسان استقطب الاهتمام العالمي في العقدين الأخيرين بشكل كبير، خاصة في الدول النامية ، باعتبار أن الدول المتقدمة تولي هذا الموضوع أهمية كبيرة منذ فترة طويلة، وظهر مفهوم الاستثمار في رأس المال البشري الذي وجه الأنظار نحو ضرورة ضخ الاستثمارات في البشر أولاً خاصة أن هذه الاستثمارات كانت غير مرغوبة لكلفتها العالية ونتائجها غير المباشرة والبعيدة الأمد. بينما نلاحظ أن الدراسات الحديثة تثبت اقتصادية هذه الاستثمارات ونتائجها الحيوية على الاقتصاد الوطني والعالمي مما حدا بالدول النامية إلى الاستثمار بشكل ضخم في هذا الاتجاه ويشكل مثال دول جنوب شرق أسيا دليلاً واضحاً على جدوى الاستثمار في رأس المال البشري. فكوريا الجنوبية مثلاً تنفق حوالي 4% من ناتجها المحلي على البحث العلمي، فأين نحن في سورية من ذلك.!
تتطرق الدراسة التي قمنا بها للاستثمار العام في رأس المال البشري عبر الموازنة العامة للدولة بين عامي 1989 و2001، وانطلقت أولاً من أرقام تقديرية. الهدف من دراستها معرفة توجهات الحكومة «النظرية» في هذا المجال، لكن سنعزز الدراسة بأمثلة عن نسب التنفيذ الفعلي. أما التطرق للاستثمار العام دون الخاص بسبب انعدام مشاركة الخاص في مجال التنمية البشرية في بلادنا. وقد افترضنا أن الاستثمار في رأس المال البشري عبر الموازنة يقتصر على الاستثمار في التربية والتعليم العالي والثقافة والرعاية الاجتماعية والتي تقع في القطاع الأول من الموازنة (الخدمات الجماعية والاجتماعية والشخصية).ورغم استخدام الإنفاق الجاري والاستثماري في تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة لقياس التنمية البشرية، إلا أننا فضلنا الاعتماد على الإنفاق الاستثماري، لأن الاستثمار هو مولِّد النمو الأساسي ويؤسس لبناء الطاقات الإنتاجية البشرية المستقبلية. أما الإنفاق الجاري العام ضمن الإدارات الحكومية الغارقة في البيروقراطية والروتين، فهو بالكاد يحافظ على الوضع الحالي المتردي للإدارات المتعلقة بالتنمية البشرية في سورية. وبالتالي فإن التركيز على الاستثمار هو مقياس أدق لمستقبل تنمية الإنسان. ولكن ما هي القطاعات في الموازنة العامة التي تهتم براس المال البشري؟.
يعتبر الاستثمار في القطاع الأول (قطاع الخدمات الجماعية والاجتماعية والشخصية) الممثل الرئيس للاستثمار في رأس المال البشري، ويعاني هذا الاستثمار عموماً من تراجع نسبي ضمن الفترة المدروسة. فقد تراجعت نسبة الاستثمار العام في القطاع الأول إلى الاستثمار العام الكلي من 31% عام 1989 إلى 20% عام 2001 وقد بلغت النسبة الوسطية 23.8% مما أدى لانخفاض مساهمة القطاع الأول في الناتج القومي للأسعار الثابتة من 15% عام 1989 إلى 10% عام 1998 ومع استمرار التحليل نلاحظ أن القطاع الأول مكون من تسعة أقسام : (إدارات الخدمات الإدارة والقضاء الأمن القومي الخارجية الإعلام التعليم العالي التربية الثقافة الرعاية الاجتماعية) وبالنسبة للأقسام التي تهمنا في رأس المال البشري وهي: (التعليم العالي التربية الرعاية الاجتماعية الثقافة) نلاحظ انخفاض نسبة الاستثمار في هذه الأقسام إلى الاستثمار العام الكلي من 7% عام 1989 إلى 5% عام 2001، فإذا كانت هذه النسبة أصلاً ضئيلة ومن حجم استثمار ضعيف، فكيف نفسر عدم المحافظة عليها على الأقل؟
من نتائج الدراسة لاحظنا أن قطاعات راس المال البشري تعاني من تراجع في استثماراتها نسبياً ، فهل هناك قطاعات أهم يتم توجيه الاستثمارات إليها؟.. من خلال دراستنا للاستثمارات في الموازنة 1989 إلى 2000 فإن الزيادة في النسبية في حصة الاستثمارات كانت لصالح قطاعات الكهرباء والماء والغاز والنقل والمواصلات والتخزين واعتمادات غير موزعة على حساب قطاعات الخدمات الجماعية والزراعة والبناء والتشييد وثبات حصة الصناعة، مما يشير إلى تشويه لبنية الموازنة بدلاً من تصحيحها باتجاهات أكثر أهمية وخطورة.
وأحد أهم المؤشرات التي تعبر بصورة أدق عن واقع الاستثمار في رأس المال البشري، هو حصة الفرد من الاستثمارات العامة في راس المال البشري، لمعرفة نمو الاستثمارات الذي يتجاوز الزيادة السكانية. والنتيجة أن حصة الفرد نمت بمعدل 4.8% سنوياً بين عامي 1995 و2000 لتصل عام 2000 إلى 380 ل.س منها 82 ل.س رعاية اجتماعية، 268 ل.س تربية وتعليم عالٍ، 30 ل.س استثمار في الثقافة. لا نرى بأن هذه الأرقام بحاجة إلى مقارنة مع دول مجاورة ولا حتى لتعليق!...
وصلنا إلى تلك النتائج اعتماداً على الأرقام التقديرية أما الأرقام الفعلية فهي أكثر خطورة إذا علمنا أن نسبة التنفيذ الفعلية للاستثمارات بين 89 و99 حوالي 80% وبالتالي يزداد تشويه بنية الإنفاق الاستثماري.
أما عن توجهات الحكومة الجديدة لعام 2001 فهناك زيادة كمية في استثمارات التعليم العالي والرعاية الاجتماعية، وتناقص في استثمارات التربية والثقافة. فهل الحكومة الجديدة مهتمة بالتعليم العالي أكثر من التربية أو بالرعاية الاجتماعية أكثر من الثقافة؟
قد تساعدنا النتائج المذكورة أعلاه على تفسير بعض الظواهر الماثلة أمامنا مثل التوسع الضعيف في المباني الجامعية (كليات معاهد مدن السكن الجامعي) كذلك المستشفيات العامة (مع كل نواقص الاستثمار التقديري الذي عالجناه بلغت نسبة التنفيذ ا لفعلية في قطاع الصحة 66% لعام 2000) والمراكز الثقافية والتي استغرق إنجازها فترات طويلة، تراجع إنتاج الكتاب السوري الممول من قبل وزارة الثقافة ، تراجع مستوى الكوادر التعليمية في الجامعات والمدارس نتيجة لأسباب مادية ( تدني الرواتب والأجور والمكافآت) وأسباب اجتماعية وسياسية، تخلف البحث العلمي في جامعاتنا إلخ...
والآن هل نستطيع السؤال عن موقع الإنسان في موازنتنا؟...
وهل تراكم هذه السلبيات عفوي؟...
الحقيقة أننا بحاجة إلى استراتيجية جديدة ذات منظور بعيد تعيد الاعتبار الأول للإنسان وتركز على تنميته وتربيته بالشكل الأمثل وتوفير الأجواء الأنسب له للمشاركة في بناء الوطن وهذا يحتاج كخطوة أولية وممكنة إلى تغيير في بنية الموازنة لصالح القطاعات الاستراتيجية والتي يتربع على عرشها التربية والتعليم والثقافة والرعاية الاجتماعية (قطاعات الاستثمار في البشر).
فلا نعتقد أن الاستثمارات الخارجية المأمول بها من قبل البعض ستستثمر في تطوير أبناء هذا الوطن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 156