أيادٍ خفية تتحكم بالسوق العقارية..
يبدو أن الندوات التلفزيونية التي يقدمها الإعلام السوري هي من يحرضنا للحديث عن بعض القضايا التي تحدثنا عنها في السابق، لأنه يصرُّ على معالجة قشور تلك المشاكل المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد والسوريون معاً، ولا يود أو لا يمتلك القدرة المعرفية أو المصلحية، للوصول بالقضية إلى جذورها، أو رؤيتها بشكل أشمل، وهذا ما جعل من الإعلام السوري قاصراً عن معالجة مشاكل السوريين، فالأيادي الخفية التي جرى الحديث عنها منذ سنوات كمتحكم بسوق العقارات تاريخياً، جاء من ينسفه من جذوره أمس، رغم اعترافه بالمليارات التي جرى توظيفها في سوق العقارات من جانب القطاع العام والخاص، والتي يفترض بها حل مشكلة السكن التي يعاني منها الشباب السوري أولاً، والحد من ارتفاع أسعار العقارات بالدرجة الثانية، إلا أن المشكلتين حافظتا على وجودهما..
فشل الرهان
بالأمس القريب، وفي عام 2003 تحديداً، احتج تجار العقارات بدخول ملايين العراقيين، كمبرر أساسي لرفع أسعار العقارات بنحو 6 أضعاف في السوق المحلية، لأنهم خلقوا طلباً مرتفعاً مقابل عرض قليل، وهذا من الناحية المنطقية طبيعي، إلا أن حقيقة مغادرة جزء غير قليل من العراقيين لسورية، لم تفلح في المقابل بلجم ارتفاعات الأسعار في سوق العقارات، لا بل إن الأسعار حافظت على مستواها، رغم تراجع الطلب، وبقيت مشكلة السكن قائمة أيضاً، على الرغم من وجود مئات آلاف الشقق الفارغة في سورية حسب اعتراف الجهات الرسمية، ألم يكن من المفترض بهذا التراجع الفعلي بأعداد العراقيين في سورية أن يساهم بانخفاض أسعار العقارات؟! أو يسبب حصول انفراجات في هذه السوق؟!
آمال ضائعة
في المقابل، ومع بروز الأزمة العالمية التي ضربت القطاع العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية نهاية عام 2008، وتحولها فيما بعد إلى أزمة اقتصادية ضربت جذور النظام الاقتصادي المالي في كل من أوروبا وأمريكا، راهن الكثيرون، وأملوا خيراً من أن تنعكس تلك الأزمة من تخفيض أسعار العقارات في السوق السورية، حيث تؤكد إحدى الدراسات الحديثة أن أسعار العقارات في سورية ارتفعت بنسبة 500% بين العام 2000 – 2009، إلا هذه الأزمة العالمية، التي تأثرت بها دول العالم كافة، فشلت في التأثير بالاقتصاد السوري عموماً حسبما أكدت الإدارة الاقتصادية مراراً، والاهم من كل ذلك عجزها عن كبح جماح صعود أسعار العقارات في السوق السورية؟!.
الأيادي الخفية
أما البعض الآخر، فإنه راهن -في الماضي - على الركود الذي تعيشه السوق العقارية، وعلى دوره المفترض في تخفيض الأسعار أيضا، إلا أنه عاد خائباً في رهانه حينها، كما أن الركود الذي يؤكده أصحاب المكاتب العقارية اليوم، هو أشد من سابقه، والذي يعتبر أحد أبرز المؤشرات المؤدية لانخفاض الأسعار، وخصوصاً بعد توقف القروض التي تقدمها المصارف السورية، والتي كانت تساهم في مساعدة البعض بالحصول على شقة سكنية، وهذا الركود يعني بالضرورة تراجع الطلب، إلا أن الأسعار لم تنخفض أيضاً، فإذا أخفق (الركود على اختلاف المراحل الزمنية، والتوظيفات المالية الكبيرة في سوق العقارات، والأزمة الاقتصادية العالمية) مجتمعين في تخفيض أسعار السوق العقارية، أفلا يحتم هذا علينا التأكيد بأن السوق العقارية السورية لا تزال اللغز العصي عن التحليل والفهم حتى اليوم؟! أي أن هناك أياديٍ خفية متحكمة في السوق، وهي التي جعلت من سوق العقارات على امتداد أكثر من عقد من الزمن عصية عن التراجع رغم كل الأزمات؟!..
كما أنه من حقنا سؤال كل الرافضين لفكرة وجود مئات آلاف الشقق الفارغة في سورية، والتي تؤكدها تقارير المكتب المركزي للإحصاء، ووسائل إعلام مختلفة، لماذا ترفضون فكرة فرض ضريبة بنحو 15% على الشقق الفارغة؟! ولكي لا يقول أحد إن الفكرة فرنسية وتطبيقها لدينا أمر مستحيل، فإننا نحيل قوله هذا لتجربة دولة المغرب، والتي قدم فيها بعام 2008، أي منذ أربع سنوات تقريباً ، مشروع قانون لفرض ضريبة على الشقق الفارغة، والتي تزيد عن 700 ألف شقة غير مسكونة، لأن هذه الضريبة إذا ما فرضت لدينا، فإنها ستساهم في التخفيف من أزمة السكن وانخفاض أسعار العقار أيضا..
غياب الدور الرقابي للدولة
واقع السوق العقارية يجدد في كل يوم تذكير الباحثين عن سكن لهم من أصحاب الدخل المحدود بمعاناتهم، هؤلاء الذين يشكلون غالبية الشباب السوري, الآملين بانخفاض أسعار العقارات، كحل وحيد يفسح المجال أمام امتلاكهم السكن المتناسب مع دخلهم وإمكاناتهم، لأن التغييب المقصود لدور الدولة التدخلي الحقيقي في سوق العقارات، وفقدان أي دور رقابي على القطاع العقاري، وتركه عرضة لتجاذبات ورغبات القطاع الخاص، وهو ما أدى لانفلات باب التسعير حسب المزاج والمضاربة، والذي أدى بدوره إلى تحليق أسعار العقارات متجاوزة مثيلاتها في معظم الدول العربية والشرق الأوسط، بل إن أسعار العقارات عندنا دخلت مجال المنافسة العالمية من أوسع الأبواب، وهذا ما جعل من دمشق المدينة الثامنة عالمياً بأسعار العقارات، فهل من المنطق أن تكون أسعار العقارات لدينا مساوية لأسعار العقارات في قائمة المدن العشر الأغلى عالمياً بأسعار العقارات، والتي تتفوق فيها حصة الفرد عشرة أضعاف مقارنة بحصة الفرد السوري من الناتج الإجمالي، ودخلهم يفوق دخلنا بأضعاف مضاعفة؟! ومن حق السوريين العاجزين عن تأمين السكن، والذي هو أساس وقاعدة الأمان الاجتماعي، بفعل الاحتكار والمضاربة وارتفاع الأسعار، إلى متى ستبقى حالة الانفلات والاحتكار في السوق العقارية؟! لأنه لولا هذه المضاربة وهذا الاحتكار الذي تؤكده الوقائع لما حافظت سوق العقارات لدينا على حال أسعارها رغم كل تلك المعطيات المحلية والعالمية، التي تفترض واقعاً عقارياً مختلفاً لما نعيشه اليوم!.