«الحداثة والتنمية والعولمة والهوية».. في الثلاثاء الاقتصادي

«أنجزنا خطوات كبرى بالتعاون مع قوى التحرر والتقدم العالمية الصاعدة.. في هذه الأجواء الخماسينية بنيت المشاريع الاقتصادية الكبرى، وانتشر التعليم بمستوياته المختلفة، وتكونت في قلب مجتمعاتنا التقليدية، وفي صراع حوار معها، عناصر محاكية للثقافة الحديثة بشقيها الرأسمالي الغربي السائد من ناحية، والاشتراكي النقدي المعارض له من ناحية ثانية، ولكن بعد ذلك بدأ العد العكسي، وانتشر الزمن الرديء، وانبعثت الأزمة من رقادها..».. هكذا استهل د. رزق الله هيلان محاضرته خلال ندوة الثلاثاء الاقتصادي تحت عنوان «الحداثة والتنمية والعولمة والهوية»..

إرهاصات الأزمة

أكد د. رزق الله هيلان في مقاربته لأزمة الصراعات العالمية على الثروة أنه على نطاق العالم الصناعي، أدت الأزمة إلى تراجع النظام التشاركي التوافقي، وصعود الهيمنة الأميركية، وتفجر الأزمة النقدية ثم الاقتصادية، وانبعاث القوى الرأسمالية المحافظة وإطلاقها مشروع أو نظام العولمة، ففرض قانون السوق على العالم أجمع، وتمت خصخصة الدولة لخدمة السوق، وسيطر «الحلف المقدس» بقيادة الرأسمال الأميركي على كل توجه اجتماعي- إنساني. هذا على المستوى العالمي، أما عربياً، فقد تجلى ذلك بهزيمة حزيران 1967، وانتكاس المشروع القومي، وتفكك وصراع القوى الوطنية، وصعود قوى الرأسمالية الريعية والمالية، وتفشي الجريمة المنظمة والفساد المعمم، وسيطرة الحزب الواحد والخطاب المخشوشب والمؤسسة الأمنية، وتراكم الثروات النقدية وانتشار الفقر والبطالة، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، تصاعد التبعية والمديونية، وتضعضع ثم انهيار العملة الوطنية بتوجيه صندوق النقد الدولي، وتراجع عملية التنمية وخصخصة الدولة.
 
المآزق

أشار د. هيلان إلى أن المجتمعات العربية تنزلق باسم الحداثة الجديدة والعولمة على منحدر خطير يدفعنا إلى بخس الحياة الجماعية التي تعطي لحياة الإنسان هوية ومعنى، كمثل البيئة الاجتماعية النظيفة، التربية الصادقة، جودة الخدمات العامة، الغيرة على قضايا النفع العام وتعزيزها، بينما نغرق في أوحال المنفعة الفردية الخاصة وهوس القوة والمتعة والاستهلاك.. ثم يسأل: «أليس في هذا الانزلاق ضياعنا، مأزقنا، عبوديتنا»؟ وجاء الجواب صارخاً مدوياً، بمجيء الثورة العربية الجامحة، وأتى زمن الوعي، وزمن مساءلة الذات، زمن الحساب.. لا يجدي الاعتقاد بأن المشروع الذي نادينا به كان صحياً وكان جميلاً، نعم، كل المشاريع كانت صحيحة وكانت جميلة وأثارت حماسة جماهير وزعماء، أين الخطأ إذن؟ في الاستبداد؟ في خيانة الزعماء أو في كفاءتهم المزيفة؟ في الأجنبي؟

العولمة عرجاء

وبين د. هيلان أن العولمة والأزمة ظاهرتان منفصلتان ومتشابكتان في آن، الأولى طبيعية بمعنى أنها كامنة في أساس التقدم الإنساني والتطور التاريخيين، ويفرزها التقدم العلمي والتكنولوجي بخاصة، لكن العولمة ليست فقط ثورة الاتصال والمعلومات بل هي حرية العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الدول والبلدان، وحرية التبادل التجاري، وحرية انتقال الأشخاص، وهذا وجهها الثاني المكمل للأول، هنا تختلف الأمور عما هي عليه في وسائل الاتصال والإعلام.. فالتبادل التجاري، وانتقال الرأسمال والأشخاص يتم باتجاه وحيد الجانب، من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير، أما في الاتجاه المعاكس، فحرية التبادل والانتقال محدودة بقيود تفرضها دول الشمال وقوى النظام الذاتية بما يحقق مصالحها هي، وبالتالي فالعولمة عرجاء تمشي على رجل واحدة.
وأضاف د. هيلان أن الواقع يؤكد كل يوم أن الأزمة والأزمات السابقة التي نشأت بعيد الحرب العالمية الثانية، قد ركبت مركب الشركات العالمية والدول القومية والصراعات والحروب فيما بينها، كما ركبت صهوة الثورة العلمية - التقانية الجامحة لتزداد بها انتشاراً وعمقاً، أي أن العولمة لم تضع حداً نهائياً للأزمة، بل على العكس من ذلك، استمرت هذه وتفاقمت ممتطية ظهر العولمة ذاتها، ومتغلغلة في أحشائها، والعولمة بدورها عمقت الأزمات وعولمتها.
 
السلع الأوروبية بوابة الغزو

وبالحديث عن منشأ الأزمة تاريخياً، أوضح د. هيلان أن الأزمة الشاملة التي تصيب بنية المجتمع بكليتها، كما هي حالة أزمة العالم العربي، هي حالة عامة من الخلل والتمزق والفساد في مجمل علاقاتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، في علاقاتنا مع أنفسنا أولاً، وفي علاقتنا مع بعضنا بعضاً وطنياً وقومياً وعلاقتنا مع الآخر ثانياً، ومنه الغرب بخاصة، والحقيقة أن هذا الأنموذج لم نأخذه بخيارنا، وإنما دخل علينا بصورة طبيعية تماماً عبر التبادل التجاري غير المتعادل، حيث بدأ مجتمعنا يستقبل السلع الأوربية، ومع هذه المصنوعات الأوربية بدأت تتغير مفاهيمنا وأفكارنا، ولكن المشكلة نشأت مع الغزو العسكري المباشر وما أحدثه ذلك من صدمة للوجدان، بيد أن العدوان الاستعماري لم يتوقف عند تلك الصدمة الأولية، وصولاً إلى الحرب وسايكس - بيكو، وتفكيك بلاد الشام، وخلق الكيان الصهيوني، وما تلا ذلك من أحداث جسام، ووصولاً إلى هزيمة حزيران 1967 وهزيمة المشروع التنموي، لذا فالأزمة كامنة في أعماق وجداننا، في جذور ثقافتنا الحديثة، صراع بين ماضٍ يحتضر في داخلنا وحولنا، ومستقبل يتحدانا.
 
التخلف منشأ الأزمة

وأشار د. هيلان إلى الأسباب البعيدة للأزمة تكمن في سيرورة التخلف الذي عمره قرون، أما الأسباب المباشرة فهي التي نعيشها ونعيها، وبعبارة موجزة، يكمن سبب أزمتنا في هذا بالذات، في عجزنا عن تحقيق مشروعنا الحضاري الذي نسعى ونؤكد عليه دائماً، تارة باسم التقدم، وتارة أخرى باسم التنمية الاقتصادية أو التنمية الشاملة، أو «تنمية تشاركية محورها المواطن» (عنوان الخطة الخمسية العاشرة)، أليس من أهم نتائج هذا العجز فقدان مصداقية وشرعية النظم السياسية والاجتماعية والثقافية العربية والمؤتمنين عليها، واتساع الهوة بينها وبين أجيالها الشابة، وبينها وبين العالم المتقدم؟!.. وما ينجم عن ذلك من ممارسات فاسدة، وعلاقات استبدادية، وقمع وكبت، وهجرة أدمغة وأموال، وانتشار مشاعر القلق والضيق، والخوف على المستقبل، لكن هل المسؤولية تقع على كواهل النظم السياسية وحدها؟!
فالأزمة كما يعلمنا الواقع، وتثبته العلوم الاجتماعية والتاريخية، هي ظاهرة طبيعية في حياة الأفراد والجماعات والدول والحضارات، بمعنى أنها ليست حدثاً استثنائياً طارئاً، وإنما تحدث وفق قوانين التطور التاريخي الموضوعية.
 
هل من حل قادم؟!

جملة من الأسئلة طرحها د. رزق الله هيلان لتكون أجوبتها بمثابة حلول ومخرج للأزمة الحالية، حيث تساءل (دون أن يجيب): «هل يمكن إنهاء التخلف والأزمة؟! هل يمكن أن نمارس الديمقراطية والحرية والمسؤولية؟ هل يمكننا أن نحدث اختراقات علمية سياسية أو غيرها؟ ربما، ولكن في أي زمن، وفي أي شروط داخلية وخارجية؟ هل شرطنا الداخلي مهياً لاقتناص الفرص السعيدة وتجنب الفرص الحزينة؟ الأرجح، لا! لماذا؟ لأن الأهداف لا تتحقق بالإرادة وحدها، وزمن المعجزات قد ولى. الديمقراطية لا تهبط علينا على طبق من فضة، فالأهداف الرائعة لا تتم بقوانين إصلاحية أو ثورية، وإن كانت مثل هذه القوانين الوضعية ضرورية، شرط أن تأتي في وقتها، بل إنها تبدأ بخطوات قليلة متعثرة مترددة على طريق واسع طوله لا يقل عن المسافة التي تفصل مدرستنا الابتدائية عن مركز أبحاث علمية في جامعة رائدة، ولكن المهم أن نبدأ، وأن يكون العقل هادياً لنا، لا عقل النص والطقوس، وإنما عقل الروح، عقل المعرفة والعلوم، فهل نحن قادرون على إنتاج هكذا عقل، هذا هو التحدي الأعظم الذي يقع علينا مسؤولية مواجهته؟! هذه ضرورتنا التاريخية وهي من آلام الأزمة ومآسيها ستولد»