«اقتصاد السوق الاجتماعي».. الخيارات الصعبة
قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وجهت الحركة الصهيونية رسالة إلى يهود الاتحاد السوفيتي، ومما جاء فيها: «أكثروا من الضجيج والزخرف الكلامي ومن استعمال المصطلحات الغامضة التي تبدو وكأنها علمية، أحدثوا نظريات وفرضيات والأفضل أن تكون بأسلوب استعراضي مبتذل، لا تترددوا في ذلك ولا يضيرنكم أن تلك النظريات لا يحتاجها أحد، وأن الغد سيطويها بالنسيان وليدفع الآخرون فواتير حساباتنا وليتعبوا رؤوسهم وتفكيرهم في البحث عن الجوهر المنطقي لأفكارهم، سيجدون فيها أشياء غير موجودة، وفي الغد سنعطيهم غذاءً جديداً لعقولهم البدائية.»
لا أدري لماذا قفزت إلى ذهني فوراً كلمات هذه الرسالة عندما شاهدت الضجة الإعلامية الصاخبة حول مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، فقد كتب الكثير في الصحف السورية الرسمية وغير الرسمية بمقالات وتحليلات عدة عن هذا المفهوم الجديد، وأقيمت الندوات العديدة، وانبرت أقلام الصحفيين وغيرهم بسباق ماراتوني، كل للإدلاء بدلوه والكشف عن جوهر هذا الاقتصاد الاجتماعي. «المقارنة هنا فقط لإبراز الأساليب التي تلجأ إليها بعض القوى في التضليل والخداع وهذا يندرج برأيي في إطار مفهوم الصراع الطبقي». وهذا المشروع كغيره من المشاريع يندرج في إطار التجربة العملية التي سينتج عنها شيء محدد، وهو باعتقادي لا يمكن أن يكون سوى مزيد من إفقار الفقراء وغنى الأغنياء ومن التبعية للخارج.
والسؤال لماذا ننساق للالتهاء بأشياء تقذف إلينا ولا نتبصر جوهرها فنغرق في التحليلات ونجهد في وضع ضوابط وشرط لنجاح هذه العملية الجديدة، ونضعف التركيز فيما هو أساسي وجوهري في تحليلاتنا؟ لماذا لا نضع النقاط على الحروف مع العلم أن الظروف قد نضجت بما فيه الكفاية، أليست الطبقة المسيطرة اقتصادياً هي التي تتحكم بشكل أو بآخر في اتخاذ القرارات الاقتصادية الهامة، أليست الدولة برأي لينين أداة بيد الطبقة المسيطرة وتعبر عن مصالحها؟ فهل يمكن في ظل هذه الأوضاع السائدة لهذا التوجه الجديد في الاقتصاد أن يحقق شيئاً إيجابياً لمصلحة الجماهير الشعبية، ويأتينا الجواب سريعاً من السيد الدردري نائب رئيس مجلس الوزراء وهو يزف إلينا أولى بشائر هذا المشروع الجديد حيث وعدنا بتحرير قطاع الاتصالات والطاقة، أي تخصيصهما، لقد توقع البعض أنه وقبل أن ينتهي عقد الخليوي ويتم بموجبه تسليم شركات الخليوي إلى مؤسسة الاتصالات سيتم تخصيص مؤسسة الاتصالات نفسها فآثار الأقدام تدل على المسير كما يقال ، هذا التوقع مبني على التحليل العلمي لما يجري في البلاد منذ سنوات عديدة. وأعتقد أن نجاح أي مشروع اجتماعي لصالح الطبقات والشرائح الفقيرة اليوم يتطلب إجراء تغييرات عميقة في بنية النظام. وتنتصب أمامنا وأمام جميع القوى الوطنية التي تريد إحداث هذه التغييرات مهام عديدة، أولها مطالبة حزب البعث بتنفيذ القرارات التي صدرت عن أعمال مؤتمره العاشر وهي:
- إصدار قانون للأحزاب.
- تعديل قانون الانتخابات لمجلس الشعب وللمجالس المحلية.
- تعديل مواد في الدستور.
- مراجعة قانون الطوارىء وحصر أحكامه بالجرائم التي تمس أمن الدولة.
- ضرورة حل مشكلة إحصاء عام 1962 في محافظة الحسكة.
- إصدار قانون جديد للإعلام بأنواعه كلها.
إن التركيز على المطالبة بالتنفيذ سيحدث تغييرات عميقة في المجتمع والعمل السياسي ستضر بمصالح القوى التي تعرقل للحفاظ على مصالحها ويأتي على رأسها مراكز الفساد الكبرى. وعلى القوى السياسية أن تحشد قواها للمطالبة ببرمجة هذه القرارات والتوصيات وتحديد فترة زمنية للتنفيذ والإنجاز، لا أن نركن إلى تصريحات بعض المقربين من النظام الذين يحددون في تصريحاتهم مدداً زمنية طويلة لهذا المشروع وكأن الوقت يسمح بذلك، وينبغي إشراك قوى المجتمع النظيفة وإنهاء أسلوب التعالي على الجماهير.
ومن ضمانات المستوى المعاشي اللائق هو قوة ووزن الحركة النقابية في البلاد، فهل مازالت تخضع لمقولة: «نحن والحكومة فريق عمل واحد»؟. إن أي سلطة سياسية لا تستطيع أن تستمر في سيطرتها ما لم تخلق مؤسسات تتوافق مع أفكارها وتؤمن لها السيطرة الفعلية، والتنظيم النقابي في سورية ليس له أي استقلالية فعلية في القضايا الكبرى كغيره من المؤسسات، فلماذا الاستمرار بمطالبة الحرية النقابية في حين أن المراكز الأولى نقابياً يشغلها نقابيون بعثيون ملتزمون بتوجهات وقرارات حزبهم ويصبح الحديث عن استقلالية القرار النقابي وهماً في وهم في ظل هذه الأوضاع، إذاً ما هو المطلوب لخروج التنظيم النقابي من الشرنقة الذي وضع فيها؟ إنه حرية الانتخابات ديمقراطيتها ومساواة جميع النقابيين بالحقوق، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بصدور قانون عصري للأحزاب تتساوى فيه الأحزاب بحرية العمل السياسي فيصبح ولاء النقابيين لعمالهم ولمصلحتهم، وإني أجزم أن الكثير من البعثيين عندما ينجحون في هذه الانتخابات سيكون ولاؤهم للطبقة العاملة والحياة ستفرز الانتهازيين عن المبدئين.
وأمام واقع مؤسسات الدولة والتي أصبحت تشكل عائقاً أمام أي تطور لاحق أسأل هل يوجد أحد يهتم بما يجري داخل مجلس الشعب؟ وهل يعرف الناخبون من انتخبوا ؟. يكفي أن نعرف أن نسبة الناخبين الحقيقية التقريية لانتخابات مجلس الشعب الحالي لم تصل إلى أكثر من 10% فأين هي أصوات الـ 90%؟
ألا يشكل هؤلاء معارضة وطنية حقيقية أكثر من جميع المعارضات الموجودة، أعتقد أن من يريد أن يكسب الشارع السياسي عليه أن يكسب هؤلاء ويتوجه إليهم ويتفهم قضاياهم ويعمل على حلها وبغيره ستبقى أزمة العمل السياسي في سورية موجودة ولها منعكسات سلبية جداً في مثل هذه الظروف المعقدة والخطيرة التي تواجه بلدنا جراء التهديدات الأمريكية ـ الصهيونية.
إن سياستنا القائمة على الترابط ما بين المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية الاقتصادية والمسألة الديمقراطية هو ترابط صحيح، ولكنه حتى هذه اللحظة بقي في إطار العموميات والمطلوب الآن برمجتها وفق سلم الأولويات وتحديدها بدقة ووضوح. حتى يكون المجال رحباً مفتوحاً أمام نشر سياستنا والتفاف الجماهير حولها لتقوية هذه السياسة وتقوية التنظيم لابد من التفكير بمعرفة المفاصل الرئيسة التي ينبغي الاهتمام بها والتي تشكل مفتاحاً لنشر هذه السياسة وخلق الظروف لتجسيدها على أرض الواقع، وأزعم أنه في مثل هذه الظروف يعتبر إصدار قانون للأحزاب الحلقة الرئيسية التي تتبع لها باقي الحلقات كتعديل قانون الانتخابات وقانون المطبوعات، فبمجرد صدوره ستطرأ تعديلات عديدة على مواد الدستور وستبدأ التغييرات تشق طريقها في جميع المؤسسات، وعملية الإصلاحات ينبغي أن تطال إلى جانب المؤسسات جميع المناصب والمراكز على أساس الكفاءة والنزاهة والإمكانيات وأن يكون رائد الجميع الانتماء إلى الوطن والشعب.
إن مقياس الوطنية اليوم لم يعد يكفي معه القول أننا ضد المخططات الأمريكية والصهيونية ومعاداتهما على أهمية ذلك ما لم يرتبط بتحسين الأوضاع الاقتصادية وتأمين مستوى معاشي لائق للجماهير الشعبية الكادحة ومثال فنزويلا أفضل مثال ولا يجوز لنا أن نقبل بأقل منه. مما يتطلب اجتثاث مراكز الفساد الكبير والتي هي بوابات العبور للعدوان الخارجي.
إن المطالبة بالتغييرات العميقة في المجتمع وفي مؤسسات الدولة نابع من الظروف الخطيرة التي تحيق بسورية ومن الحاجة الموضوعية للتغيير، فأمام التهديدات الأمريكية ومطالبها الوقحة أليس من الأفضل أن يتم تحسين البيت الداخلي وترتيبه بأيد وطنية لمواجهة كافة التهديدات وضرب مراكز الفساد الكبرى، من أن تتم التغييرات على الطريقة الأمريكية الاستعمارية وبأيديها ودرس العراق ما يزال ماثلاً أمامنا، فهل نستوعب الدرس ونحقق الوحدة الوطنية المطلوبة اليوم لمجابهة الأخطار التي تحيق بوطننا. وينبغي أن تعلم جميع القوى السياسية داخل الجبهة وخارجها أن مقاومة المخططات الاستعمارية للمنطقة لا يمكن دون الاعتماد الكلي على قدرات الشعب، ولتتحمل القوى السياسية مسؤوليتها التاريخية فالشعب لا ينسى.
■ أيمن بيازيد