أخطار حقيقية تهدد القمح السوري.. بسبب السياسات الحكومية
تواجه زراعة القمح في سورية مشاكل نقص في الإنتاج لأسباب مناخية وبيئية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وتتأثر سلبياً وبشكل واضح بسبب تخلي الحكومة الحالية عما كانت تقدمه الحكومات السابقة من دعم وتشجيع للقطاع الزراعي، ففي الخطة الخمسية السادسة مثلاً: (1986 ـ 1990) تدخلت الحكومة في مختلف القطاعات الاقتصادية، وتركزت إستراتيجيتها في المجال الزراعي على:
1ـ تحسين ميزان استعمال الأراضي القابلة للزراعة ووقف زحف الملوحة في حوض الفرات الأسفل، وزيادة مساحة الأراضي المروية، والاستفادة من مياه الأنهار الفائضة للري.
2ـ زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية، والمردود لوحدة المساحة المروية، ونسبة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية.
3ـ زيادة القطيع الحيواني وتحسين إنتاجيته.
4ـ زيادة استخدام المُدخَلات من الأسمدة والآلات الزراعية.
وفي مجال القمح تحديداً، عمدت لزيادة إنتاجيته عن طريق:
1ـ زيادة المساحة المزروعة مروياً، وتم اتخاذ قرار بإلغاء التبوير.
2ـ زيادة إنتاجية وحدة المساحة، من خلال تطبيق التقنيات الحديثة سواء في مجال البذار المحسن الذي تطور استخدامه، وطور بدوره الزراعة بشكل كبير، مع استخدام التقنيات الحديثة بالري واستخدام مواد المكافحة، والآلات الزراعية.
دعم وتشجيع الزراعات الإستراتيجية بين المدّ والتراجع
قامت الدولة سابقاً بتحديد سعر مجز لمحصول القمح، والذي يحدد مركزياً عن طريق المجلس الزراعي الأعلى، في بداية كل موسم زراعي، وتعمل الأسعار المعلنة على رفع الهوامش الربحية للقمح، كما حصل في النصف الأول من العقد قبل الماضي، ولكن مع بدء تبلور الأزمات الاقتصادية في سورية في بداية التسعينات، بسبب الانتشار السرطاني للفساد والنهب المنظم للقطاع العام بشكل علني، ما أدّى إلى انفلات السوق وارتفاع تكاليف الإنتاج، وانخفاض الهوامش الربحية كما يتضح في الجدول الواضح لكم:
جدول يبين التكلفة ـ السعر ـ الهوامش الربحية لمحصول القمح (ق.س./كغ) في العقد الماضي
لقد ارتفع الهامش الربحي للقمح الطري من
5 % عام 1985 إلى 79 % عام 1990. أما القمح القاسي فكان الهامش الربحي 12 % عام 1985 ووصل إلى 81 % عام 1990. ويتضح من الجدول السابق عودة لانخفاض الهامش الربحي لكلا النوعين، ليصل إلى 3 % و4 % على التوالي في عام 1998. ويعود السبب في ذلك إلى زيادة تكلفة الإنتاج مع بقاء السعر ثابتاً.
العوامل المؤثّرة في عملية الإنتاج
إن أهم العوامل التي يمكن أن تلعب دوراً هاماً في إنتاج القمح، من المنظور الاقتصادي، ضمن تكامل سلسلة الحلقة الإنتاجية والتسويقية، ابتداءً من الزراعة وحتى وصولها ليد المستهلك، ويمكن اعتبارها عوامل محددة لإنتاج أي محصول زراعي، هي:
1ـ العامل الإنساني: وتحدده الخبرة العلمية والفنية التي تتوافر لدى المشتغلين في هذا المجال، ويمكن تطبيق النظريات العلمية بطريقة عملية تؤدي إلى رفع وزيادة الكفاءة الإنتاجية، لذلك يجب إيلاء الأهمية الكبرى للوحدات الإرشادية، ودَور المهندسين الزراعيين.
2ـ العامل البيئي: حيث انتشرت زراعة أصناف محددة تتأقلم مع المنطقة بشكل كبير، وتتلاءم والظروف الطبيعية (البيئة المحيطة)، ما أدى إلى تخصص بعض المناطق بزراعة القمح دون غيرها، وساهم ذوق المستهلك وطبيعة الغذاء السائد في المنطقة، في انتشار وتطوير وتحسين زراعة هذا المحصول، فالمنتجات التي تتفرع من القمح كالفريكة والبرغل والمعجنات والمعكرونة والسباكيتي، التي أضفت نمطاً غذائياً للمجتمع الريفي والمدني على حد سواء، أتاحت الفرصة لتطوير الأصناف المزروعة، وتحسين كمية ونوعية المنتَج.
3ـ العامل الاقتصادي: العامل المالي هو حجر الأساس لإنجاح أية زراعة، وقد فشل كثير من الزراع نتيجة الفارق الكبير بين المصاريف وتكاليف الإنتاج من جهة، وبين مردوده وجدواه الاقتصادية من جهة أخرى، بسبب السياسات التي تم تطبيقها مؤخراً في سورية تجاه القطاع الزراعي، من تراجع دعم الدولة وتشجيعها له، وتوجيه الحوافز لاستثمارات القطاع الخاص.
4ـ العوامل الجوية: إن التغيرات الموسمية خلال مواسم الشتاء المتعاقبة (وهي فترة زراعة ونمو الأقماح) أصبحت كبيرة جداً من حيث درجات الحرارة الدنيا والعليا، وكميات الهطول المطري وساعات السطوع الشمسي، إضافة إلى التغير في طبيعة التربة، أدى إلى ظهور تراجعات في مستوى الإنتاجية ونوعية الأقماح المنتجة، وكما تلعب كميات الهطول المطري دوراً حاسماً في زراعة وإنتاجية الأصناف، فإن التوزع المطري على مدار موسم النمو، يلعب دوراً أكثر فاعلية في هذا المجال.
أهمية الدورة الزراعية في العملية الزراعية
ـ تعد الدورة الزراعية المنتظمة إحدى ميزات الزراعة الحديثة، حيث تعتمد نظام المحاصيل المختلفة وترتيبها وتعاقبها، في بقعة معينة من الأرض خلال مدة معينة وطبقاًً لتصميم معين، إذ تعمل على زيادة الإنتاج وتحسينه، والمحافظة على خصوبة التربة وتوازن عناصرها المعدنية، ومقاومة الآفات الزراعية، وتنظيم العمل في المزرعة، وبالتالي قلة تعرض المزارع للخسارة. إضافة إلى توزيع الإيراد على مدار السنة، بسبب تنوع الحاصلات الزراعية (شتوية، ربيعية، صيفية، خريفية).
ـ الاحتياج المائي للمحاصيل: يحتاج المحصول إلى كميات كبيرة من المياه أثناء موسم النمو، ويطلق اصطلاح الاحتياج المائي على وحدات الماء بالوزن، المستهلكة من النبات واللازمة لتكوين وحدة واحدة بالوزن، من المادة الجافة، ويحتاج الموسم المروي الكامل إلى ثلاث سقايات تعتمد على ضخ المياه من الآبار الارتوازية بواسطة مضخات ديزل تعمل على المازوت، وقد زادت تكاليف السقاية على مدار الموسم للدونم الواحد في السقاية الواحدة من 3500 ل.س إلى 11000 ل. س. وبما مجموعه من 10500 ل.س. إلى 33000 ل.س. أي بمعدل 325 %. بينما لم ترفع الدولة سعر كيلوغرام القمح سوى 4 ليرات فقط من 16 إلى 20 ل.س. أي بمعدل 25 % فقط. وهذا ظلم وإجحاف بحق الفلاح، ودعوة مبطنة، بل وإكراه له لترك الزراعة الإستراتيجية، والتوجّه نحو الزراعات البديلة.
ـ نظام التبوير: للحصول على إنتاج مرتفع من القمح في المناطق ذات الرطوبة غير الكافية، يعتبر البور والذي يزرع بعده القمح، هو أفضل طريقة للإنتاج العالي، حيث يعمل البور على ادخار وحفظ الرطوبة، وإعادة إغناء التربة بالعناصر الغذائية اللازمة للنمو، وادخار النترات وغيرها، والقضاء على الحشائش الضارة بالإنتاج والأعشاب المتطفلة. لذلك عند حساب تكاليف الإنتاج، وإضافة هامش الربح الذي يكفي المزارع لإعادة إنتاج موسمه مرة أخرى، لتحديد سعر الكيلو غرام من القمح الذي سيسلمه للدولة، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هامش الربح يجب أن يكفي لضمان الحد الأدنى من مستوى المعيشة لمدة سنتين (سنة إنتاج وسنة بور).
ـ التسميد: ينجح محصول القمح في الأراضي الخصبة، ويستجيب كثيراً لإضافة الأسمدة، والتسميد العلمي يكون عن طريق معرفة الإنتاج المخطط له، وخصوبة التربة، وخصائصها الكيميائية، وكميات السماد اللازمة لتوفير العناصر الغذائية للنبات، وقد ارتفعت أسعار السماد في السنوات الأخيرة نتيجة تراجع دور الدولة في رعاية ودعم العمليات الزراعية، وبسبب تحرير أسعار السماد في السوق، وبسبب الفساد المنظم الذي تمارسه المكاتب الفلاحية في تهريب السماد الذي تخصصه الدولة للفلاحين رغم عدم كفايته لاحتياجات العملية الزراعية، إلى السوق السوداء، والتحكم بسعره بشكل احتكاري جائر، ما يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج بشكل كبير.
ـ خدمة المحصول: تساعد عمليات الحراثة العميقة والخدمة الجيدة في زيادة إنتاجية القمح، ويفضل زراعته مبكراً وجمعه مبكراً، حيث يزرع القمح في سورية في فصل الخريف، رغم أن أصنافه المزروعة هي من الأصناف الربيعية، وذلك لاعتدال فصل الشتاء وعدم انخفاض درجة الحرارة فيه إلى -8■م وهي الدرجة التي يتأثر عندها النبات بالصقيع. والزراعة المبكرة في الخريف تزيد من نسبة الأشطاء وطول السنبلة. وتلعب الأمطار الأولى دوراً كبيراً في تحديد موعد زراعة الأرض البعلية، وتفضل الزراعة المبكرة التي تزيد من المردود لوحدة المساحة، على الزراعة المتأخرة التي تزيد من إصابة النباتات بالحشرات والأمراض وبلفحة الشمس.
وقد ازدادت تكاليف عمليات الحراثة والخدمة مؤخراً، بسبب رفع الدعم عن المازوت الذي أدى إلى ارتفاع أجرة حراثة الدونم الواحد، حيث تحتاج الأرض قبل زراعتها إلى ثلاث مراحل من الحراثة على الأقل، المرحلة الأولى حراثة عميقة، وكانت تكلفة الدونم الواحد في هذه المرحلة 200 ل.س. ارتفعت بعد رفع الدعم عن أسعار المحروقات إلى 500 ل.س. ثم حراثة ثانية وتسوية وتسكيب، وكانت تكلفة الدونم الواحد 150 ل.س. ارتفعت إلى 400 ل.س. أي ما يساوي 800 ل.س. للدونم في الحراثتين، فيصبح المجموع 1300 ل.س. للدونم في الحراثات الأساسية الثلاث، ولما كان متوسط الحيازة الزراعية للفلاح في منطقة زراعة القمح الأساسية، وهي منطقة الجزيرة في سورية، تبلغ تقريباً 100 دونم، فبذلك تبلغ تكلفة الحراثة لوحدها على الفلاح 130000 ل.س. عدا عن باقي التكاليف من البذار والسقاية والحصاد، ويجب أن يراعى عند التسعير أيضاًُ، أجور النقل والتشويل والتحميل والتنزيل ويجب أن يكون التسعير مجزياً ومشجعاً للمزارع كي يتمكن من إعادة إنتاج موسمه مرة أخرى، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن، وحفظ لأمنه الغذائي واستقراره الاجتماعي.
ارتكز هذا المقال على دراسة: «إنتاجية الأقماح المحسنة في سورية، التغيرات والعوامل المؤثرة عليها، الصادرة عن معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدمشق»..