جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

فرجة رمضانية.. فقط!

 استطاعت المحطات الفضائية التلفزيونية العربية أن تحول معظم شهور السنة، وعلى رأسها شهر رمضان، بالتدرج السريع، إلى موسم للفرجة.. فرجة على الدراما، وعلى البرامج الدينية، والفوازير، وبرامج الطبخ، والتغذية، والمسابقات، والمنوعات والاستعراضات والتسالي، والحوارات مع النجوم، والأبراج...إلخ..

مبددةً وقت المواطن العربي، ومغرقة إياه وأبناءه ونظراءه، في مستنقع الاستهلاك الرخيص والأوهام الوردية الكبيرة. وهو أمر يحاكي ما فعلته وتفعله وتسعى لتكريسه إلى الأبد الحكومات العربية على مدار مسيرة القمر، وخاصة عند ظهور هلال رمضان، حيث سبقت الفضائيات إلى هذا التقليد المريح، فأقعدت شعوبها عموماً، والفقراء منهم على وجه التحديد، متفرجين على نهبهم وإذلالهم وتخليفهم وتحويل أقدس شهور عبادتهم إلى مناسبة إضافية للإمعان في إفقارهم وابتزازهم وتأطير عقولهم والاستهانة بهم والتلاعب بقوت يومهم.. وبالطبع ما كان كل ذلك ليتم لولا سلب إرادة الناس وزعزعة إيمانهم بأنفسهم ومصادرة طموحاتهم وأحلامهم بالترهيب تارة، وبالمراوغة والتضليل ورفع الشعارات الكبرى تارة أخرى، ولولا تمزيق أو تحجيم القوى والمؤسسات التي كان يمكن أن تكون صوتهم ونصيرهم ومخلّصهم..

والحال كذلك، يقعد العرب بمن فيهم السوريون، في شهر رمضان وبقية الشهور، يتابعون مسلسلاً ماراثونياً عنوانه الإملاق والقهر والبطالة والاحتكار والغلاء الفاحش...إلخ.. مكتفين بالفرجة دون أن يدرك أغلبهم أن الراعي النيوليبرالي في الحالتين هو نفسه الآن، راعي معظم الفضائيات هو راعي معظم الحكومات، يحمل الصفات ذاتها، والأجندة ذاتها، والتوجيهات المعولمة ذاتها.. والغاية الدائمة لكلا التجليين لهذا الراعي الأخطبوطي إبقاء المواطن العربي المقموع والمنهوب والمُخلَّف والمنهك بحالة فرجة.. فرجة وحسب.

في هذه الحمأة، سمع السوريون محدودو الدخل مؤخراً بدعوة جمعية حماية المستهلك لمقاطعة شراء واستهلاك اللحوم الحمراء، والتي تتضمن إيماءة خجولة للتوقف عن الفرجة والحراك عبر المقاطعة، وبدا صاحب الدعوة ذو الصفة شبه الرسمية، وكأنه يحمّل المتفرجين مسؤولية الغلاء والاحتكار بسبب صمتهم أولاً، ونهمهم واستهلاكهم الكبير للحوم الحمراء ثانياً، وهذا أغرب مشهد في سلسلة آلام رمضان التي لا تنتهي مع ظهور هلال شوال من كل عام..

فأولاً، الصمت منجاة حين لا يجدي الكلام أو يودي بناطقه إلى (بيت خالته)، وكل دعوات «التعبير» الخلبية لا يمكن أن تزعزع عند محترفي الصمت الانتظاري هذه القناعة! وثانياً اللحوم الحمراء هناك من لا يعرفها من المدعوين للمقاطعة إلا في مناسبات لا يحبذون مجيئها أبداً.. فأية مقاطعة هذه؟ وما هي المعادلة الناظمة لها؟ ومن يقف خلفها؟ ولماذا؟

وبالمناسبة، فقد سمع السوريون آن سماعهم «بدعة» مقاطعة اللحوم، أخباراً عن لحوم مهربة شبه منتهية الصلاحية جرت مصادرتها، وكذلك عن ملابس نسائية ذات منشأ إسرائيلي ضُبطت في أحد المستودعات الضخمة في محافظة ريف دمشق.. وآلمهم الاكتفاء بتحرير ضبط جمركي تمويني بالمخالفة مع عقوبتها المالية، دون التطرق حسب الأخبار الواردة لأي بعد سياسي أو حتى مجتمعي في هذه المسألة الخطيرة.. وسقى الله أيام المقاطعة!!

وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد عرف السوريون مصطلح المقاطعة في وقت ما مضى، وتجاوبوا معه بشكل كبير كون المقاطَع كان العدو بصورتيه الأمريكية والإسرائيلية، وكانت المقاطعة حينها واضحة الاتجاه والغاية، أما اليوم فالمقاطعة عزف نشاز على أوتار الفقر، لا يشتمّ الفقير منها سوى محاولة جديدة لتبرير الاستمرار في سحقه، ورغم أن جميع المدعوين للمقاطعة مقاطِعون رغماً عنهم بسبب إملاقهم، لكن من سمع منهم بها سيتعامل معها بوصفها مجال خيارات، وسيعرض عنها، وسيجاهر بعدم التجاوب معها، وسيحاول مَن يستطيع إلى اللحمة الحمراء سبيلاً أن ينال ما تيسر له من بروتينها، انطلاقاً من حاجته إليها أولاً، ومن إصراره على البقاء في حالة فرجة ثانياً، ريثما تصبح للدعوات للفعل، أي فعل، جدوى حقيقية!