الدعم... تحديّات الواقع ومسؤولية القرار

تصاعد في الآونة الأخيرة ضجيج الفريق الاقتصادي سعياً لرفع الدعم بحجة عدم وجود موارد كافية في الخزينة لتمويله، الأمر الذي أثار ردود فعل رافضة خاصة من الاقتصاديين والباحثين والمهتمين الذين اتصلت بهم قاسيون، وحاورتهم في المسألة وكانت المساهمات التالية:

د. الياس نجمة: الدعم... تحديّات الواقع ومسؤولية القرار

تعتزم الدولة كما يصرح بذلك عدد كبير من المسؤولين فيها - منذ عامين حتى الآن - إعادة النظر بدعم المشتقات البترولية وإعادة النظر بأسعارها، معللة ذلك بان تكاليف دعم أسعار هذه المشتقات قد تجاوز مئات المليارات ((بحدود 250 مليار حسب تصريحات بعض المسؤولين)) والدولة لم تعد قادرة بسبب مواردها المحدودة على تحمل ذلك.

 كما أن دعم أسعار هذه المشتقات البترولية أدى بسبب انخفاض أسعارها قياساً بما هو قائم في البلدان المجاورة إلى تهريبها خارج الحدود حيث يذهب بذلك جزء من الدعم إلى غير السوريين، وقدر بعض المسؤولين في تصريحاتهم أن حجم التهريب يقارب 15% من مادة المازوت وغير المازوت سواء المنتج أو المستورد ويذهب البعض الآخر ليتكلم عن نسبة تفوق ذلك.

 كما يعرضون -أي هؤلاء المسؤولين- أن الدعم يذهب إلى غير مستحقيه، وأن المستفيدين من الدعم هم الأغنياء أكثر من الفقراء، وذلك من خلال ارتفاع كمية استهلاكهم في منازلهم أو قصورهم لمادة المازوت للتدفئة، وفي سياراتهم الخاصة الفارهة لمادة البنزين. وبالتالي لا بد من تصويب الوضع من خلال إعادة النظر كلياً بطريقة الدعم الحالية واللجوء إلى طريقة أخرى، منها رفع أسعار المشتقات النفطية لتخفيض تكاليف الدعم والحد من التهريب ومحاولة إيجاد طرق لإيصال الدعم إلى مستحقيه من خلال إجراءات حكومية مازال ما ذكر حولها ضبابياً وعاماً حتى الآن. إنما يقولون -أي المسؤولون - أنهم يجرون دراسات حولها ليصلوا إلى القرار الأفضل والصيغة الأنسب.

إن الاقتصاديين على العموم يكرهون الدعم وهم يعتقدون أن الدعم هو خروج عن قاعدة حقيقة السعر وهو، أي الدعم، يشوه بنية الأسعار وفقاً لمفهوم التكلفة، كما يخلق الأسواق السوداء ومتفرعاتها من سوء الاستخدام إلى التهريب ...

ويقولون إن العالم بأكمله يتجه لتطبيق سياسات حقيقة السعر. وإن اليابان لم تعرف كينز ولم تعرف ماركس، بل عرفت حقيقة السعر والتي قادت بها إلى نهضتها الاقتصادية، لا بل إلى أعجوبتها الاقتصادية.

البنك الدولي يطلب

وأن البنك الدولي يتبنى في كل توجيهاته ونصائحه للدول التي تعاني من مصاعب إعادة الهيكلة إلغاء الدعم أو التخفيف منه على الأقل، خصوصاً وأن هذا البنك وأتباعه من الاقتصاديين في العالم الثالث، لا يتوقفون كثيرا أمام الجوانب السياسية والاجتماعية لموضوع الدعم، وقد صرح أحد أهم المسؤولين الاقتصاديين لدينا بأنه لا يرغب ولا يستطيع أن يحمّل الاجتماعي على الاقتصادي، ثم عاد وتراجع عن هذا التصريح كما علمنا.

أما الاقتصاديون البراغماتيون فيقولون إنه بالرغم من كل ما ذكر، فالدعم موجود في عدد كبير من الدول وبصيغ مختلفة. كما أن القضايا الاقتصادية ليست اقتصادية بحتة. وأن معالجة أية مسالة اقتصادية بمعزل عن الجوانب السياسية والاجتماعية هو أمر خطير، بل إن الأخذ بهذه الجوانب أكثر أهمية من معالجة الجوانب الاقتصادية نفسها.

 وأن دول العالم جميعها تحمّل الاجتماعي على الاقتصادي وإن كان بنسب مختلفة.

وأن دول العالم الثالث، بالرغم من عالمية الأشياء، لا تستطيع أن تمارس ترف السياسات التي تتحكم بها النظريات أو الايديولوجيا أكثر مما ينبغي لأن اقتصادياتها تعاني من عدم الاندماج والتجانس، وتعاني من ثنائيات خطيرة وصعبة، وأن السياسات الاقتصادية لا توضع من فراغ بل في ضوء معطيات الواقع بكل جوانبه.

 أما تهريب مادة المازوت بسبب تدني أسعارها لدينا، فلا يعتقدون أن الإجراءات الاقتصادية وحدها هي المسؤولة عن معالجته خصوصا أن التفاوت بالأسعار سيبقى قائما لفترات طويلة.

بناء على كل ماسبق وجدنا أن نتقدم بمجموعة من الأفكار وأن نطرح بعض الأسئلة لعلّ الإجابة عليها تساعدنا في توصيف المشكلة وتحديد طبيعتها وإسقاطاتها وآثارها وأبعادها الحقيقية، للوصول إلى أفضل الحلول أو أقلها سوءا على الأقل.

أولا:

هل ما هو مطروح الآن هو الأخذ بمبدأ الأسعار الحقيقية على صعيد أسعار المشتقات البترولية فقط أم أنه سيكون مقدمة للأخذ بهذا المبدأ على مستوى الاقتصاد الوطني ككل؟

نحن في سورية لدينا في الحقيقة اقتصاد مدعوم، بمعنى أننا ندعم الصناعة والاستثمار من خلال الإعفاء من الضرائب، أو المعاملة التفضيلية فيها، وندعم الاستهلاك من خلال التدخل بأسعار بعض المواد التموينية.

ولا أعتقد أن أحدا في سورية يفكر بشكل جدي بالتراجع عن هذه السياسات التي ترسخت في السنوات الأخيرة.

كما أن أنصار رفع الدعم عن المشتقات البترولية لا يطالبون بالأخذ بمبدأ حقيقة السعر، أي تكلفة الإنتاج كوننا بلدا منتجا للنفط، بل يريدون الأخذ بأسعار السوق العالمي للبترول وليس الأسعار المبنية على تكاليف الإنتاج الوطنية للبترول. وهذا أمر هام جدا أي ينادون بالأخذ بالمتناقضات داخل السوق الوطني الواحد أي تطبيق أسعار طاقة افتراضية عالمية على اقتصاد مازالت مقاييس القيم فيه محلية وطنية، وخصوصا بما يتصل بمستويات الأسعار وتكاليف الإنتاج.

وفي السياق نفسه أيضا: هل سياسة أسعار المشتقات البترولية في البلدان المنتجة للنفط هي نفسها في البلدان غير المنتجة للنفط أي المستوردة له؟ ففي مصر مثلا وهو بلد عربي شقيق له أوضاع اقتصادية قريبة من أوضاعنا ومنتج للنفط بنسب مماثلة تقريبا لنا، يُمارس حتى الآن سياسة دعم أسعار المشتقات البترولية في السوق المحلية كما نمارسها نحن، وربما بنسب أكبر بالنسبة لبعض المشتقات. في حين تمارس سياسات أخرى في بلدان مجاورة كالأردن ولبنان وتركيا لسبب جوهري، وهو أن هذه البلدان غير منتجة للنفط، وهي مستوردة خالصة لكميات النفط المستهلك لديها، وهذا الأمر هام، ولا بد من التوقف عنده لدى إجراء المقارنات الصحيحة. 

وضعنا التنافسي لا يسمح

ثانياً:

إن المشتقات البترولية لاتستخدم فقط في التدفئة المنزلية للأغنياء والسيارات الخاصة العائدة لهم، فما يذهب في هذا الاستخدام هو ضئيل وممكن معالجة وضعه بما يخدم مقولة إيصال الدعم لمستحقيه التي ينادي بها بعض المسؤولين لدينا، وذلك من خلال فرض رسوم «بنزين أو مازوت» حسب الحالة على السيارات الخاصة الكبيرة والبيوت الفارهة أو القصور، وهذا ممكن ونحن نعرض هذه المسألة لإيضاح الواقع، لأن الجميع يعرف بأن القسم الأكبر من استهلاك المشتقات البترولية لدينا يذهب للنقل العام وللزراعة وللصناعة وللخدمات العامة واستخدامات أصحاب الدخول المتوسطة أو الضعيفة في تدفئة منازلهم أو بترول سياراتهم الصغيرة الحجم عادة، فكل زيادة في أسعار المشتقات البترولية سينعكس حتما على تكلفة السلع والخدمات التي تنتجها هذه القطاعات وعلى المستوى المعاشي للفئات التي ذكرت سابقا وعلى امتداد الاقتصاد الوطني ككل.

ثالثاً:

هل نحن في وضع تنافسي جيد من حيث الكلف والأسعار سواء داخل الوطن في مواجهة السلع المستوردة أو في الخارج بالنسبة للصادرات السورية بحيث لا نخشى من ارتفاع الكلف لدينا وبالتالي ارتفاع أسعار منتجاتنا وخدماتنا، وخصوصا أننا أصبحنا شريكاً حقيقياً في منطقة التجارة العربية الحرة، وأننا نمارس سياسة الانفتاح على الأسواق الخارجية عبر اتفاقات ومعاهدات مع عدد كبير من الدول والمجموعات بعضها دخل حيز التنفيذ وبعضها الأخر قادم على الطريق!

هل تساءلنا عن وضعنا التنافسي في عدد كبير من السلع الصناعية والمنتجات الزراعية والخدمات التي ننتجها، وآثار رفع تكلفة الإنتاج الناجمة عن رفع الدعم على الوضع التنافسي لهذه السلع والخدمات والمنتجات !

ما نقرؤه في الصحف وعلى لسان الرسميين وأصحاب الشأن، أن قدراتنا التنافسية مازالت ضعيفة أمام تحديات الشراكة الأوربية وأمام عدد كبير من الدول العربية والأجنبية، ووضعنا التنافسي الضعيف ليس في الخارج فحسب، وإنما في الداخل أيضا، بمعنى أن بعض منتجاتنا (الصناعية على وجه الخصوص) تجد صعوبة في الوقوف في وجه السلع الأجنبية في السوق المحلي، فماذا إذا ازدادت التكلفة لدينا بدون أي تهيئة أو استعداد مسبق وبدون أي تدرج؟. 

وضع تضخمي صعب

رابعاً:

ما هو وضعنا التضخمي الآن؟

هل نحن في وضع تضخمي مريح حيث معدل زيادات الأسعار لدينا يتراوح بين 2 و5 % فقط وهو المعدل المتسامح به اقتصادياً واجتماعياً، أم أننا في وضع تضخمي صعب وأن زيادات الأسعار في السنتين الماضيتين تجاوزت 10 و15 لا بل 20% سنوياً كما يقال بصورة غير رسمية في بعض الأوساط الرسمية. وإن هذه الزيادات مرشحة للاستمرار في الأجل القريب والمتوسط على الأقل بسبب الحالة التضخمية التي دخلنا بها، والتي كان لبعض تصرفات السلطات المختصة لدينا دورا كبيرا فيها من خلال سياسات الفوائد المضطربة التي مورست كردّات فعل، وزيادات الأسعار التي طبقتها بعض قطاعاتنا الإنتاجية العامة، وبعد أن أفسحت وزارة المالية المجال للجميع لممارسة المضاربات العقارية من خلال التخفيضات الضريبية التي أتاحها التطبيق الفعلي للقانون 41 تاريخ 26/12/2005 الصادر حول ضريبة أرباح العقارات.

 وقد تخوفنا في حينه من أن يؤدي إصدار هذا القانون إلى إشعال فتيل المضاربات العقارية وما ينجم عنه من ارتفاع الأسعار (1) وقد عبرنا عن هذه المخاوف أمام عدد من أعضاء مجلس الشعب آنذاك دون أن تتاح لنا فرصة التعبير عن ذلك أمام أصحاب الشأن في وزارة المالية لأسباب لا تتصل بنا.

إذن ما هو وضعنا التضخمي الآن؟!

هل يسمَح لنا بزيادة أسعار المشتقات البترولية التي ستؤدي حتما إلى زيادة التكلفة وبالتالي إلى مزيد من ارتفاع الأسعار والتضخم، وخصوصا أن التضخم لدينا هو في تكوينه الأكبر تضخم كلفة وليس تضخم طلب لأسباب لا تخفى على أحد. 

رفع الدعم سيرفع الأسعار

خامساً:

إن فكرة الدعم قامت بالأساس للتخفيف عن الضعفاء اقتصاديا بسبب عدم عدالة توزيع الدخل القومي بين مختلف الفئات الاجتماعية وبسبب المستوى العام المنخفض للأجور لدينا، لأن توزيع الدخل القومي «الناتج المحلي الإجمالي» إذا ترك لعفويته، يحابي الدخول الناتجة عن عنصر رأس المال على حساب الدخول الناتجة عن قوة العمل (الأجور). فهل توزيع الدخل القومي لدينا الآن هو أفضل وأكثر عدالة مما كان عليه في السابق أي عندما قامت فكرة الدعم؟ وهل مستويات الأجور وقوتها الشرائية قد ازدادت عن هذا السابق؟

يقول عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين الجديين من خلال مشاهداتهم وبعض التحليلات والحسابات التي يقومون بإجرائها – بسبب غياب الإحصاءات الرسمية التي تمتنع الإدارات المختصة مع الأسف عن الإفصاح عنها عمدا أو تقصيرا- بان الوضع الآن على صعيد القوة الشرائية للرواتب والأجور رغم الزيادات التي تحققت وأيضا على صعيد عدالة توزيع الدخل القومي هو أسوأ كثيرا من السابق.

 فماذا سيكون الوضع إذا رُفع الدعم؟! إن رفع الدعم حتى لو عوض عنه لبعض الفئات سيؤدي حتما- كما يعترف الجميع بمن فيهم المنادين به- إلى زيادة إضافية بالأسعار أي زيادة إضافية للتضخم الذي نعاني منه بشدة هذه الأيام. والتضخم كما هو معروف، وكما صرح الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران: «إنه ضريبة يدفعها الفقراء إلى الأغنياء»، وذلك من خلال زيادة القيم العينية التي يملكها الأغنياء وتآكل وتناقص القوة الشرائية للدخول النقدية التي يتقاضاها الفقراء، وهذا سيُسبب بدوره تفاقما شديدا جديدا لسوء توزيع الدخل القومي الشديد السوء في الوقت الراهن، والذي بات يهدد الاستقرار الاجتماعي ويمس بلحمة الوحدة الوطنية التي يجب أن نصونها بتخفيف الفوارق وإزالة أسباب الغضب الناجمة عن الحرمان والتفاوت الكبير في سوء توزيع الدخل.

سادساً:

إن سياستنا الاقتصادية العامة ترفع شعار «تشجيع الاستثمار»، وهو شعار صحيح وضروري فهل تساءلنا بأية كلفة طاقة نريد أن نقوم باستثماراتنا؟

هذا السؤال طرح بعد الحرب العالمية الثانية عند البدء بإعمار أوربا وقد اتخذ القرار من المؤسسات المالية الدولية الممولة للإعمار آنذاك والسلطات الاقتصادية المحلية في أوروبا بضرورة اعتماد سياسة أسعار الطاقة الرخيصة، أي اعتماد أسعار طاقة رخيصة ومصادر الطاقة آنذاك كانت الفحم والبترول المستورد بكميات كبيرة من أمريكا بالذات وغيرها من البلدان.

كما طرحت الجزائر على نفسها هذا السؤال بعد الاستقلال حيث أخذت بنفس السياسة رغم حاجتها الماسة لتصدير أكبر كمية من النفط إلى الخارج للحصول على موارد مالية.

مصر حاليا تأخذ بنفس السياسة . فهل فكرنا نحن بهذه المسالة للأسف لدينا انطباع أنه عندما وضعت الخطة الخمسية العاشرة لم يبت بشكل جازم بهذا الموضوع، كما لم تدرس بشكل كاف أيضا الجوانب المالية للخطة وذلك لأسباب تتجاوز معرفتنا.

 ونعود لنتساءل إنه في الوقت الذي تتخذ فيه كافة الإجراءات لتشجيع الاستثمار، أليس علينا أن نلاحظ أن أسعار الطاقة الرخيصة لدينا هي من أهم عوامل جذب الاستثمار؟ وأن زيادة أسعار المشتقات البترولية وما سينجم عنها من زيادات في الكلف هو عامل غير مساعد لتشجيع الاستثمار وتطويره وتخفيض كلفه وهو الذي ضحينا في سبيله بالكثير من موارد الدولة الضريبية وغير الضريبية.. ألا يبدو هناك تناقض ما في هذا الموضوع؟؟؟ 

وضعنا البترولي ملتبس

سابعاً:

ما هو وضعنا البترولي الحقيقي على صعيد الإنتاج الوطني؟ وما هي الأرقام الحقيقية للدعم؟

إن الإجابة الدقيقة والموثوقة على هذين السؤالين أمر هام جداً وأساسي للخروج بحلول وأجوبة مقنعة على هذا الموضوع الذي نحن يصدده.

فالتصريحات التي أطلقها عدد من المسؤولين الاقتصاديين لدينا حول أرقام إنتاج البترول وحول الاحتياطي النفطي تتباين كثيرا، حيث تعلن أوساط وزارة النفط أن إنتاجنا مازال جيدا وانه يتجاوز 420 ألف برميل يوميا أي أكثر ب40% من الاستهلاك الداخلي، وسوف يستمر لسنوات أخرى طويلة وقد تزداد هذه السنوات إذا اكتشفنا احتياطات جديدة، ومناطق الأمل كما يسمونها بتروليا، واعدة جدا، وأن عدد عقود الاستكشاف التي أبرمتها وزارة النفط مع عدد من الشركات الأجنبية يدلل على ذلك.

 في حين يتكلم مسؤولون يشغلون مواقع اقتصادية رفيعة عن التراجع الحاد بإنتاجنا النفطي وقرب نفاذه، وأن ميزاننا النفطي المالي أصبح عاجزا ويقدمون أرقاماً تهويلية تتجاوز مئات المليارات التي ترصد للدعم.

صحيح نحن نستورد حالياً بحدود 3.5 مليون طن مازوت ولكننا نصدر في مقابلها 3.5 مليون طن بترول خام، كان من الممكن أن تكرر محلياً لو كان لدينا مصاف كافية، إذا ما نخسره جراء استيراد المازوت هو الفرق بين سعر المازوت كمشتق بترولي وسعر البترول الخام، وهذا الفرق هو بحدود 100 دولار للطن وربما أكثر من ذلك بقليل، وبالتالي خسارتنا بهذا الشأن حوالي 350 إلى 400 مليون دولار وليس مئات المليارات (2) وهي مع الأسف بسبب إهمالنا لإقامة طاقة تكريرية كافية طالبنا بها منذ أكثر من عشر سنين.

إذا نحن بحاجة إلى أرقام موثقة صحيحة مقنعة حول موضوع كلفة الدعم الحقيقية وبجميع مراحلها ومستوياتها وطريقة حسابها حتى يقتنع بها المواطن، لأنه لا يجوز للحكومة أن تعطي أرقاما إعلامية لتبرير سياسيات وإجراءات خطيرة وهامة جدا حتى لا نقول شيئا أخر أو نردد ما يقال في الشارع.

وهنا يجب أن نتوقف ونطرح السؤال الحقيقي: هل المشكلة لدينا هي الأخذ بمبدأ حقيقة السعر لنتخلص من الآثار السلبية لسياسة الدعم وقد ذكرناها سابقا، أم أن المسالة الحقيقية هي أن الدولة تريد رفع أسعار المشتقات البترولية لأنها تواجه قصورا كبيرا في مواردها العامة وأن المسالة أساسا هي مسالة موارد؟؟ وبدلا من العمل على زيادة الموارد تلجا الدولة إلى تخفيض النفقات.

حتى ستينات القرن الماضي (3) كان أكثر من 90% من مواردنا العامة تأتي من الضرائب، ولكن بسبب إتباع سياسة الحلول السهلة في الإيرادات العامة بدأنا نعتمد رويدا رويدا على الاستدانة من المصرف المركزي عبر الإصدار النقدي وعلى فوائض القطاع العام وعلى موارد النفط اعتبارا من النصف الثاني من الثمانينيات حتى أصبحت الموارد النفطية تتجاوز 50% من الإيرادات العامة في الموازنات السابقة وقد بلغت 40% في موازنة 2005 وما بعد.

ولم تتراجع هذه الموارد كثيرا في السنوات التالية رغم انخفاض إنتاجنا النفطي، بسبب ارتفاع أسعار البترول عالميا، وذلك رغم ما يزعم حول هذا الموضوع. فإذا كانت أرقام وزارة النفط عن إنتاجنا النفطي صحيحة، إذاً المسألة مسألة موارد، فهل فكرنا بسياسات موارد ضريبية وغير ضريبية جدية وفعالة تحقق العدالة في التوزيع والوفرة في الموارد؟ هل فكرنا بسياسات حازمة وموضوعية يعرفها أهل العلم تساعد على زيادة الموارد دون إحداث اعوجاجات أو اختناقات اقتصادية؟

إن نظامنا الضريبي الحالي غير مقنع بسبب عدم عدالته، وغير فعال حالياً بسبب تخلف وقدم ضرائبه وعدم عصرنته قياساً على الأنظمة الضريبية الموجودة في الدول العربية المجاورة كتركيا ومصر والأردن وتونس.

فجميع التعديلات التي أجريت عليه مؤخراً كانت هامشية ولا تمس بنيته (4) ولم تؤد إلى زيادة فعلية حقيقية بموارده، وكانت مع الأسف استرضائية للبعض مما أوقعه في تناقضات كبيرة عند تكليف الأجور والأرباح. كما أن إصدار تشريعات ضريبية ثم تجميد العمل ببعض نصوصها، أو العودة عنها بعد فترة قصيرة ثم تعديلها من جديد أحدث اضطراباً شديداً يتنافى مع مبدأ الاستقرار التشريعي الذي يصر عليه كبار الفقهاء الماليين والذين يمارسون العمل المالي نظرا لخطورة وأهمية هذا الموضوع.

 فإصدار التشريع الضريبي ثم العودة عنه بصورة سريعة ومتكررة، كما يباهي بذلك أحد أهم المسؤولين الماليين لدينا بحجة أن العودة عن الخطأ خير من التمادي فيه، هو اعتراف ضمني بعدم الأخذ بالقواعد الأصيلة للتشريع المالي، ويعني بكل بساطة أننا قصرنا ولم ندرس كفاية هذا التشريع قبل صدوره، أو أننا كنا مخطئين في إصداره، أو حين تعديله إذا تم التعديل خلال فترة وجيزة لم تقع فيها أحداث مستجدة تسوغ التعديل. وحسب علمنا في جميع الدول لا أحد يتسامح مع الأخطاء التي يرتكبها الشخص العام. 

قرار غير شعبي

وأخيرا، إن قرار رفع أسعار المشتقات البترولية في جميع الأزمان وفي جميع الدول هو قرار غير شعبي مهما كانت مسوغاته، وخصوصا إذا مس مصالح الفئات الفقيرة وزاد من حدة التضخم والتفاوت في الثروة والدخول. فهل نحن في وضع اجتماعي وشعبي نستطيع فيه أن نمارس سياسة القرارات غير الشعبية في هذا الظرف الذي يتطلب تعبئة كل الجهود ورص الصفوف وتمتين أواصر الوحدة الوطنية؟ وهل نكافئ الولاء العالي الذي تبديه الجماهير في كل موقعة من مواقع الوطن بعدم الاكتراث بحقوقها؟!

علينا أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا بكثير من الحس بالمسؤولية وبالحرص على وطننا وخصوصا أن البعد الاجتماعي والسياسي هامان جدا في أي قرار اقتصادي، وخصوصا أيضا أن الحلول السحرية المقترحة لإيصال الدعم لمستحقيه نخشى أن تكون حلولاً غير ناجحة وبيروقراطية وعقيمة ومكلفة نضطر للعودة عنها بعد وقت قصير ولكن بعد فوات الأوان.

في ضوء كل ما تقدم هل نستطيع اتخاذ القرار الأقل سوءا إذا تعذر علينا، لظروف موضوعية، اتخاذ القرار الأكثر نجاعة؟؟.

■ الياس نجمة

المصادر:

1 - صرح السيد وزير المالية في المركز الثقافي في المزة بتاريخ 22/5/2007 أن وزارة المالية قامت بإعادة تقييم قطعة أرض من 500 مليون إلى 1000 مليون ليرة وذلك خلال أربعة أشهر بسبب ارتفاع الأسعار

2 - رغم كل شيء لاتزال لدينا فوائض نفطية ،إذ بلغت الفوائض النفطية في الموازنة العامة للدولة 177 مليار ليرة سنة 2006 ومن المنتظر أن تكون 246.5 مليار ليرة عام 2007 كما جاء في محاضرة السيد وزير المالية في المركز الثقافي في المزة بتاريخ 22/5/2007.

3 - المصدر : كتاب الاقتصاد المالي لمؤلفه الدكتور كمال غالي – جامعة دمشق 1968.

4 - مازال النظام الضريبي السوري يعتمد على الضرائب النوعية قي تكليف الدخول وهي ضرائب قديمة غير فعالة ولا تسمح بتحقيق التصاعدية الحقيقية وقد تم التراجع عنها في كل دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية وتم التراجع عنها منذ 25 عاما في عدد كبير من الدول العربية كالأردن ومصر والجزائر والمغرب وتركيا إلى آخره ... كما مازلنا مترددين في تطبيق ضريبة المبيعات المطبقة في كل مكان .

كما أن العبء الضريبي لدينا لازال ضعيفا وضعيفا جدا إذا ما قورن بالبلدان المتطورة أو البلدان المجاورة أو المماثلة لنا اقتصاديا كمصر . وان الزيادات المتحققة بالإيرادات الضريبية في السنوات الأخيرة رغم ارتفاع وتيرة النشاط الاقتصادي وزيادة الاستيراد التي أعلن عنها السيد وزير المالية في محاضرته في المركز الثقافي في المزة بتاريخ 22/5/2007 إذا أخذت بالأسعار الثابتة تكاد تكون معدومة وإذا أخذت بالأسعار الجارية فهي لازالت ضعيفة بجميع المقاييس خصوصا إذا ما عرفت أسبابها الظرفية. ■ ■

آخر تعديل على الخميس, 17 تشرين2/نوفمبر 2016 18:38