ملف إعادة الإعمار: هل انتهت حقبة «السلام الليبرالي»؟!

ملف إعادة الإعمار: هل انتهت حقبة «السلام الليبرالي»؟!

يرتبط ظهور هذا النموذج، بمرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث يمكن أن نقسم مراحل تطور عمليات إعادة الإعمار دولياً، إلى مرحلتين أساسيتين، المرحلة الأولى هي: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الحرب الباردة، أما الثانية فهي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أي منذ مطلع التسعينيات..

 

 

مرحلة وجود الاتحاد السوفييتي

في المرحلة الأولى، ومع وجود قطبين رئيسين على الساحة الدولية، ونموذجين اقتصاديين متباينين، الأول: برعاية الاتحاد السوفييتي، والثاني: تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، فإن عمليات إعادة الاعمار، وعلى الرغم من تباينها، إلا أنها كانت تتم عبر إعادة بناء جهاز دولة، يدير بنفسه مرحلة ما بعد الحرب، حيث أراد الممولان الرئيسيان بعد الحرب العالمية الثانية أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، نجاح نماذج الإعمار بعد الحرب. وهذا ما حصل فعلاً، حيث نجحت أغلب، الدول في تجاوز الأثر المدمر للحرب، والانتقال نحو النمو والتنمية السريعة في عقد الخمسينيات، وسواء عبر خطة مارشال لإعادة إعمار دول أوروبا الغربية، أو خطة مولوتوف كبديل عن اقتصاد السوق الليبرالي، لإعادة إعمار دول أوروبا الشرقية. فإن النجاح كان حليف إعادة إعمار دول الاتحاد السوفييتي وشرق أوروبا، وكذلك اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومع اختلاف النماذج والمصائر، ولم تؤد إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية إلى تفكك هذه الدول أو إلى تهميشها.

مرحلة الهيمنة النيوليبرالية

في المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي أعقبت الحرب البادرة، يجمع الباحثون، على أن تجارب إعادة الإعمار جميعها، تمت وفقاً لنموذج «بناء السلام الليبرالي». وبالعموم نستطيع القول: أن معظم تلك التجارب هي تجارب فاشلة أنتجت دولاً هشة، مثل: العراق، أفغانستان، لبنان وكوسوفو، والتي تتوضع جميعها في مراتب متقدمة على مؤشر الدول الهشة وفق تصنيف OECD «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»

وبجوهر فشل النموذج، تكمن سيادة وهيمنة النيوليبرالية الاقتصادية في تلك المرحلة التي تم الترويج لها على أنها الحل الأمثل، لمعالجة جميع القضايا، ضمن نموذج «السلام الليبرالي». الذي أصبح الوصفة الوحيدة و«الأمثل» للبلدان الخارجة من الحروب، والتوجه السائد في عمل المؤسسات الدولية، مستنداً إلى نظرية «السلام الليبرالي» التي تقوم على مقولة أن المجتمعات ذات البنى الليبرالية، تميل لأن تكون أكثر ديمقراطية وبالتالي أكثر سلماً في شؤونها الداخلية وكذلك علاقاتها الخارجية.

وقد تميزت هذه المرحلة، بدخول المؤسسات الدولية كراعٍ لعملية (السلام الليبرالي)، مع فرض إعادة هيكلة البلدان الخارجة من الحروب: سياسياً (بإرساء الديمقراطية الليبرالية) حتى لو تطلب الأمر تدخلاً خارجياً عنيفاً! والأهم اقتصادياً، عبر فرض اقتصاد السوق الحر، مع نتائجه على عملية إرساء الاستقرار في هذه الدول..

رعاية أممية

لم يكن للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، دور رئيسي في إعادة الإعمار خلال المرحلة الأولى، حيث كان دورها مقتصراً على عمليات «حفظ السلام» أي التوسط بين أطراف الصراع، لضمان تنفيذ اتفاقيات السلام الموقعة. بينما دخلت في المرحلة الثانية في إدارة عملية «السلام الليبرالي» والترويج له في تقارير، مثل: (أجندة من أجل السلام) و (أهداف التنمية الألفية) مما شكل تحولا في دورها بين المرحلتين، وأصبح فرض النموذج الاقتصادي والسياسي، برعاية دولية أممية، تحت عنوان «بناء السلام الليبرالي».

«أجندة من أجل السلام» التي أعلنها الأمين السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي عام 1992 صنفت مهمات التدخل الدولي في الصراع، لتدخل مفاهيم أحقية المجتمع الدولي، في فرض النماذج (للحفاظ على السلام، ومنع العنف المستقبلي)، ووضعت الأسس (لفرض السلام بالقوة) وتم إضافة مكونات الأمن، الديمقراطية، وحقوق الإنسان والتنمية، كمكونات لعملية بناء السلام، وكلها من خلال الليبرالية الاقتصادية.

أداة للتدخل الخارجي

حسب الباحث (رتشموند) فإن السلام الليبرالي، يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أشكال وفقا لتطور آليات إدارة الصراعات وحل الأزمات، وهذه النماذج هي: المحافظ، الأرثوذكسي والتحرري. يعتبر النموذج المحافظ هو النموذج المطبق في العراق، أفغانستان والصومال ويقوم على فكرة فرض السلام بالقوة أكثر منه بالتوافق والتفاوض، وكذلك بناء الدولة حسب طريقة فوق- تحت والتي يتم فرض آليات بنائها إلى حد كبير من قبل الأطراف الخارجية. الشكل الثاني من السلام الليبرالي، هو: الأرثودوكسي الذي يرتكز على التواجد العسكري، وفرض الشروط من أجل تركيب مؤسسات الدولة والسياسات الاقتصادية، ومن الأمثلة على الدول التي تم تطبيق هذا النموذج فيها هي: البوسنة والهرسك وكذلك كوسوفو. أما الشكل الثالث، وهو: التحرري فيبقى حسب الباحث مجرد ادعاء لم ينجح في التطبيق ولا بأية بيئة تعاني من أزمات، حيث هو محاولة تسعى إلى تجاوز المشاكل الموجودة في النماذج السابقة، نحو نموذج يحظى بشرعية أكبر. وبالتالي أصبح نموذج «بناء السلام الليبرالي» وسيلة للتدخل الخارجي السياسي والعسكري في بعض الأحيان، وإرساء حكومات مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالرعاة الدوليين، ومتكيفة مع دور ضئيل للدولة بالقياس إلى دور المنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية العالمية. 

اقتصاد سوق حر وديمقراطية ليبرالية

«بناء السلام الليبرالي» يتكون من ركيزتين أساسيتين، وهما: الديمقراطية الليبرالية، واقتصاد السوق الحر. النموذج الاقتصادي المفروض، هو: اقتصاد السوق الحر، والانفتاح الاقتصادي الكامل، حيث يكون فيه دور الدولة محدوداً ومقتصراً على إجراءات حماية التنافسية، وآليات تحرير التجارة، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل كبير على الخصخصة، والاستثمارات الخارجية لتعزيز النمو الاقتصادي. وهو نموذج مستمد إلى حد كبير مما يسمى «توافق واشنطن» الذي يضم عشرة بنود تم تبنيها من قبل أمريكا والمؤسسات المالية الدولية، ويعتبر حزمة الإصلاحات الاقتصادية «النموذجية» والمسار اللازم للدول النامية لتحقيق التنمية. 

وهذا الأساس الاقتصادي، يقوض موضوعياً إرساء «الليبرالية للديمقراطية» التي يروج لها النموذج الدولي منذ التسعينيات. حيث أن النيوليبرالية الاقتصادية في الدول المدمرة، وضعيفة السيادة، والتي تفرض عليها الرعاية الدولية فرضاً، وفق النموذج، تؤدي عملياً إلى توسيع هامش الفقر ومزيد من التشوه في توزيع الثروة، الأمر الذي ينتج عنه عرقلة النمو والتنمية، وعدم استقرار اجتماعي، واضطرابات، الأمر الذي يولد حكماً ميل الطبقات الحاكمة نحو القمع، واستخدام القوة، للحفاظ على مصالحها، وبالتالي يبقي على الشروط المولدة لحالة العنف والحروب. لتصبح عملية فرض الديمقراطية الليبرالية وفقا «لصناع السلام» الليبراليين، هي: فرض لنموذج اقتصادي-اجتماعي مولد للعنف، وبالقوة كما حدث في كوسوفو، أفغانستان والعراق، ليصبح الأمر برمته متناقضاً مع الجوهر النظري المروج له. وليتم بناء الديمقراطية الليبرالية في العراق كما في غيره من خلال ضرب جهاز الدولة، وحل أهم مؤسساته، كالجيش، والمنشآت العامة عبر الخصخصة، بالمقابل إرساء عملية (سلام ليبرالي) أنتجت صفقات فساد قياسية، وفق تقارير الحكومة الأمريكية، والأهم أنها حولت العراق كما أفغانستان والكونغو وغيرها إلى بؤر للفوضى، ليكون نموذج (بناء السلام الليبرالي)، هو الدعاية المنمقة الدولية (لنموذج الفوضى النيوليبرالية)..

 

المصادر:

The Political Economy of Peacebuilding: A Critical Theory Perspective), Pugh, M 2005

 

The problem of peace: understanding the liberal peace, Richmond, OP 2006

 

The Evolution of Post-conflict Recovery, Barakat, S, & Zyck, S 2009.

 

يمكن العودة إلى ملف إعادة إعمار سورية في قاسيون للإطلاع على مجموع التجارب السابقة.

يسعى منظرو نموذج «بناء السلام الليبرالي» إلى تثبيت فكرة أنه الليبرالية الاقتصادية هي شرط الديمقراطية، وإرساء السلام! بينما التجارب تقول بأن هذا النموذج الدولي، أنتج في الدول النامية بعد الحروب دولاً هشة وبؤراً للفوضى وتوليد العنف. فهل مشروع إعادة اعمار سورية سيتم وفقا للأجندة الليبرالية الدولية؟ وبالتالي إعادة نسخ تجارب فاشلة؟ نعتقد أن الظرف الاقتصادي-السياسي الدولي، يعلن نهاية النيوليبرالية، ويسمح لسورية بعد الحرب، بخلق نموذج إعادة إعمار بديل يتوافق مع بنية المجتمع وحاجاته، ويكون هدفه بناء دولة قوية ذات سيادة، وهذا أبعد ما يكون عن نموذج «بناء السلام الليبرالي»، الذي يعكس هيمنة النيوليبرالية الأمريكية منذ التسعينيات، هذه الهيمنة التي تقوضها اليوم القوى الاقتصادية والسياسية الصاعدة عالمياً، ما يدعم إقامة نموذج إعادة اعمار تحرري في سورية بعد انتهاء الحرب، جوهره رفض الليبرالية الاقتصادية، وفق بدائل يصيغها السوريون ويناضلون لإرسائها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
788