شعار الإصلاح هل يبقى مجرد كلام نظري؟ الأسواق بلا رقيب.. والمستهلك بلا حماية
لم يكن يخطر ببال محمد ويحيى أن رحلتهما البريئة، لشراء ربطة خبز من أحد المحال المجاورة لمنزلهما، بناحية جرمانا، ستنتهي بهما ضمن براد الموتى، بدل أن يضما أرغفة الخبز، لا لشيء سوى مصادفتهما لحفرة مفتوحة، اعتقدا لوهلة أنها لاصطياد القاذورات وليست لاصطياد عصافير الطفولة.
الحادثة التي هزت الرأي العام منذ أيام، وسط تجاهل حكومي معتاد، جاءت لتقرع مجدداً خطر الآثار المترتبة على انسحاب الدولة من المجال الاجتماعي، ولتضع مسألة المستوى المعاشي على الطاولة لابوصفها رغيف خبز فقط، بل بإصلاح حفرة تجنب انزلاق طفلين إلى باطنها، خاصة بعد أن حسمت الحكومة أمرها بالانتقال نحو اقتصاد السوق المرعب، ذلك النموذج الذي وضع أسسه منذ أواخر الثمانينات، «ولسخرية القدر» النائب السابق عبد الحليم خدام، قبل أن يغادر السفينة إلى باريس، ليحاضر في العفاف كأي بائعة هوى، مبديا الحزن على أبناء شعبه، الذي يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، بعد أن حصّل ثروة تقدر بنسبة 5% من الدخل الوطني السوري، وهو رقم كاف بحد ذاته لتفسير العلاقة السببية بين ازدياد القصور الفخمة لرجال يحاضرون في العفاف والإصلاح وبين حفرة للقاذورات التهمت طفلين بريئين.
هو مشهد تراجيدي لفيلم إصلاحي طويل، يبدأ بالانتقال إلى التخطيط التأشيري، إلى تشجيع القطاع الخاص وخصخصة القطاع العام، يخرجه النائب المنشق، ويعد السيناريو الاقتصادي الليبرالي «نبيل سكر»، وينتجه أشهر المقاولين في الشرق الأوسط «رفيق الحريري»، لكن الفيلم الإصلاحي الذي جرى الإعداد له منذ أواخر الثمانينات، لن يكتمل عرضه إلا مع مجيء مخرج آخر يحمل صفة- طاقم أقتصادي- والذين من شدة تأثرهم بالفكر الغربي، سيديرون دفة السفينة دورة كاملة نحو شواطئ الأطلسي، لتكون أول لقطاتهم الإصلاحية الفذة «تحرير الأسعار»، تاركين العباد تحت خدر دوار البحر اللذيذ، حيث لن تجدي الحبوب المهدئة في معالجة آلام المغص الشديد، فالإصلاح كما يقولون: «لن يتحقق دون استحقاقات اجتماعية مؤلمة» وسيكون من الواجب الوطني مثلاً أن يقوم كل فرد برأب عجز الموازنة من خلال دعمه للدولة بـ 41 ل.س عن كل ليتر من البنزين، بعد أن تبين بأن الكلفة الحقيقية لليتر الواحد في المصافي المحلية هو بحدود 7.25 ل.س.
«فعندما تربح الدولة، يربح المواطن» يقول الممثل الحكومي. . منطق إصلاحي سديد لكنه لايحدث، فالكاميرا تمتص نور الإصلاح وتلقيه ضوءاً على وجه مسؤول يحمل صفة نائب أو وزير أو . . . . وليس لامتصاص نور يلقيه ضوءاً أمام طفلين أرسلهما الأب ليشتريا ربطة خبز فغرقا في الفضلات. . . .
أسعار السوق
فتح باب الاستيراد وتحرير الأسعار واعتماد قانون العرض والطلب، عناوين رئيسية تحاول الحكومة بإصرار تكريسها من أجل تحقيق التوازن السعري والاندماج بالسوق العالمية، لكن بدا واضحاً أن تلك السياسات قد أفضت إلى انفلاش بالأسعار، وانقلاب السحر على الساحر، بشكل أثر سلباً على المستهلكين وقدرتهم الشرائية، حيث تصاعد سعر مادة السكر في السوق المحلية ليصل إلى حدود 35 ل.س، أي بمعدل زيادة 75% عن العام الفائت، بعد أن اتبعت الحكومة سياسة رفع الدعم التدريجي عن هذه المادة ولجوء التجار إلى احتكارها. كم وصل سعر كيلو لحم الضأن إلى 600 ل.س، بعد أن أصدرت وزارة الاقتصاد مؤخراً قراراً يقضي بتصدير ذكور الأغنام والماعز الجبلي، دون أن تلزم المصدرين باستيراد كميات من اللحوم تقدر بضعف الوزن المصدر كما كان سارياً من قبل، مما شجع التجار على زيادة تصدير هذه الأغنام، نظراً لسمعتها الجيدة في السوق الخليجية، والاستفادة من فروقات العملة، حيث أدى هذا الإجراء بدوره إلى نقص في العرض المحلي من هذه المادة، مما أدى إلى قفز سعر الكيلو غرام الواحد من 300 ل.س إلى 600 ل.س أي بنسبة 100% مقارنة بالعام الفائت.
قائمة ارتفاع الأسعار شملت أيضاً مايقارب 80% من الأدوية بمعدل 15% معظمها أدوية المفاصل والرشح والأطفال، ومن المرجح أن تستمر أسعار الدواء بالارتفاع مع اقتراح وزير الصحة بزيادة أسعار الأدوية التي يقل سعرها عن 50 ل.س بنسبة 20%، والتي تشكل أكثر من 52% من حجم الدواء في سورية.
ووفق آخر نشرة للأرقام القياسية التي أصدرها المكتب المركزي للإحصاء فقط بلغ متوسط ارتفاع المواد الغذائية قبل الموجة الأخيرة نسبة 13%. كما ارتفعت أسعار الإنارة والمياه بنسبة 21% أما بالنسبة للاحتياجات الشخصية فقد كان الارتفاع بمعدل 7% ومواد النظافة بنسبة9%. أما المعالجة والأدوية فقد ارتفعت بمعدل 27%، بينما ارتفع سعر التعليم والثقافة بنسبة 44%، في حين حقق النقل والمواصلات معدل زيادة بـ 25%، والإيجار بـمعدل 34%.
ووفق أرقام المكتب المركزي للإحصاء أيضاً، يوجد مايزيد عن 60% من العاملين في الدولة تقل رواتبهم عن 7500 ل.س، وإذا اعتبرنا أن وسطي عدد أفراد الأسرة السورية خمسة أشخاص، فهذا يعني أن نصيب الفرد الواحد بحدود 1500 ل.س شهرياً، أي دولار واحد باليوم، بينما تؤكد الدراسات بأن الحد الأدنى الضروري لمعيشة الفرد الواحد قبل ارتفاع الأسعار الأخير كان بحدود 3215 ل.س شهرياً، أي بمعدل دولارين في اليوم، ومع ارتفاع الأسعار أصبح الحد الأدنى الضروري للمعيشة بالنسبة للفرد الواحد بحدود 4200 ل.س، أي بواقع ثلاثة دولارات يومياً أي أكثر من ضعف ماهو مقدر في الخطة الخمسية العاشرة لمحاربة الفقر، وهو مايشير بوضوح تام إلى أن النية موجودة لدى الحكومة لتمويل الخطة بأسعار طاقة عالية .
رأي مديرية الأسعار
السيدة وفاء الغزي مديرة الأسعار في الوزارة قدمت شرحاً لآلية التسعير الجديدة:
«وزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية تنتهج حالياً سياسة تحرير الأسعار التي اعتمدتها كتجربة أولية في العام2000، ثم اعتمدت بشكل أصولي في العام 2001، بعد الموافقة من رئاسة مجلس الوزراء ولتاريخه لم ننته من تطبيق هذه السياسة على كافة المواد كوننا نتبع سياسة التدرج في تحرير الأسعار، أي تحريرها من هوامش ونسب الأرباح التي كانت محددة سابقاً، وإنما تركت للمنافسة وآلية السوق القائمة على العرض والطلب».
هذه السياسة ـ حسب رأي السيدة وفاءـ «قسمت المواد إلى ثلاث زمر، الأولى هي زمرة السلع التي ينتجها القطاع العام حصرياً، حيث يستمر تدخل الدولة في تحديد أسعارها، أما الزمرة الثانية فهي زمرة المواد المحررة جزئياً حيث أطلقت حرية المنافسة للحلقة الأولى والثانية من حلقات الإنتاج والاستيراد وتاجر الجملة، ويبقى السعر النهائي محدداً بالنسبة للمستهلك من قبل الجهات التي تخول بتسعيرها مثل الأسمدة والأعلاف والألبسة المدرسية، أما الزمرة الثالثة فهي زمرة المواد المحررة كلياً، والتي يترك لها حرية التنافس بكامل حلقاتها وفق قانون العرض والطلب، وهذه الزمرة تضم أغلب المواد مثل السيارات والبرادات والشاي واللبن والمدافئ والبطاريات، كما شمل التحرير سلع القطاع العام التي يوجد لها نظير في السوق من منتجات القطاع الخاص، مثل التلفزيونات «سيرونيكس» حيث تركت لها حرية التسعير بما يتناسب مع أسعار السوق، وبما يحقق لها المنافسة والريعية، بعد أن كانت تسعر من مديرية الأسعار في وزارة الاقتصاد».
وحسب المديرية: «فإن سياسة تحرير الأسعار قامت على ثلاثة شروط هي: وجوب الإعلان عن السعر الذي تقع مسؤوليته على بائع المفرق، مع إعطائه الحرية في السعر الذي يحدده. إضافة إلى الشرط الثاني، الذي يتضمن وجود بطاقة البيان على السلعة التي تتضمن تاريخ الإنتاج ،وتاريخ انتهاء الصلاحية، ومكونات المادة ومصدرها. أما الشرط الثالث فهو وجوب تداول الفواتير بين حلقات الوساطة بما يمكن من معرفة مصدر السلعة ومصدر المخالفة».
هنا ينتهي حديث السيدة وفاء الغزي، ولكن واقع السوق لايعترف كثيراً بزمر وجداول مديرية الأسعار، حيث يتجاوز سعر السوق في بعض المواد ضعف تسعيرة المديرية بالنسبة للمواد غير المحررة، أو التي هي قيد التحرير، مثل مادة زيت الزيتون الذي وصل سعرها إلى 200 ل.س في السوق في حين أن سعرها حسب المديرية هي بحدود 170 ل.س، أو مادة اللحم البلدي المسعرة حسب المديرية بـ 225 ل.س/كغ، في حين أنها تباع بالأسواق بأكثر من 350 ل.س/كغ إضافة إلى قائمة كبيرة نوردها في الجدول رقم (2).
رأي مديرية المستهلك
أزمة ارتفاع الأسعار أيضاً لها ما يفسرها لجهة ضعف الرقابة الحكومية على السوق خاصة بعد إصدار القانونين (123 ـ 158) وتعديلات القانونين (47 و 22) من العام 2000 ـ 2001 اللذين خفضا عقوبة المخالفة التموينية من السجن إلى الغرامة المالية.
الدكتور أنور علي مدير مديرية حماية المستهلك «الرقابة التموينية سابقاً» قال: «إن المديرية لم تعد لها وصاية على الأسعار، السعر أصبح محرراً، ومانلزم به التاجر أو المستورد هو الإعلان عن السعر، وبطاقة المواصفة وتداول الفواتير، إضافة إلى قمع الاحتكار، حيث يحق للتاجر أن يضع السعر الذي يرغب به، شريطة الإعلان عنه، أما فيما يخص سلع القطاع العام غير المحررة، فنحن مستمرون في مراقبتها، ولكن هذا لا يعني بأن الأمور كلها على مايرام، فهناك حالات غش يقوم بها بعض ضعفاء النفوس لانستطيع ضبطها جميعاً، لأن الكادر الموجود لدى المديرية لايتجاوز 90 مراقباً في دمشق، وهو غير كاف لتغطية السوق الواسعة».
وعما إذا كان هناك حالات احتكار في السوق من التجار، قال الدكتور علي: «قمنا بعدد من الجولات والدوريات على المستودعات لكننا لم نلحظ أية حالة احتكار». وعند سؤالنا عن أسباب ارتفاع السكر، قال: «الموضوع مرتبط بالبورصة العالمية وارتفاع أسعار السكر عالمياً»، ولكن إذا كانت أسباب ارتفاع سعر السكر هي البورصة العالمية، فماذا عن اللحوم ونحن نصدر الأغنام هل هي أيضاً بورصة عالمية؟! ثم ماذا عن الشروط الأخرى التي لاتتقيد بها أغلب المحال التجارية مثل الإعلان عن السعر وبطاقة المواصفة، وتداول الفواتير؟ هل هي أيضاً محررة أم أنها لاتجد من يقمعها؟
رأي جمعية حماية المستهلك
المحامي فاروق الرباط رئيس مجلس جمعية حماية المستهلك وهي جمعية غير حكومية تأسست في العام 2004، يرى بأن «أسباب ارتفاع الأسعار لاتزال مبهمة بسبب ضعف عملية الرقابة على تداول الفواتير من المنتج إلى تاجر الجملة إلى بائع المفرق، مما يجعل آلية الرقابة غير فعالة، رغم أن معاون وزير التموين في العام الماضي أصر على التجار أن يتداولوا الفواتير ،ولكن ذلك لم يحدث فغرقت الأسواق في فوضى عارمة، نتيجة عدم التقيد بالقوانين كما في ميدان السياحة، فمنذ عام 2003 أصدر وزير السياحة قراراً يلزم أصحاب المطاعم بتقديم ثلاث فواتير تتضمن كل فاتورة المواد التي يستهلكها الزبون ووزن كل مادة وسعرها والتأشير عليها مطبوعاً عليها رقم هاتف الشكاوى، وحتى هذه اللحظة لم يتم تداول هذه الفواتير خاصة في المنشآت السياحية ذات النجوم الخمسة، وكذلك الأمر بالنسبة لشركات الخليوي التي لاتلتزم بالقرارات والدعوات الموجهة إليها لتخفيض رسم الاشتراك الشهري مع العلم بأن شركات الدول المتقدمة تعطي لزبائنها ساعتين مجانيتين كل أسبوع».
ويرى الرباط بأن الاحتكار يعطل قانون العرض والطلب، وأن هناك استحالة في رقابة الأسعار بسبب عدم وجود قانون منظم للعملية، سواء كان قانون التنافس أو غير ذلك.
وعن دور الجمعية في حماية المستهلك، قال الرباط: «أمام الإمكانيات الحالية فإن دور الجمعية هو توعية المستهلك لأننا لانمتلك تمويلاً يساعدنا في إجراء البحوث اللازمة عن الأغذية وإرسال عينات من المواد إلى المخابر، كما في جمعيات دول العالم المتقدم، إضافة إلى أن الكادر الموجود هو كادر تطوعي، ولايوجد لدينا فروع في المحافظات تساعدنا في عملية الرقابة، رغم أننا قدمنا العديد من الطلبات إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وحتى الآن لم يتم الرد عليها».
وقال الرباط: حتى يصبح دور الجمعية فاعلاً لابد من إشراكها في مراكز دعم القرار فيما يخص المستهلك، إضافة إلى دعمها بالكوادر والإدارات التي تساعدنا في تحقيق حماية المستهلك من مخابر ودراسات وتمويل مادي.
أين اقتصاد السوق الاجتماعي
الحكومة لاتجد نفسها مسؤولة عن الأسعار بعد تحريرها، ومؤسسات حماية المستهلك معطلة ،والتجار لايرون بأن هناك ارتفاعاً في الأسعار، وهو مايضع الحكومة أمام استحقاق هام بعد تبني حزب البعث نظام السوق الاجتماعي في مؤتمره الأخير لجهة إمكانية التوفيق بين السوق والجانب الاجتماعي، بعد سلسلة التراجعات في الصحة والتعليم والخدمات والأجور وزيادة من هم تحت خط الفقر.
■ كاسترو نسيّ
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.