هل التجارة الخارجية - حقاً - قاطرة للنمو الاقتصادي ج «1»
في ندوة الثلاثاء الاقتصادية التي تقيمها جمعية العلوم الاقتصادية السورية، قدم الدكتور عامر لطفي وزير الاقتصاد والتجارة في سورية بتاريخ 20/3/2007، محاضرة حول التجارة الخارجية في سورية. لعل أهم ما جاء فيها: دعوته بأن تكون سياسة تحرير التجارة الخارجية جزءاً أساسياً من برنامج الإصلاح الاقتصادي انطلاقاً من أن «التجارة الخارجية هي قاطرة للنمو الاقتصاد».
وقد قدم د. منير الحمش عقب انتهاء المحاضرة مداخلة هامة سنقدمها لقرائنا الأعزاء كاملة ولكن على جزأين..
«كان أحد الحضور، قال لنا ونحن في طريقنا إلى قاعة المحاضرات في المركز الثقافي العربي في المزة، بأن الحوار بين الاقتصاديين يتضمن طابعاً إيديولوجياً، لهذا فهو يشكك في جدوى الحوار، فاليساري ينطلق في حواره من إيديولوجية اشتراكية، والليبرالي من أيديولوجية ليبرالية تدعو إلى اقتصاد السوق.
وفي مداخلتي حول ما قدمه السيد الوزير، ذكرت ذلك، وقلت أن (خطورة) الموضوع تجعلنا نلح على طرح الحوار من خلفية إيديولوجية اقتصادية وطنية. ذلك أن ما وصلنا إليه، لم يَعُد يحتمل أية نقاشات حوارية مستهدفة لذاتها، في الوقت الذي تُمعن فيه الإدارة الاقتصادية في اتخاذ الإجراءات المتسارعة باتجاه تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد السوق الحر.
لهذا أجد من واجبي أن أطرح هذا الموضوع للنقاش العام وأدعو الاقتصاديين الأكاديميين والعمليين، وجميع المختصين إلى مناقشته انطلاقاً من مصلحة الاقتصاد الوطني، والإجابة على هذا السؤال الهام: هل تشكل التجارة الخارجية، فعلاً، قاطرة للنمو الاقتصادي؟ وكيف؟
على أن المسألة، لا يجوز تناولها بعيداً عن حزمة السياسات الاقتصادية، فالتجارة قطاع اقتصادي يتكامل مع قطاعات اقتصادية أخرى، وسياسة التجارة الخارجية، أيضاً، تتكامل مع سياسات اقتصادية ومالية ونقدية وتسويقية وسياحية وعقارية.. وغير ذلك فالاقتصاد الوطني كل متكامل، ولا يمكن تناوله (بالتجزئة) أو (بالقطاعي)، فكل قطاع اقتصادي يتأثر ويؤثر في القطاعات الأخرى.
ومن هنا لا بد من أن نضيف ما سبق أن قاله أحد المسؤولين في الإدارة الاقتصادية، (وزير المالية) في ندوة خاصة بفرع حزب البعث العربي الاشتراكي بدمشق في شرحه لأبعاد «اقتصاد السوق الاجتماعي» بأن الدولة تتمسك بدورها الاقتصادي والاجتماعي في ظل هذا النمط من الاقتصاد.
وإذا وافقته على ذلك من الناحية النظرية هذا إذا ما تم الاتفاق على مفهوم «اقتصاد السوق الاجتماعي»، إلا أنني، وكما فعلت في مداخلتي على محاضرة وزير الاقتصاد والتجارة، قلت بأن السياسة الاقتصادية التي يقودها الفريق الاقتصادي الحالي، تسير عكس ذلك (أي أن سياسة الفريق الاقتصادي والحكومي تتجه إلى تقليص دور الدولة)، وأثبت بالأرقام كيف أن السياسات المتبعة عملياً أدت، وتؤدي، إلى انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي والاجتماعي.
أما كيف، فلأن الأرقام وحدها، هي التي (تكذب الغطاس) كما يقال، فدور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يُقاس، رقمياً، بحجم الحكومة، وحجم الحكومة يقاس بنسبة الإنفاق العام الفعلي (بشقيه الاستثماري والجاري) إلى الناتج المحلي الإجمالي.
وقد كان حجم الحكومة عام 1980 (48.5%) فإذا به يصل عام 2003 إلى 39.35% ثم ينخفض عام 2004 إلى 35.85%، ثم ينخفض بعد ذلك عام 2005 إلى 32.10%.
وبعيداً عن لغة الأرقام، ألا يحس كل مواطن، بانحسار ما يقدم له من خدمات اجتماعية، ثم ألا نلمس جميعاً تراجع الاستثمار العام، وأين التعليم المجاني؟ وإلى أين وصلنا بالضمان الصحي؟ ثم ما هي أسباب هذه الارتفاعات المتوالية في الأسعار؟ وكيف نجيب على أسئلة البطالة والفقر، التي تطرحها من جديد الدراسات والإحصاءات الرسمية؟
وإذا كان السيد وزير الاقتصاد والتجارة، قد وافقني على تناول الموضوع انطلاقاً من مصلحة الاقتصاد الوطني، فإنه، وكما فعل السيد وزير المالية، لم يجب على الأفكار المطروحة سوى بالتأكيد على دور الدولة، لا بل إن السيد وزير المالية قال بأن الأرقام التي أوردتها غير صحيحة!!.. دون أن يُتاح لي الرد على ذلك.
وبالمناسبة إن هذه الأرقام صحيحة، فهي مأخوذة عن التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2006 الذي يستند أساساً إلى الأرقام الرسمية.
ومنذ أن تسارعت الخطوات (الانفتاحية) في التجارة الخارجية، بدأ العجز التجاري بالتزايد. ففي عام 2000، تحقق فائض في الميزان التجاري قيمته 666 مليون دولار. ولكن بعد ذلك (وبعد الهرولة باتجاه التحرير التجاري) تحقق عام 2004 عجزٌ مقداره أكثر من 1.5 مليار دولار. ثم ارتفع هذا العجز عام 2005 إلى حوالي 3.5 مليار دولار ومن المتوقع أن يتصاعد هذا العجز مع انخفاض الصادرات النفطية، وهذا التزايد في الاستيراد.
والواقع أن هذه الأرقام لا تفاجئ المراقب الحيادي. ففتح باب الاستيراد على مصراعيه، وخاصة بالنسبة لمواد استهلاكية بعضها (ترفي) مع محدودية إمكانية التصدير للمنتجات الوطنية، بحد ذاته سبب وجيه لظهور العجز التجاري وتفاقمه. وقد يظهر العجز بأقل مما هو فعلاً، بسبب تصدير النفط الخام الذي ترتفع أسعاره العالمية، ولكن إلى متى سيستمر المورد النفطي؟
نعود الآن إلى مقولة «التجارة الخارجية قاطرة النمو الاقتصادي» التي أطلقها السيد وزير الاقتصاد، خاصة عندما رافق ذلك شن حملة شعواء على سياسة الحماية التي اتبعتها سورية منذ فجر الاستقلال، وألصق على هذه السياسة جميع مصائبنا الاقتصادية. ولا أدري إذا ما كانت هذه المصائب تشمل ما حققته الدول الصناعية الكبرى من (ازدهار ونمو) ناتج عن تلك السياسة ذاتها (أي سياسة الحماية) التي يراها السيد الوزير سر تعاستنا الاقتصادية. فالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، عندما كانتا تتعرضان لأشد الضغوط والمنافسة من بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر، لم تستطيعا الصمود وبناء اقتصادهما إلا بعد أن اتبعا سياسة الحماية. وحتى اليوم ومع قيادة الولايات المتحدة للاقتصاد الرأسمالي العالمي، فإنها وهي التي تعتبر نفسها حامية حمى النظام الرأسمالي الليبرالي الحر وتنادي بتحرير التجارة، لا تزال تتبع (نوعاً) من أنواع الحماية في مواجهة المنافسة اليابانية والأوربية والصينية. وهي اليوم من أكثر الدول التي لا تزال تقدم (الدعم) والمعونات للقطاع الزراعي.
وقبل أن نسترسل في الحديث، لا بد لي من تقديم إيضاح، يتناول النقاط التالية:
- أولاً: كان بعض أركان الفريق الاقتصادي الحكومي، ينادي علناً بالتوجه نحو اقتصاد السوق، قبل انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي. ولكن بعد اتخاذ المؤتمر التوجه نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» اعتبروا أن هذا النموذج هو مرحلة انتقالية للوصول إلى اقتصاد السوق الحر فهذا ما يريدون الوصول إليه.
- ونظراً لحداثة (استخدام) هذا المصطلح بين الساسة الاقتصاديين والناس العاديين في سورية من جهة، وضعف الثقافة الاقتصادية من جهة أخرى فقد استطاع بعض أعضاء الفريق الاقتصادي (استخدامه) بمرونة لتمرير سياسات اقتصادية ليبرالية، قادت إلى هذا الانفتاح (السداح المداح) في الاقتصاد السوري، ضاربين عرض الحائط، بأهمية وضرورة التوجه نحو معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وأهمها الفقر والبطالة، فضلاً عن المستوى الصحي والتعليمي والمعاشي للسكان.
- ثانياً: تخضع سورية لمزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية، بسبب نهج الممانعة الذي اتبعته القيادة السياسية للمشروع الأميركي – الصهيوني في المنطقة العربية. وبسبب الدعم (التاريخي) الذي تبديه سورية (حكومة وشعباً) للمقاومات العربية في لبنان وفلسطين والعراق.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك استمرار الكيان الإسرائيلي، احتلال الجولان منذ عام 1967، فإن الحاجة الملحة تدعو إلى بناء اقتصاد قوي، يستطيع أن يدعم الموقف السياسي للقيادة السياسية، ويقف في وجه التحديات التي تفرضها مواقفه السياسية.
والاقتصاد القوي، يحتاج إلى إدارة اقتصادية قوية، تمتلك الوسائل والإمكانات، التي تجعلها قادرة على التحرك ومواجهة الصعوبات، كما تحتاج إلى وسائل (الضبط والربط) للمفاصل الأساسية للاقتصاد، مما يستدعي تدخلاً فاعلاً وقوياً في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
إلا أن ذلك لا يعني الهيمنة أو السيطرة الكاملة للدولة على الاقتصاد، بل يعني الانتقال من النظرة الأحادية (أي إما قطاع عام وإما قطاع خاص) إلى النظرة الاقتصادية الشاملة المنطلقة من خلفية وطنية، تسعى إلى حشد جميع الموارد والإمكانات الوطنية، مع الإقلاع (نهائياً) عن المفاضلة بين القطاعين العام والخاص. فالمفاضلة يجب أن تكون بين قطاع منتج وآخر هامشي، وبين قطاع ناجح وآخر متعثر، والسياسة الاقتصادية السليمة يجب أن تتجه إلى تدعيم القطاع المنتج والناجح، وإلى معالجة سلبيات القطاعات الهامشية والمتعثرة.
- ثالثاً: منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل تجربته الاشتراكية، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة الاقتصاد العالمي، وبدء الترويج للعولمة الاقتصادية، انطلاقاً من وحدانية النظرة الاقتصادية، واعتبار ما جرى على الصعيد العالمي أنه يشكل انتصاراً للنظام الرأسمالي الذي يعتبر (نهاية التاريخ). منذ ذلك الوقت وتحديداً منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، بدأت الخطى تتسارع عالمياً وإقليمياً ومحلياً، من أجل التحول نحو اقتصاد السوق الحر، ووضعت المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ولاحقاً منظمة التجارة العالمية) البرامج وجداول الأعمال من أجل دفع البلدان النامية نحو الالتحاق بالاقتصاد العالمي والانخراط بالعولمة. وتبني سياسات الإصلاح والتكيف الهيكلي (وجوهرها الليبرالية الاقتصادية الجديدة) التي تقوم على دعامتين أساسيتين:
- الأولى: انفتاح الأسواق وتحرير التجارة.
- والثانية: حكومة الحد الأدنى. أي اقتصار الدولة على القيام بوظائفها التقليدية، والانسحاب من الشأن الاقتصادي وتقليص دورها الاجتماعي.
ويأتي كمحصلة لذلك، تولي القطاع الخاص قيادة وإدارة الاقتصاد الوطني.
وقد أدت هذه السياسات في الدول النامية التي اضطرت تحت ظروف وضغوط معينة إلى كوارث اقتصادية واجتماعية ومن ثم سياسية.
■ يتبع