لماذا إلغاء الدعم؟!
تتكتم الإدارة الاقتصادية على تفاصيل الدعم، فلا تنشر بنوده وحجم الدعم لكل بند إلا نادراً. حصل ذلك من عام 2003 في جريدة الثورة بتاريخ 2/3/2004 صفحة 14 بقلم عبد الفتاح عوض. من الواجب أن تنشر الأرقام المقدرة والفعلية كل عام في الميزانية وفي وسائل الإعلام.
من حين لآخر تسرب وسائل أرقاماً متناثرة حول بعض بنود الدعم. أخيراً ذكر أن إجمالي الدعم يبلغ يومياً 750 مليون ل.س أي قرابة 274 مليار ل.س سنوياً، فهل هذا الرقم صحيح؟
لسنوات خلت كانت تنشر بعض وسائل الإعلام أخباراً أن مصفاة حمص ومصفاة بانياس خاسرتان فهل هذا صحيح؟ كيف تمت هذه الحسابات؟ يباع النفط الخام للمصفاتين بسعر التصدير وهذا غير منطقي. المفروض أن يباع بسعر الكلفة والذي يصل إلى بضعة دولارات مضافاً إليها هامش ربح متواضع، وليكن 10% مثلاً، ويبلغ النفط الخام في الخارج للتصدير بأعلى سعر ممكن. هنالك سعر للداخل وسعر للخارج. ناهيك عن أن طريقة حساب الدعم مضللة. الدعم هو الفرق بين سعر البيع وسعر الكلفة، وليس الفرق بين السعر في الأسواق العالمية لسلعة ما وسعرها في الداخل. لو كان الأمر كذلك وقارنا مستوى الأجور في قطرنا وفي الدول الأخرى فسنصل إلى حسابات مفادها أن أصحاب الأجور يقدمون دعماً لاقتصاد ولرجال الأعمال يعادل هذا الفرق. نستطيع أن نتخيل هذا الرقم عندما نعلم أن وسطي دخل الفرد في ألمانيا مثلاً يعادل 20 ضعفاً لوسطي دخل الفرد في سورية. لكل اقتصاد منظومة أسعار متكاملة ولا يجوز اجتزاء بعض الأسعار فقط. المعروف أن مستوى الأجور منخفض جداً بكل المقاييس على الرغم من ثراء بلدنا بالموارد الاقتصادية. علينا قبل التفكير بالأسعار العالمية أن نبدأ بالأجر وهو أهم من الأسعار فنرفعه أولاً.
هنالك دعم في كل الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وكندا وسويسرا وروسيا..الخ. فلماذا نفكر بإلغاء الدعم؟ إن وظيفة الدعم هي معالجة الخلل الحاصل في توزع الثروة والدخل والتقليل من أضرار الاحتكارات المختلفة في الخارج والداخل وتحقيق الأمن الغذائي، حيث يحصل القطاع الزراعي في الاتحاد الأوروبي وأمريكا ودول عديدة أخرى على دعم كبير جداً، في حين نحارب في قطرنا الفلاحين والمزارعين ولا ندعمهم، فالسياسات السعرية التي يحددها المجلس الزراعي الأعلى أو التجار تجرم بالفلاح، وهو خاسر في الكثير من المنتجات التي يزرعها، ويخسر في كثير من الأعوام قسماً من رأسماله الثابت، مما يدفعه للهجرة إلى مدن الصفيح في المدن بحثاً عن عمل آخر، فتحاصره البطالة.
تضمن الإدارة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية دخلاً جيداً للفلاح بغض النظر عن حسابات السوق، وذلك عبر الدعم الذي تقدمه له سنوياً كي يستمر نشاطه في القطاع الزراعي، يقدمون له دعماً يتناسب مع كمية الانتاج الذي يقدمه أو المساحات الزراعية التي بحوزته أو تلك التي يزرعها ...الخ. هناك آليات كثيرة ومتعددة لدعم القطاع الزراعي بشقيه الحيواني كالحليب واللحم، وشقه النباتي.
من المفهوم أن تلجأ الإدارة الاقتصادية للبحث عن موارد ضريبية إضافية، أو أن تعيد النظر بآليات الدعم وبنوده...الخ. هنالك بنود دعم متعددة لا يتم الحديث عنها نذكر بعضها. هنالك شركات النفط الأجنبية التي تجني أرباحاً طائلة بالمليارات معفاة من ضرائب الربح والجمارك، وكذلك الشركات التي شملت على قانون الاستثمار رقم 10 منذ عام 1991 وفنادق الخمسة نجوم، والعديد من المنشآت السياحية التي حصلت على إعفاءات ضريبية وغيرها المشافي الخاصة.
نستطيع عند إلغاء هذا الدعم للشركات المذكورة الكثيرة، أن نحصل على موارد ضريبية جيدة ووفيرة قد تقارب الرقم المكرر حول إجمالي الدعم، ونحن لا نأخذها في اعتبارنا دون سبب منطقي، نحن بددنا بهذه الإعفاءات الكثير من مواردنا الاقتصادية دون الحصول على منافع للاقتصاد توازي جزءاً منها فهل نعيد النظر بها؟
لقد قامت النهضة الاقتصادية وبشكل خاص النهضة الصناعية، اعتماداً على أسعار طاقة رخيصة جداً في الدول الصناعية وفي العالم كله. إذا رفعنا أسعار الطاقة في بلادنا نفوّت سلفاً إمكانية قيام نهضة صناعية واقتصادية في الوقت الذي نحن ننتج فيه النفط والغاز، فأية مفارقة هذه؟ نحن لا نزال في بداية النهضة، فمصلحة من يخدم ذلك؟؟؟
نحن نصدر القمح والقطن المرويين منذ أكثر من عقد بخسارة مباشرة تقدر خلال عقد من الزمن بـ250 مليار ل.س. لماذا نصدر بخسارة؟ أيتطابق هذا مع الرشاد الاقتصادي؟ وخسرنا بشكل غير مباشر (وأعني الفرصة البديلة) لو صدرنا القمح والقطن مصنعين إلى منتجات نهائية مثل المعكرونة والألبسة الجاهزة...الخ، لأصبح المبلغ كبيراً جداً، خاصة إذا أخذنا في اعتبارنا أن القيمة المضافة في تصدير الألبسة الجاهزة تزيد عن 25 ضعفاً مقارنة بالمادة الخام. هل يمكن تسمية تصدير القمح والقطن بخسارة دعماً للصادرات؟ كلا، نحن نصدر الماء، السلعة النادرة في بلادنا، عبر الزراعة المروية للقطن والقمح. كان بوسعنا استخدامها لتحقيق الأمن الغذائي في سلع أخرى للإنتاج المحلي.
نحن ندفع دعماً للمازوت المستورد فقط وليس للمنتج محلياً، فنحن نبيعه بربح عندما نصحح حساباتنا الاقتصادية. من الرشيد تخفيض استيراد المازوت فنوفر سعر شرائه ودعمه والتلوث الناجم عن استخدامه، وذلك بتحويل وسائل النقل في قطرنا لتعمل على الغاز عوضاً عن المازوت، وكلفة ذلك زهيدة، وكل ما نحتاجه هو بناء محطات تعبئة الغاز، وأن نحول السيارات لتعمل على الغاز بكلفة بضعة آلاف لكل سيارة نعوضها خلال عام بسبب انخفاض كلفة استخدام الغاز.
من الرشيد تحويل تسخين المياه والتدفئة المركزية لتعمل على الطاقة الضوئية مضافاً إليها الكهرباء عوضاً عن المازوت. ومن الرشيد تحويل الكثير من المعدات الزراعية لتعمل على الغاز والكهرباء..الخ، ولنتوقف عن استخدام الفيول في توليد الكهرباء ولنعتمد على الطاقات البديلة والغاز، وهكذا تنتفي الحاجة إلى استيراد المازوت، وينخفض استهلاكه كثيراً، وتصبح لدينا كميات جيدة للتصدير.. نحن نحرق الغاز منذ عقود ونعالج كمية صغيرة منه للاستخدام المنزلي. هذا تبديد للموارد الاقتصادية. علينا تشييد مصانع لمعالجة الغاز سواء للاستهلاك الصناعي أو المنزلي. ولدينا موارد كبيرة من الغاز من المتوقع أن تستمر لعدة عقود أخرى، بالإضافة إلى ما نحصل عليه من رسوم لمرور خط الغاز المصري بكميات تزيد على مليار م3 سنوياً. ومن المتوقع إنشاء خطوط غاز أخرى من العراق بعد تحرره من الغزو الأمريكي، وربما من إيران ودول الخليج. علينا أن نركز في استراتيجية الطاقة عندنا على الغاز الموجود بوفرة في الوطن العربي وفي القطر العربي السوري..
الوضع الاقتصادي الراهن:
- كساد اقتصادي كبير..
- بطالة تصل إلى 50% من القادرين على العمل..
- تضخم يزيد على 40% (الأرقام الرسمية عارية من الصحة)..
- معدل إعالة يصل إلى 5.3 فرد للمشتغل الواحد..
- وسطي أجر شهري يعادل 10 آلاف ل.س.
- أجرة السكن فقط تتجاوز الأجر الشهري لنسبة مرتفعة من المشتغلين!!
تقترح الإدارة الاقتصادية رفع أسعار الطاقة كما يلي:
البنزين بنسبة 33%
المازوت بنسبة 70%
الغاز المنزلي بنسبة 66%
وثمة إشاعات حول رفع أسعار الكهرباء والماء؟
فأية هدايا تقدم للمواطنين في هذه الفترة الحرجة؟ مع العلم أن السيد رئيس الجمهورية أعلن أن رفع الدعم إشاعة لا أساس لها من الصحة.
ماذا سينجم عن زيادات الأسعار هذه لشتى بنود الطاقة؟
سترتفع كلفة النقل بنسبة تزيد على 70%، وسترتفع كلفة الإنتاج في شتى القطاعات بشكل كبير جداً بما يتناسب مع حجم كلفة النقل فيها، وسترتفع كلفة الإنتاج في القطاع الزراعي بشكل كبير جداً، وسترتفع أسعار شتى المنتجات الزراعية والحيوانية.
بالإجمال سيتأجج التضخم بقوة، مما يقودنا بسرعة إلى التضخم الجامح الذي سيدمر الاقتصاد والمجتمع.
مقولة رفع الدعم لإيصاله لمستحقيه غير صحيحة، سيدفع ثمن الغلاء المواطن وصاحب الأجر بالدرجة الأولى، لأن أرباب العمل سيحملون زيادة الكلفة الناجمة عن التضخم الذي صنعته الإدارة الاقتصادية على منتجاتهم. ويلات التضخم سيتحملها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود فقط. من الواضح أن السياسية الاقتصادية في شتى المجالات تحابي الأغنياء على حساب الفقراء، خاصة في السياسة الضريبية والسعرية.
إن أسعار طاقة معتدلة هي مزية اقتصادية نسبية لقطرنا، وليس مستوى أجور منخفض كما يؤكد بعض الاقتصاديين الغربيين. علينا الحفاظ على أسعار طاقة معتدلة، وإذا رفعنا أسعارها فسيسوء وضعنا التنافسي أيضاً مع ارتفاع كلفة الإنتاج والنقل، وسيتراجع مستوى المعيشة كثيراً وهو المتدني أصلاً، وقد يؤدي ذلك إلى غليان شعبي، وستتفاقم البطالة.
نتساءل: ألا يصب هذا الإجراء في طاحونة الفوضى الخلاقة التي يبشر بها العدو الأمريكي؟ نحن محاصرون اقتصادياً، ومهددون بمزيد من العقوبات، لذلك فمن الرشيد أن نرفع مستوى المعيشة لا أن ندمره كما يقترح علينا صندوق النقد الدولي الذي ينفذ سياسات أعدائنا الكبار أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي. تقتضي المصلحة الوطنية الإبقاء على الدعم وترشيد الإنتاج والاستيراد ورفع سوية الأجور بحيث يصبح الحد الأدنى له يزيد على 25 ألف ل.س.
إن الاستفتاء الذي كانت الإدارة الاقتصادية قد طرحته، يطلب من أصحاب الأجور ومن المواطنين أن يختاروا الطريقة التي سيتم فيها تدمير مستوى أجورهم ليس إلا، يريدون تحميل أصحاب الأجور مزيداً من الأعباء تفوق طاقتهم لصالح أرباب العمل، وهذا يتعارض مع اقتصاد السوق الاجتماعي ومع الاقتصاد الاشتراكي. هذه رأسمالية القرن التاسع عشر المتوحشة وليست رأسمالية القرن العشرين أو الواحد والعشرين، فحذار ثم حذار، لأن هذه السياسة مدمرة للاقتصاد والمجتمع.