بصدد وضع الليرة السورية.. «الحق على الطليان»
عاب بعض أكاديميي الاقتصاد السوري بشكلٍ تسفيهيٍ على غير الاختصاصيين قرعهم ناقوس الخطر مما سُمي «الانخفاض المفاجئ» لقيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، وقفز سعر صرف الدولار في السوق إلى حدود 59 - 60 ليرة في بعض اللحظات بعد أن كان سعر الليرة السورية يتذبذب طيلة الخمس عشرة سنةً الماضية بين 48 و53 ليرة، عبر مدٍ وجزر. وليست هذه الإعابة التسفيهية في جوهرها سوى شكلٍ من أشكال تعجرف المنطق الوصائي، إلى درجة أن وزير الاقتصاد السوري السابق قد حاول في أواخر أيامه «الحكومية» أن يطمئن المتخوفين على الليرة، أنها في «أيدٍ أمينة»، وأنه يحرص عليها حرصه على ابنته.
إن عمومية آثار انخفاض سعر الليرة في طور التحرير التدريجي «الليبرالي» والمتعدد السرعات للاقتصاد السوري، على أصحاب الدخل المحدود وعلى الإنفاق الرعوي الاجتماعي، هي أخطر من أن تترك لـ «الفهيمين» وحدهم، فالناس يريدون أن يعرفوا إلى أين تمضي بهم تلك السياسات في ظل غياب التعويضات عن آثارها وكلفتها، ذلك أن الاقتصاد سياسي في جوهره.
ومن هنا كان اسم العلوم الاقتصادية في القرن التاسع عشر هو اسم «الاقتصاد السياسي» الذي تم اختزاله اليوم في إطار الزواج ما بين الإيديولوجيا الليبرالية الجديدة وبين الرياضيات إلى علم الاقتصاد. وحاصل هذا الزواج هو نفي السياسة عن الاقتصاد، وتبرير خصخصة الملكية العامة أو خصخصة إدارتها كما يتجه الإصلاح الاقتصادي السوري نحوها.
ربما يسجل لرئيس الحكومة السورية الدكتور محمد مصطفى ميرو أنه قد بادر قبل حوالي شهر إلى عقد اجتماع مع اختصاصيي الحكومة في مجال السياسة النقدية، وطرح سؤالاً عن عوامل ارتفاع سعر صرف الليرة بالنسبة إلى الدولار إلى ما معدله يومئذٍ حوالي 53 ونصف ليرة إلى 54 ليرة في بعض اللحظات. ولقد نشرت الصحف السورية ذلك يومئذ، وكان ذلك يعني أن الحكومة قد أخرجت موضوع الدولار لأول مرة من اسمه السري في تعاملات السوق السوداء، وهو اسم «الأخضر» إلى اسمه الحقيقي وهو «الدولار».
ولكن ما يثير الاستغراب في مساءلة الحكومة اختصاصييها عن سر الارتفاع في الصرف يومئذ وعن سره في الأسبوعين الماضيين، هو أنها لا تريد أن تعترف أن السياسات التحريرية الاقتصادية تعني دولرة الاقتصاد، وأن قيمة العملة السورية ستخضع لما تخضع له أية عملة أخرى بما فيها الدولار نفسه في إطار تركيبة السوق العالمية. ولذلك لا يحتاج المرء إلى أن يكون اختصاصياً أو غير اختصاصيٍ كي يذكر اختصاصيي الحكومة بأن رمي «التراجع المفاجئ» لليرة على «الطليان»، أي على العامل الخارجي، هو أمر يتناقض مع توجهات الاندماج الاقتصادي التحريرية السورية، التي تميع فيها الفواصل «الصلبة» ما بين الخارجي والداخلي.
مؤشرات الاقتصاد الكلي بلغة الاقتصاديين مطمئنة، فالمديونية محدودة واحتياطي القطع النادر كافٍ تماماً لحماية الليرة، ويصل في بعض التقديرات إلى 15 بليون دولار، ومعدل التضخم يقترب من الصفر، والميزان التجاري السوري رابح، وميزان المدفوعات متوازن، وعجز الموازنة يكاد ألا يذكر. ومن هنا فإن السبب يعود على «الطليان»، وهو أزمة الموضوع العراقي، ومنح المصارف اللبنانية معدلات فوائد غير اعتيادية تشبه فوائد «جامعي الأموال»، وتقلص السياحة كما يقول وزير الاقتصاد في حين أن وزير السياحة يقول إنها قد زادت، وهجوم التجار الكبار على تبديل الليرة بالدولار في الأسواق اللبنانية التي تشكل أساس أسعار السوق السورية السوداء.
لكن من هم هؤلاء التجار «المتمولون» الكبار الذين هزت «مخاوفهم» و«تبديلاتهم» قيمة الليرة بشكلٍ أطلق حقاً صفارات الخوف عليها؟ لقد نشرت صحيفة «الثورة» الرسمية خبراً عن إلزام شركتي الخليوي بإيداع أموالهما يومياً في المصارف السورية. ودلّ ذلك على أنه لا دخان دون نار، وتكمن هذه النار في ما نشر في بعض الصحف اللبنانية عن تهريب الشركتين لأموالهما «المليونية» إلى لبنان وقيامهما بتحويلها من الليرة إلى الدولار، ما أدى إلى الأزمة، غير أنه بعد أقل من يومين اضطرت الجريدة الرسمية نفسها إلى نشر رد وزارة المواصلات، بأن ما نُشر غير صحيح وأن الإيداع اليومي المصرفي يأتي «ضمن الإجراءات الروتينية بين مؤسسة الاتصالات والشركتين أي أنها تخضع لحالة استثنائية طارئة». وهو كلام غامض يسكت أكثر مما يفصح، ويعمي أكثر مما يبين، ويحتاج لدرجة غموضه إلى «فاطمة البصارة» لفهمه.
إن الحفاظ على سعر الليرة يكلف الحكومة سنوياً وفق تقديرات بعض الخبراء حوالي 500 مليون دولار ونيف، لكن الحكومة لم تتبع هنا سياسةً تدخلية على طريقة ضخ الدولارات في السوق وشراء الليرة لحماية قيمتها، انطلاقاً من اطمئنانها إلى قوة الليرة، وتغطيتها بنسبة لا تقل عن 40 في المائة من الذهب والقطع النادر التي تعتبر من أعلى النسب المعتمدة عالمياً، بعد أن كانت التغطية السابقة تسمح بحدود 10 في المائة فقط للتغطية، لكنها قامت بسلسلة إجراءات تدخلية فورية غير مباشرة.
لكن كيف حدث هذا الاهتزاز الذي استمر اضطرابه لمدة تصل إلى حدود أسبوعين مع تلك القوة؟ إذا كان بعض بارونات المال قد تمكنوا من خلق الأزمة أو أدوا إليها في ظل توتر المسألة العراقية حسب ما يقول خبراء الحكومة، فما الذي يمنع أن يقودوا الأمر إلى ما هو أسوأ منه في أوقات الحرب الحقيقية التي يبدو أنها قادمة؟
إن وضع السياسة المالية إذا ما استمر بارونات المال الجدد في سورية بتهريب أموالهم وتبديلها في الأسواق المجاورة، ورفض إيداعها في البنوك السورية، مع وجود القدرة على تقنين ذلك وضبطه، سيكون أسوأ من وضع «المبخّر» الذي يقول المثل الشعبي إن ألفاً منه لا يستطيع أن يغطي أي رائحة كريهة. وكما يقول المثل أول الرقص حنجلة.
محمد جمال باروت