عبسي سميسم عبسي سميسم

خصخصة القطاع الصحي.. كارثة يجب ألا تقع

مازالت عمتي عيوش تقف (سنجق عرض) لكل من يتحدث أمامها عن الوضع المأساوي الذي وصل إليه المواطن السوري من فقر وقلّة حيلة، فهي دائماً متفائلة، وبرأيها مادام الاستشفاء مجانياً، وسعر الخبز على حاله، فلا أحد فقير في هذا البلد، وهي دائماً تقول: نحن بألف نعمة ويكفينا أننا نتداوى (ببلاش)، وتروي لكل من يعارضها الرأي قصة العملية التي أجرتها في مشفى المواساة التي كانت ستكلفها ما يعادل ثمن البيت الذي يأويها وأولادها فيما لو أجرتها في مشفى خاص.

مازالت عمتي، رغم كل الغلاء وقلة الدخل، تدافع عن أداء الحكومة وتقصيرها، ولكن يبدو أن الحكومة لن تترك للمدافعين عنها حتى هذه الحجة، عبر ما تمارسه من سوء في أدائها لمهامها، مما أوصل المواطن إلى مستويات مخيفة من الفقر، فهي ماضية في مخططها الليبرالي، بما فيه تحويل القطاع الصحي إلى قطاع خاص، أسوة بالقطاعات الأخرى التي يجري العمل على خصخصتها.
وبالرغم من حديث «الدردري» عام 2005 ـ خلال لقائه مع اتحاد نقابات العمال في ورشة حول الاستراتيجيات الصحية ـ بأن الخطة الخمسية العاشرة لاخصخصة فيها للقطاعات الاقتصادية العامة، وبأنه، اعتباراً من العام 2006، سيتم توجيه 12% من إجمالي الإنفاق الحكومي إلى القطاع الصحي ليستمر هذا الإنفاق على مدار الخطة الخمسية العاشرة عوضاً عن الـ6% التي كانت تنفق قبلاً، وبأن الحكومة ستوجه 3% إضافية من الإنفاق الحكومي إلى التأهيل والتدريب، إلاّ أننا ـ وبعد مضي أكثر من سنتين على هذا الحديث ـ نجد أن الحكومة ماضية في خصخصة القطاع الصحي، وقد بدأت بالخطوة الأولى على هذا الطريق بتحويل المستشفيات العامة إلى هيئات مستقلة نصف مأجورة، أي أن زيادة التمويل ستكون على حساب المواطن، وليس بزيادة الإنفاق الحكومي.
وقد سمعنا عن خطة لتحويل كل القطاع الصحي في سورية إلى قطاع مأجور، وكعادتها في تبرير أي إجراء على طريق الخصخصة، فإن الحكومة تحول القطاع الذي تريد خصخصته إلى بؤرة من الفساد، وفي النهاية تحاول إقناعنا بأن الحل الأمثل لمعالجة هذا الخلل تكمن في تحويله إلى قطاع مأجور تشرف عليه الدولة كمرحلة أولى، ثم تأتي مرحلة بيعه إلى القطاع الخاص متناسية أنها المسؤولة عن الفساد الذي وصل إليه هذا القطاع.
 واقع الهيئات نصف المخصخصة
بعد تحويل معظم المشافي الكبرى إلى هيئات مستقلة، تعتمد في تمويلها على أجور تتقاضاها من مراجعيها المرضى على أنها أجور رمزية،لم يتغير شيء في مضمون الخدمة التي تقدمها تلك المشافي، وكل ماتغير فيها هو ترميم بعض الأبنية، وتغيير ديكور وفرش مكاتب مديري تلك المشافي، وبعض التغييرات الشكلية، ففي مشفى المجتهد الذي تحول إلى هيئة مستقلة رغم صرف ملايين الليرات على ترميمه، واستقدام ورشات النظافة وحراس من القطاع الخاص،  واعتماد طرق عصرية في التعامل مع النفايات الطبية «طبعاً بشكل نظري»، إلاّ أن التعامل مع المرضى مايزال يحتكم للمحسوبيات، ومايزال الأطباء المقيمون في المشفى هم عماد المشفى، ومايزال الأطباء الاختصاصيون يناوبون في منازلهم ليمارسوا طبابتهم على الهاتف في الحالات الخطرة، فقط.
أكد السيد «ياسين الأحمد» أنه أحضر أخاه في حالة إسعافية إلى مشفى المجتهد، ولم يجد في قسم الإسعاف سوى طبيب واحد، وهو طبيب مقيم لا يحمل اختصاصاً، وأضاف: كان هناك ثلاثة أطباء آخرون من المقيمين، ولكنهم كانوا جالسين يتسامرون، ولم يكترث أحد منهم لحالة أخي الذي انتظر أكثر من نصف ساعة، قبل انتهاء الطبيب من المرضى الآخرين، وقد تعامل الطبيب معنا وكأننا نستجدي العلاج، فحولنا إلى قسم التصوير الشعاعي، ليتبين أن رجل أخي مكسورة عدة كسور، فلم أجرؤ على إبقائه في المشفى، وأخذته إلى عيادة خاصة لكثرة القصص التي سمعتها عن الأخطاء التي ترتكب بحق المرضى وخاصة في حالات الكسور.

• العيادات الخاصة في المجتهد (رفع عتب)
وفي العيادات الخارجية للمشفى، بينت السيدة نورا.ق أن المعاينة في هذه العيادات هي من باب (رفع العتب) في معظم الاختصاصات، وأن المريض الذي يراجع طبيباً اختصاصياً في المشفى عليه أن يذهب أولاً إلى عيادته الخاصة، ويدفع كشفية هناك، وإلا فما من أحد سيعيره  اهتماماً. وعن سبب قدومها إلى المشفى، أكدت أنها تحتاج إلى تخطيط أعصاب، وأن كلفته في المجتهد هي أقل من كلفته في المشافي الخاصة، ولكنها بينت أن عليها الانتظار لأكثر من شهر قبل أن يصل دورها، رغم أن هناك من يأتي من أطباء أو واسطات ويجرى له التخطيط بعد يومين أو ثلاثة أيام لا أكثر.
 
• ابن النفيس.. وضع مأساوي للطبيب المقيم
أكد أحد الأطباء المقيمين في مشفى ابن النفيس أن كل عمل المشفى يقع على كاهل الطبيب المقيم الذي قد تصل مدة مناوباته إلى 20 يوماً في الشهر، بينما لايناوب الطبيب الاختصاصي على الإطلاق، وبين أنه إضافة إلى ذلك يعامل الطبيب المقيم معاملة سيئة جداً من إدارة المشفى، فضلاً عن سوء السكن الذي لايصلح للسكن الآدمي، كما تحدث عن الطعام الذي يفتقر إلى أدنى مقومات النظافة وأضاف: جميع الأطباء المقيمين لايأكلون في مطعم المشفى المليء بالصراصير التي وجدنا أحدها في الطعام.
وعن معاملة المرضى قال الطبيب: إن الحالة النفسية السيئة للطبيب المقيم تجعله غير متحكم في أعصابه لدى استقبال المرضى، فكيف سنعامل مريضنا معاملة إنسانية ونحن نعمل لأكثر من 16 ساعة متواصلة، ناهيك عن أننا غير محميين من الإدارة في حال تعرضنا لأي تهجم علينا من مرافقي المرضى المدعومين أو من عنصر أمن في جهة ما.

• مشفى دوما (العيادات النسائية لمن تدفع)
في مشفى دوما أكدت السيدة نجوى قاسم أنها انتظرت على باب العيادة النسائية لأكثر من ساعتين دون أن يسجلوا لها دوراً لدخول العيادة. وتابعت: كل النساء اللواتي يدخلن إلى العيادة النسائية هن إما مدعومات من أحد الأطباء، أو إحدى الممرضات، أو مرسلات من طبيب قد راجعنه في عيادته الخاصة، وقد حالفني الحظ بعد طول انتظار أن جاءت إحدى السيدات المدعومات، فأدخلوها من باب قسم التوليد فدخلت معها، ولكنهم اكتفوا بتسجيل اسمي في سجلاتهم وأخذ معلومات عن مرضي، ثم نصحوني بالذهاب إلى عيادة خاصة.
أما السيدة خديجة.ع، فقد أكدت أن المسؤولين عن العيادة النسائية في المشفى لا يكترثون بأحد، ولا يدخلون أحداً إلى العيادة إلا بمزاجهم، وأضافت: هذه المرة الثانية التي أجيء فيها إلى هنا ولم أستطع الدخول إلى الآن.
وفي قسم التوليد، أكد مرافق إحدى الولّادات أنه مضى على زوجته أكثر من خمس ساعات في حالة ولادة، ولا أحد يكترث، وقد رجته لأكثر من مرة أن ينقلها إلى مشفى خاص بسبب الإهمال وقلة النظافة الموجودة، وتابع: رغم عدم قدرتي على دفع تكاليف المشفى الخاص، إلا أنني أفكر جدياً بنقل زوجتي ولو استدنت.
أما المراكز الصحية المنتشرة في المناطق والأحياء فوضعها أسوأ بكثير من وضع المشافي، فالإهمال وعدم الالتزام بالدوام وعدم توفر الخدمات هي السمات الغالبة عليها، وحتى الأدوية التي تزود بها فهي تنفذ خلال أول عشرة أيام من الشهر، مهما كانت كميتها كبيرة، والأجهزة (على قلتها) معطلة بشكل شبه دائم، أما المرضى فيعاملون كمتسولين على باب جمعية خيرية.
 
• مستوصف حجيرة للنازحين يعمل ساعة واحدة في اليوم
في مستوصف حجيرة للنازحين التقينا السيدة (حلوة.م) فبينت أنها راجعت المستوصف حوالي الساعة الثامنة فأخبرها الآذن أن الموظفين لايحضرون قبل التاسعة، وأضافت: رجعت إلى البيت ثم عدت إلى المستوصف حوالي الساعة العاشرة فأخبرتني الممرضة أنهم أنهوا عملهم وأنهم لا يجرون فحوصات أو تحاليل بعد العاشرة، فعدت في اليوم التالي كي أجري تحليلاً للسكر وحضرت في التاسعة تماماً، فانتظرت ريثما أتت الممرضة المسؤولة عن التحليل فأخبرتني أن جهاز التحليل معطل، ولما أخبرتها أن المستوصفات الأخرى لا تستقبلنا كوننا نمتلك مستوصفاً في منطقتنا: قالت إن مديرية الصحة على علم بتعطل الجهاز اذهبي و(دبري رأسك).
أما السيد سعيد ماضي فقد راجع المستوصف من أجل قلع ضرسه فأخبرته الطبيبة أنها لا تستطيع قلع ضرسه لأنه مكسور، وأن عليه الذهاب إلى طبيب أسنان، وتابع: كل الذين يراجعون العيادة السنية يتم تسجيلهم في سجلات المستوصف على أنهم مرضى قدمت لهم خدمات، علماً أن طبيبة الأسنان هناك لاتقوم بأي عمل، فقد شاهدت أكثر من خمسة مراجعين دخلوا إلى العيادة، وسُجلوا، ولم تقم الطبيبة بمعالجتهم، فبالنسبة للحفر كانت تقول لهم: لايوجد إمكانية، وبالنسبة للقلع: لايوجد تخدير، والكل كانت تنصحهم بمراجعة طبيب أسنان أخصائي، وكأنها ليست طبيبة أسنان.
 مستوصف حجيرة البلد
أما السيدة سعدة، فقد أكدت أن الممرضة المسؤولة عن إجراء التحاليل في المستوصف، فرشت  غرفتها الخاصة هناك بـ (فرش عربي)، وأشعلت فيها صوبيا، ووضعت بقربها طفلتها وصديقة تجيب بدلاً عنها على المراجعين، وتابعت: راجعت المستوصف عدة مرات، وفي كل مرة تقول لي صديقة الممرضة أن الممرضة مشغولة، فهي مرة تصلي الضحى، ومرة تعتني بطفلتها، وأضافت: إن المستوصف لا يقدم أياً من الخدمات لمراجعيه، فهو محسوبٌ علينا لمنعنا من مراجعة مراكز صحية أخرى لا أكثر.
 نقطة مضيئة في عالم المراكز الصحية
قمنا بزيارة مركز العيادات الشاملة لمرضى السكري في منطقة الزاهرة الجديدة، وهو من المراكز النادرة المتميزة، سواءً من ناحية التنظيم، أو من ناحية معاملة المرضى، إذ يستقبل هذا المركز مرضاه من منطقة الزاهرة، إضافة إلى مرضى السكري في مراحل متقدمة من جميع أنحاء المحافظة، ويحتوي المركز على أطباء اختصاصيين، فضلاً عن مرشدين صحيين يعطون النصائح للمرضى، كما يحتوي على جميع الأجهزة الطبية اللازمة لفحصهم. وأكدت السيدة سوزان خورشيد أنها راجعت المركز أول مرة منذ عدة شهور مبينةً أن جميع موظفي المركز يتعاملون مع المرضى بإنسانية، ويقدمون لهم ما يحتاجونه من تحاليل ونصائح، وتابعت: بعد أن أجروا لي تحليلاً للسكر حوّلوني إلى مرشدة صحية أعطتني النصائح التي تناسب حالتي، وطلبت مني أن أراجع المركز كل شهر، وها أنا أواظب منذ ذلك التاريخ، وقد استفدت كثيراً من زيارتي لهذا المركز.
أما السيد محمد جباوي الذي يشكو من قدم سكرية فقد قال: راجعت العيادات الشاملة عملاً بنصيحة أحد الأطباء، وفعلاً، شعرت بفرق كبير من ناحية العناية والمعاملة، وهذا الأمر لم أجده سوى في هذا المركز ..
 وفي النهاية: نجد أن تحويل قسم من القطاع الصحي العام إلى قطاع نصف مأجور كخطوة أولى على طريق الخصخصة،لم يغير في نوعية الخدمة المقدمة شيئاً، فالقطاع الصحي يحتاج بالدرجة الأولى إلى القضاء على الفساد المستشري في جميع مفاصله، كما يحتاج إلى بعض الضمير في التعاطي مع المرضى، والدليل أن هناك بعض المراكز الصحية المجانية عندما توفرت لديها الإدارة الجيدة، تحولت إلى مراكز يستشهد بها في النزاهة والتعامل الإنساني، لأن المعاملة الإنسانية لاتشترى بالمال، كما أن خصخصة القطاع الصحي ستحرم أعداداً هائلة من مواطنينا من إمكانية العلاج،  مما قد يتسبب بكارثة وطنية.