اقتصاد السوق الاجتماعي على طاولة البحث..

عقدت الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية جلسة حوار دعت إليها نخبة من الاقتصاديين السوريين لمناقشة «اقتصاد السوق الاجتماعي بين المفهوم والتطبيق»، وجاءت مداخلات الباحثين الاقتصاديين المتتالية لتشير بوضوح إلى أن اختلاف الرؤى حول أصل هذه التسمية لم يمنع من التوافق على أن ما تم من إجراءات تحت عنوان «اقتصاد السوق الاجتماعي» لم يساهم إلاّ في تعميق سوء الأوضاع الاجتماعية في البلد، أي باختصار وبما أن الأمور تقاس بنتائجها: أتت الرياح بما لم يشته الذين فتحوا النافذة أول الأمر.

دار النقاش مساء الثلاثاء 14/7/2009 في إحدى قاعات مكتبة الأسد، بلغة اقتصادية لونت السياسة حروفها، وكانت «قاسيون» حاضرة، وفيما يلي بعض ما جاء من كلام المحاورين:

د. عيسى درويش:
أين حصة الكادحين من العملية الإنتاجية؟
تناول د. عيسى درويش الموضوع موضحاً أن حزب البعث العربي الاشتراكي طرح مبدأ الاشتراكية كشيء منبثق عن الأيديولوجيا دون شك، وذلك ضمن إطار مشروعية الحزب لقيادة البلد، وأن اقتصاد السوق الاجتماعي ليس نظرية وإنما هو نهج، وأي نهج يثبت فشله يجب أن يغير و..«أنا أنطلق من اعتباري مواطناً أتساءل: من هم الناس الذين يسهمون في العملية الإنتاجية؟ أي من يصنع مكونات الناتج الإجمالي؟ وما هي حصص قوى الإنتاج من الناتج الإجمالي؟ أنا بالنسبة لي كإنسان يدعي بأنه يقود الكادحين وله مشروعية في ذلك نالها من الحزب القائد في هذا الموضوع، وطالما أنني حائز على المشروعية السياسية لأتبنى مصالح هؤلاء التي عبر عنها في المؤتمر القطري العاشر، فأنا أسأل في هذه النقطة من التاريخ: أين حصة هؤلاء من العملية الإنتاجية؟ أي أين يذهب الريع أو الربح الاقتصادي الناتج؟ لا يعقل أبداً أن أدعي بأنني اشتراكي وضمن اقتصاد اجتماعي إذا كان 95 % من الناس الذين يصنعون العملية الإنتاجية ينالون 5 % فقط من هذا الناتج، بينما هناك 5 % تأخذ 95 %، هناك خلل وهو في تقديري كبير جداً ولا يجوز إهماله».
وتابع د. درويش: إن الاقتصاد السوري الآن يمشي نحو الليبرالية والاقتصاد الرأسمالي، وبالتالي فإن الحكومة تغتال أو تحاول أن تسيطر على كل شيء في البلد بما في ذلك رقابتنا الحزبية التي نستمد بها مشروعيتنا لنحافظ مع كل الأحزاب وأصحاب المصلحة في البلد على ازدهار الوطن وكماله.. لقد آن الأوان لكي نجلس كمحبين لهذا الوطن- وفي تقديري إن القيادة السياسية ستقوم بذلك غداً أو بعد غد- لأن الحزب أعطى في المسافة بين مؤتمرين قطريين شيئاً من حرية العمل لامتحان مسار (نهج اقتصاد السوق الاجتماعي)، ويجب أن نحدد تماماً إلى أين يجب أن نسير. وفي تقديري إن هناك أموراً عديدة كابحة، فهناك أمور نتمناها و أمور أكبر من الأمنيات، فحتى الآن لم نصل إلى مستوى الدولة الحديثة التي وصلت إليها الدول الأوروبية التي تبنت الاشتراكية الديمقراطية أو ما يسمى اصطلاحاً باقتصاد السوق الاجتماعي.
 
د. قدري جميل:
الفاقد الاقتصادي المرتفع وحجم الفساد لم يعودا يسمحان بالتقدم

وبين د. قدري جميل في مداخلته أن الكلام عن نهج اقتصاد السوق الاجتماعي يجب أن يتم وفق قاعدة «الأمور تقاس بنتائجها وليس بشعاراتها»، وأضاف: أن السياسية الاقتصادية المطبقة حالياً في سورية والتي مضى على البدء فيها الكثير لم تحقق شيئاً من شعاراتها، ولنأخذ الفقر والبطالة والنمو، فقد كانت معدلات الفقر في سورية وفق تقرير الأمم المتحدة مع بداية الخطة العاشرة 11% من السكان في الحد الأدنى، وفي الحد الأعلى 30%، واليوم وصلنا إلى 14% كحد أدنى والحد الأعلى أصبح 44%، وكان نصيب قطاع المال من النمو 30% ولكن قطاعات الإنتاج السلعي كان نموها سالباً، وهذا يفسر نسب التضخم لأن الكتلة النقدية تنمو بوتائر أعلى بكثير من الكتلة السلعية التي لا تنمو أصلاً، أما البطالة فلا داعي للحديث عنها لأن أحداً لا يتبجح بتحقيق انتصارات على هذه الجبهة، ولكن قد يقول البعض إنه لابد من هذه المشكلات لأننا نمر بمرحلة انتقالية، والسؤال: هذه التراجعات في مجال النمو والفقر والبطالة هل هي سمة مؤقتة لعملية الانتقال أم هي صفة لها علاقة بالبنية العضوية للسياسات الاقتصادية المطبقة في البلد؟
وتابع د. جميل: إن مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي مصطلح توفيقي وهو أمر مشروع ومبرر ضمن لحظته التاريخية فقط، فهذا المصطلح التوفيقي كان له ظرفه التاريخي المحدد، وهو ظرف ما قبل الأزمة، واليوم هناك أزمة عالمية عميقة لها دلالاتها التي يجب أخذها بعين الاعتبار مع نتائجها والدروس التي وفرتها، وهذا ضروري لنتمكن من تحديد المفاهيم والمصطلحات التي نتبناها بشكل أعمق وأكثر صحة، فاليوم أصبح الوقت ملائماً لبحث هذه النقطة لأن العالم لم يقف عند عام 2005- سنة عقد المؤتمر القطري العاشر- فنحن اليوم في عام 2009 وفي طريقنا إلى 2010، وهناك نتيجتان هامتان أولهما: أن نموذج اقتصاد السوق الليبرالية انهار عملياً، وأنا أؤكد أنه ليس هناك لدى الدول التي تعاني الأزمة مخرج بالمعنى التقليدي المعتاد، والمشكلة الثانية هي أن كل النموذج النظري الذي استند إلى النظرية النقدية خلال قرون قد انهار، لأن جذور الأزمة عائدة إلى النظرية النقدية (النقودية) التي كانت تجد الحلول للأزمات، والكنزية كانت في مرحلة تاريخية معينة إحدى حلولها، وستؤكد الأيام اللاحقة ما أقول حيث سترون لأول مرة في التاريخ نظرية عمرها أكثر من 200 عام تنهار، والدليل على ذلك هو ما يجري من لغط كبير حول فشل الاقتصاديين الغربيين بالتنبؤ بالأزمة الحالية، أي حول فشل علم الاقتصاد، وتحديداً علم الاقتصاد الذي استندوا إليه بنسخته النقدية فأثبت فشله التام. إننا في وضع جديد، فالعالم ينتقل معرفياً وفكرياً وعملياً إلى وضع جديد، وما كان توفيقياً وصالحاً عام 2005 أصبح اليوم غير صالح، ويجب اليوم أن نبني على ما هو آت.
ورأى د. جميل أن مشكلة سورية ليست في التخطيط المركزي، إذ لم يكن لدينا تخطيط مركزي، بل كان في سورية نموذج مشوه عن اقتصاد السوق، والدليل هو الفساد الذي يعد أجلى أشكال اقتصاد السوق المشوه، إذ يجري التحكم بالعرض والطلب بشكل مصطنع لتأمين أرباح أولئك الموجودين في المواقع التي تسهل لهم الحصول على امتيازات، ولكن نتائج النمو والعدالة الاجتماعية التي كان يحكى عنها في المرحلة التي توسم بالتخطيط المركزي تفوق بمرات النتائج التي تتحقق في هذه الأيام، رغم كل ما يقال عن سلبيات المرحلة السابقة. ولكن يجب الإشارة إلى أننا خلال الفترة الماضية أخطأنا بعلاقة الاقتصادي بالاجتماعي، إذ خفضنا الفعالية الاقتصادية على المستوى الجزئي ما أدى إلى تخفيف الفوائض على المستوى الكلي، والمطلوب هو رفع الفعالية للحد الأقصى على المستوى الجزئي لتأمين الفوائض الضرورية على المستوى الكلي لتأمين المهمات الاجتماعية المنوطة بالدولة، والذي يمنع هذه الفعالية هو الفساد بالدرجة الأولى والثانية والثالثة.. لأن ما يذهب من فاقد اقتصادي باتجاه الفساد هو بحدود 30% من الدخل الوطني، وهذه النسبة يمكن أخذ نصفها وإضافته للتراكم، ونصفها الآخر يضاف إلى الأجور، وهذا يضاعف الاستهلاك عملياً، فهناك فاقد اقتصادي مرتفع وحجم الفساد في الاقتصاد الوطني لم يعودا يسمحان بالتقدم إلى الأمام، لا على مستوى النمو ولا على مستوى جبهة العدالة الاجتماعية فالفساد أصبح معيقاً بكل المعاني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للتطور اللاحق للبلاد، وهذه هي العقدة الأساسية التي ما لم تحل فلن يحل أي شيء آخر.
 
د. منير الحمش:

الأزمة في الاقتصاد السوري بدأت قبل الأزمة العالمية
 
د. منير الحمش الذي ترأس جلسة النقاش، وبعد أن تطرق إلى الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها وما استتبعته من إجراءات حكومية جزئية أو كلية حول العالم، أوضح أن سورية كغيرها من البلدان النامية تأثرت وستتأثر بالأزمة وتداعياتها، لكنه رأى «أن الأزمة في الاقتصاد السوري بدأت قبل الأزمة العالمية التي زادت من أزمة الاقتصاد السورية بطبيعة الحال، والسبب في الأزمة السورية يعود إلى السياسات الاقتصادية المتبعة والتي جاءت تحت عنوان التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي وفقاً لقرار القيادة السياسية في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهذا يطرح أسئلة جادة حول مفهوم الاقتصاد الاجتماعي، وحول ما إذا كانت السياسات الاقتصادية المتبعة في سورية تعبر عن هذا المفهوم وعن مضامينه. إن مصطلح أو تعبير اقتصاد السوق الاجتماعي هو مصطلح توفيقي، فهو يجمع بين السوق والمجتمع، وكلا التعبيرين يعد من التعابير المحببة لدى جانب أو أكثر في الأوساط الاقتصادية ولدى المفكرين الاقتصاديين، وتعبير السوق هو تعبير محبب في الفكر الليبرالي، بينما المجتمع هو تعبير عزيز على قلب الاشتراكيين، ذلك أن تعبير اقتصاد السوق الاجتماعي كتعبير توفيقي يخفي وراء جاذبيته التباساً في المضمون والمفهوم وفي السياسات الإجرائية، ما يوقعه ضحية التنوع في النظريات الاقتصادية واستخداماتها وتوجهاتها، كما يجعله في العديد من الحالات يستخدم لتحقيق أغراض مختلفة، قد تكون متعارضة، مما يضعه في حالة عدم توازن بين المقاربة النظرية والمقاربة البراغماتية، فبعد مضي أربع سنوات على قرار القيادة السياسية بالتوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي في سورية، ما يزال الجدل دائراً بين النظرية والتطبيق، بين المفهوم العلمي لمدرسة اقتصاد السوق الاجتماعي وبين التطبيق الذي تعبر عنه السياسات الاقتصادية المعتمدة من الحكومة.

د. فضلية:
هل صفة الاجتماعي هي بديل كامل للنهج الاشتراكي؟
 د. عابد فضلية أوضح أن اقتصاد السوق الاجتماعي هو عبارة عن نهج تم إقراره في المؤتمر القطري العاشر للحزب ولم يعد مجرد فكرة، وتابع: اقتصاد السوق الاجتماعي يعني نظرياً التوفيق ما بين الملكية الخاصة والعدالة الاجتماعية، ما بين المبادرات الفردية وتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية بما يضمن توجيه المبادرات لخدمة المصلحة العامة، كونه عقداً اجتماعياً بين قوى المجتمع. ويجب الاعتراف بأن مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي ما يزال غامضاً في حدوده وأبعاده وأغراضه بالنسبة للحالة السورية، والأهم هو غياب الاتفاق على هذا المفهوم وعلى وظائف ومهام ومسؤوليات الفرقاء الشركاء في المجتمع ضمنه، لذلك فقد تباينت مواقف ووصفات ونصائح وبرامج أصحاب الفكر الإصلاحي في سورية بمقدار ما يكتنف هذا المصطلح من غموض، وثمة فرق كبير بين أهمية تبني نهج اقتصاد السوق الاجتماعي وبين توفير المقومات اللازمة والسليمة لتطبيقه ولنجاح هذا التطبيق، فالحل الناجح ليس في الفكرة فقط- حتى وإن كانت سليمة.
وتابع د. فضلية متسائلاً: هل صفة الاجتماعي هي بديل كامل للنهج الاشتراكي؟ أم أن الصفة الاجتماعية لاقتصاد السوق تنسجم مع اقتصاد ذي توجه اشتراكي، أم أن اقتصاد السوق الاجتماعي هو مرحلة انتقالية إلى اقتصاد ذي توجه اشتراكي؟ أم ليس هناك علاقة بين هذا الاقتصاد والاشتراكية؟.. ما هو النموذج النظري الذي يتم، أو الذي يجب أن يتم الأخذ به في عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها البلاد؟ وهل يتم الإعلام حول مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي بما ينسجم فعلاً مع هذا المفهوم؟ والأهم هل التشريعات والإجراءات التي يتم اتخاذها وتنفيذها منسجمة مع فلسفة وأهداف اقتصاد السوق الاجتماعي؟. كما أكد د. فضلية في معرض حديثه أن اقتصاد السوق الاجتماعي ليس نظاماً، مبيناً أن الاجتماعي هي صفة لاقتصاد السوق الحر يكتسبها عندما يصل إلى مرحلة متقدمة من التطور، وأنهى مداخلته بالقول إنه لا توجد وصفة جاهزة لاقتصاد السوق الاجتماعي.
■■
 
د. محمد توفيق سماق:
كلمة «اجتماعي» في «اقتصاد السوق الاجتماعي» مقصودةً بذاتها
 
وبدوره تقدم د. محمد سماق بمداخلة أكد فيها أن فهمه لاقتصاد السوق الاجتماعي يتلخص في عبارة «من السوق بقدر الممكن ومن الدولة بقدر الضرورة»، وهذا يعني أن يتم السماح لقوى السوق بأن تفعل فعلها إلى أوسع حد ممكن، وكلمة (ممكن) هذه إنما تحددها مقتضيات العدالة الاجتماعية.
وبالنسبة لكيفية اعتماد هذا النموذج في سورية قال د. سماق: إن القيادة قدمت في المؤتمر القطري تقريرها الاقتصادي الذي كان جزء منه عبارة عن تحليل للوضع الاقتصادي الراهن، وجاءت فيه توصية واضحة مقدمة للحكومة بالتوجه نحو اقتصاد السوق والاندماج في الاقتصاد العالمي والتشجيع على الاستثمار.. وجرت حوارات واسعة ومتشعبة بعد طرح هذا التقرير، وطالب العديد بأن المطلوب ليس فقط اقتصاد سوق وإنما اقتصاد سوق اجتماعي، فكلمة اجتماعي يحاول البعض أحياناً تصويرها على أنها جاءت إضافة لا لزوم لها، وهذا الكلام ليس صحيحاً، فهذه الكلمة كانت مقصودةً بذاتها في المؤتمر وليست إضافة أبداً، فربطت عملية التحول بالقضية الاجتماعية وقضية العدالة.   
 
د. حيان سلمان:
الأسواق بحاجة إلى من ينظمها
 
أما د. حيان سلمان فأعرب عن اعتقاده بأن اقتصاد السوق الاجتماعي ليس جمعاً جبرياً بين اقتصاد السوق والصفة الاجتماعية، بل هو نهج اقتصادي جديد اعتمدته القيادة حتى لا تلتهم الدولة المجتمع، وتكبر على حسابه كما حدث في الاتحاد السوفييتي، أو حتى لا تكون الأمور للأسواق وانطلاقتها لأن الأسواق بحاجة إلى من ينظمها، وعلى هذه القاعدة تم اعتماد نهج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يمكن تعريفه بأنه نهج «الأسواق وانطلاقتها والدولة وتوجهاتها»، وبالنسبة للتطبيق رأى د. سلمان أن التطبيقات التي أجرتها الحكومة للوصول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي ليست على المستوى المناسب ولكن لا يمكن القول إنه لا وجود للتطبيق أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
412