ندوة الثلاثاء الاقتصادي الاستثمارات العامة والنمو الاقتصادي
قدم د. نبيل مرزوق محاضرة هامة في إطار نشاطات جمعية العلوم الاقتصادية السورية عن الاستثمارات العامة والنمو الاقتصادي في سورية، بتاريخ20/2/2007 ورغم تأخرنا بالنشر لأسباب فنية، إلا أن المادة لم تفقد حيويتها كونها استراتيجية الطابع.
وها نحن نورد أهم ما جاء فيها..
«... قدمت الخطة الخمسية العاشرة تصوراً محدداً للتنمية في ظل آليات السوق والدور الكبير للقطاع الخاص، الذي أوكلت إليه الجزء الهام من مهمة تطوير القاعدة الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، وجعلت عبء تنمية البنية التحتية والتنمية البشرية من نصيب الدولة الاستثمار العام، وبذلك تشكل الاستثمارات العامة نسبة 53% من إجمالي استثمارات الخطة البالغة 1659257 مليون ل.س. وذلك بابتعاد واضح عن الاستثمار المباشر في القطاعات الإنتاجية، كما توصي به الاتجاهات الليبرالية الجديدة. هل نحن فعلاً أمام خيارين لا ثالث لهما؟ وهما حرية السوق، والدور المركزي للدولة.
لقد بينت الخبرة التاريخية العالمية أن كسر حلقة التخلف لا يتم بفعل آليات السوق، ويؤكد تاريخ تطور البلدان المصنعة حديثاً، والتي تحاول سورية والمسؤولون فيها الاستشهاد، بنجاحاتها في التطور، أنها قد استندت في تطورها إلى خطة طويلة الأمد وتدخل فاعل ومؤثر من الدولة، وهي لم تلق بالاً لما تطلبه المؤسسات والمنظمات الاقتصادية الدولية ووصفاتها الجاهزة من تحرير الأسواق، وخصخصة للقطاع العام، بل إن هذه البلدان قد جعلت من تحرير الأسواق عملية ثانوية ترتبط بمدى تقدم اقتصاداتها، وتحقيق مكاسب على مستوى الإنتاجية.
1 ـ دور الاستثمار في عملية النمو الاقتصادي:
النمو الاقتصادي شرط أساسي من شروط تحقيق التنمية، وهو في هذه الحالة ليس نمواً معتمداً على آليات السوق الحر، وإنما هو نمو مستهدف ومخطط يرتبط بعملية التنمية.
آليات السوق الحر تتعارض مع أهداف الدولة التنموية، لأن رأس المال الباحث عن الربح هو أكثر واقعية وإذعاناً لقسمة العمل التي يوفق مصالحه معها، ويقبل بالدور الذي ترسمه له طالما أنه يحقق له الربح وإن كان في حده الأدنى.
تحقيق النمو المرتبط بعملية التنمية، ليس عملية تلقائية، يمكن تركها «لليد الخفية» التي توجه الأفراد نحو مصالحهم الخاصة، ومن خلال ذلك تتحقق المصلحة العامة، ولكنها عملية منظمة ومخططة في إطار اقتصادي واجتماعي يحقق المصلحة العامة للجميع، وفي هذا الإطار تخضع السوق لضوابط ومعايير، تمليها الأهداف الاستراتيجية وليس المصالح الآنية الفردية.
2 - الاستثمارات العامة والخاصة 1980/2005
انصب الاهتمام خلال السنوات الماضية على الاستثمارات العامة، التي كان موكولاً لها مهمة تنفيذ الخطة، في حين كانت الخبرة التاريخية قد بينت عدم التزام القطاع الخاص بخطة الدولة، وما خصصته له من استثمارات ودور في تنفيذ الخطة، لم يتوقف القطاع الخاص عن الاستثمار خلال السنوات الماضية إلا أنه لم يكن ملتزماً بالخطة، ولم يتوجه وفق أولوياتها، مما جعل من الخطة خطة للقطاع العام وليس للاقتصاد الوطني ككل.
لقد كان للتراجع في إنتاجية الاستثمارات العامة الأثر الأكبر في تراجع إنتاجية رأس المال ككل على المستوى الوطني، ويتضح أن التوقف عن عملية الاستبدال والتجديد، في القطاع العام منذ أواسط الثمانينات، قد أدى إلى تدهور وتراجع إنتاجية الأصول الثابتة في الاقتصاد الوطني، حيث انخفضت الإنتاجية الحدية لرأس المال العام من 25% للفترة 1990 ـ 1996 إلى 7% للفترة 1997ـ 2003.
3 ـ الاستثمار الأجنبي المباشر في سورية:
الاستثمار الأجنبي في سورية محدود وحديث العهد نسبياً، حيث اقتصرت اهتماماته على قطاع النفط منذ أواخر السبعينات، ورغم أن قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1990 قد منح رأس المال الأجنبي التسهيلات والإعفاءات الكبيرة، فإن الاستثمارات الأجنبية لم تشكل نسبة ملحوظة أو تغيراً في سلوك واهتمام رأس المال الأجنبي، وقد فسرت الجهات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هذا الإحجام لرأس المال الأجنبي على أن مناخ الاستثمار غير موات، ولا تتمتع سورية بمناخ مشجع للاستثمار الأجنبي، حسب ما جاء في تقرير البنك الدولي عن مناخ الاستثمار في سورية عام 2005.
4 ـ الأهداف الاستثمارية في الخطة الخمسية العاشرة:
لقد وضعت الخطة الخمسية العاشرة في إطار استراتيجية تنمية طويلة الأمد، محكومة ببعد ليبرالي انفتاحي يعطي الأولوية للقطاع الخاص في قيادة عملية التنمية، مع ذلك فإن استثماراته ستشكل نحو 47% من إجمالي استثمارات الخطة والمقدرة بـ1659257 مليون ل.س. ولكن استثماراته من المنتظر أن تتوجه نحو قطاعات الإنتاج، في الوقت الذي تتركز فيه الاستثمارات الحكومية في البنية التحتية.
تجربة الإصلاح الاقتصادي التي مرت بها سورية منذ أواسط الثمانينات والقائمة على محور وحيد وهو الانفتاح الاقتصادي وتقليص دور الدولة الاقتصادي والإنمائي، قد أفقد سورية عقدين من النمو المستمر والمدعم والتنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية. وتواجه سورية اليوم تحديات مصيرية داخلية وخارجية، البطالة والفقر وتدني مستوى المعيشة لغالبية المواطنين داخلياً، والانفتاح على العولمة الجارية، والدخول في شراكات إقليمية ودولية، ومواجهة متصاعدة مع قوى الهيمنة والعدوان المتمثلة بالإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، خارجياً، وتتطلب مواجهة جملة من هذه التحديات إرادة وطنية صلبة، وقاعدة مادية ملائمة، وإجماعاً وطنياً على بناء المستقبل الأفضل، وهنا نعود إلى التساؤل الذي طرح في بداية المداخلة «هل حرية السوق هي الطريق الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟»، التجربة التي مرت بها سورية تنفي ذلك، فالسوق لم تعوض انسحاب الدولة كما لم تواجه الاستثمار نحو القطاعات والمجالات الأكثر حيوية وضرورة بالنسبة للاقتصاد السوري، والسوق فاقمت من التفاوت بين المناطق والأفراد.
لا يمكن ترك شأن تحقيق الأهداف المجتمعية الكبرى لآليات السوق، ولا بد من تدخل مؤثر وفاعل من الدولة لجعل السوق وآلياتها في خدمة التنمية والتقدم الاجتماعي، وهذا ليس حكراً على نظام بعينه وإنما هو نهج تأخذ به جميع الدول تقريباً بما فيها تلك التي تدعي التطرف في «الليبرالية الاقتصادية» مثل الولايات المتحدة الأمريكية».