كيف يُصنع القرار الاقتصادي في سورية؟ د. سنان علي ديب: القرار الاقتصادي لم يسر وفق الاتجاه العام المتفق عليه!

فتحت قاسيون في عددها الماضي ملف «كيفية صنع القرار الاقتصادي السوري»، الذي يسعى من خلال مساهمة عدد من الاختصاصيين للإجابة على جملة من الأسئلة المتعلقة بالقرارات الاقتصادية في سورية والعوامل والعناصر المؤثرة فيها، والتداخلات والتشعبات المرتبطة بها أو الناتجة عنها، وهو ما استقبله القراء بكثير من الاهتمام والمتابعة الجدية، ونسعى في هذا العدد، وفي أعداد قادمة لمتابعة الخوض في هذه القضية، وضيفنا اليوم د. سنان علي ديب الأستاذ المحاضر في جامعة تشرين، وعضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية..

 يقول د. سنان:
في البدء أتوجه بالشكر لصحيفة قاسيون بوصفها أحد مظاهر التطور الحاصل في أداء الإعلام السوري العام والخاص المقروء والمرئي والمسموع، هذه الصحيفة التي نعتز بها والتي لم تبخل جهداً في تشخيص وتشريح مستمر ودقيق وكامل وشامل للاقتصاد السوري من حيث القرارات وانعكاساتها السلبية، وفق تنوع كبير للباحثين، حيث أنهم ينطوون تحت تنوع إيديولوجي مختلف، ولكن يتفقون على العمل من أجل البلد، فمنهم البعثي والشيوعي والقومي والمستقل، ومنهم اليساري والوسطي والليبرالي، وبالتالي تحولت إلى صوت للوطن وللمواطن وليست لتيار أو لإيديولوجية محددة..
وكذلك أتوجه بالشكر لأسرة التحرير لفتحها هذا الملف المهم من حيث التوقيت والمضمون.. من حيث التوقيت، لأن اللحاق بقطار التمكن من الإصلاح وتصحيح الاعوجاجات الناجمة عن القرارات الاقتصادية قد يفوتنا، ولذلك يجب الإسراع في إعداد وتهيئة الحلول الآنية والسياسات الاستراتيجية للاستفادة القصوى من الإمكانات الاقتصادية المتوفرة من جهة، ولمواجهة الآثار السلبية الناجمة عن عدم تناسب السياسات الاقتصادية المتبعة مع الواقع الحالي من جهة أخرى..
ومن حيث المضمون لكي نعرف إلى أين نتجه بحوارنا، ومن نخاطب، وإلى من تقدم الرؤى الاقتصادية كنوع من المشاركة الوطنية في الوصول إلى سلوك مناسب في ظل المؤشرات السلبية الكثيرة..
 
القرارات عبرت عن مصالح قلة معدودة
نلاحظ أن القرار الاقتصادي الناظم للحركة الاقتصادية والقائد للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لم يكن على السوية والملاءمة المطلوبة، وكذلك لم يكن وفق الاتجاه العام المتفق عليه والمرسوم والمأمول، حيث كان يعبر عن مجموعة من القرارات المبرمجة غير الواقعية واللاموضوعية، بل هي تعبير عن رؤى تقلد وتحاكي القرارات التي سارت عليها دول في المنطقة والعالم كحلول اقتصادية ارتآها البنك وصندوق النقد الدوليان كحلول لاقتصاد دول ذات أمراض وبنى مختلفة، للانطلاق نحو اقتصاد السوق وللاندماج في الاقتصاد العالمي، وتعبر عن مصالح قلة معدودة، وتنسى مصالح الأغلبية الساحقة, فجاءت هذه السياسات بما لا يتناسب وتطور واستمرارية نمو وتنمية الاقتصاد السوري..
وبالتالي ننطلق من سؤال: هل كانت القرارات التي تبناها الفريق الاقتصادي تسعى إلى الوصول إلى الاتجاه العام والرؤية العامة للاقتصاد التي تبنتها القيادة التي أقرها المؤتمر العاشر لحزب البعث، خصوصاً وأن بعض الأصوات تتهم هذا الحزب بالقصور وعدم القدرة على التجدد، أو بأنه سبب سوء الأداء؟
بدايةً أؤكد أن هذا الاتهام فيه تجنٍّ، وهو تبرير خاطئ ومرفوض، وذلك لأن دور الحزب اقتصر على المراقبة، وكان ذلك نتيجة لتصور صحيح وقراءة موضوعية للتطورات المحلية والخارجية، ومجرد هذه الرؤية هو تطور وتجديد في الفكر والممارسة.. كذلك هناك من حاول اتهام الكثير من المؤسسات في التدخل في القرار، وهذا مناف ومخالف حتى لما قاله النائب الاقتصادي عن تبنيه لجميع القرارات وفق برنامج يعمل على تنفيذه الفريق الاقتصادي. وهنا نسأل هل كان القرار الاقتصادي  الذي كان يتخذه الفريق الاقتصادي أو أي فرد فيه سواء على المستوى الكلي أو الجزئي يتناسب مع الإطار النظري للحزب؟ وهل استطاعت هذه السياسات الوصول إلى تحقيق المؤشرات المتناسبة مع الطرح؟ هل استطاعت محاربة الاحتكار والبيروقراطية والفساد والهدر وتحسين سوية معيشة المواطنين؟ وهل استطاعت أن تقوم بالجانب الاجتماعي من خلال صناديق الدعم الاجتماعي كصناديق البطالة والفقر؟ وهل استطاعت أن تحافظ على جودة التعليم والصحة ومعالجة مشكلة السكن، ومناطق السكن العشوائي, وأن تفرض على القطاع الخاص أن يعمل وفق عقلية تعتمد المنافسة لا الإقصاء والاحتكار، وأن يتعامل وفق معطيات تفضل مصلحة الوطن فوق كل المصالح في حالة الأزمات؟

 وهنا لا بد من ذكر الأمثلة التالية :
• بعد قرار رفع الدعم الذي اتخذه الفريق الاقتصادي وفق طريقة الصدمة المفاجئة ودون معرفة الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية، سارع السيد الرئيس للاجتماع بأحزاب الجبهة، وأوصى بتدارك الانعكاسات السلبية وخاصة على قطاع الزراعة من خلال دعم السلع الاستراتيجية ومحاولة إيجاد حلول سريعة .
• كذلك قرار البطاقات التي وزعت كدعم للمازوت, هناك أعضاء من ضمن الفريق الاقتصادي استنكروا وأقروا بفشل التجربة التي أدت إلى بيع القسائم في سوق حرة, وكذلك أدت إلى أن الكثيرين إما لم يستطيعوا الحصول على التدفئة، أو تحولوا للتدفئة على الكهرباء بسبب بيع البطاقات للحاجة الماسة للمال, مما أدى إلى ضغط على الكهرباء، وبالتالي زيادة ساعات التقنين. فهل هذه القرارات كانت مقدمة إلى القيادة السياسية العليا من  الفريق الاقتصادي بالتفاصيل الدقيقة، أم كان الهم هو تنفيذ هذه القرارات فقط؟
• ولنأخذ قانون إصلاح القطاع العام الذي نوقش منذ سنوات، فعندما دخل مجلس الشعب ونقابة العمال على خط النقاش، لم تُرضِ التوصيات بعض أعضاء الفريق الاقتصادي فنام في الأدراج، مما أدى إلى تخسير الكثير من الشركات الرابحة وخروج الكثير منها من العمل، على الرغم من أن هذا القطاع داعم رئيسي للموازنة وساهم ويساهم في الحفاظ على الأمن والاستقرار منذ الستينات وخاصة في أوقات الحصار التي مرت في الفترة الماضية، وإصلاحه ضرورة موضوعية ووطنية.
(من خلال إحدى الندوات، وعندما وصلت توصيات إلى القيادة التي فرضت قرارها، كان الإسراع في وضع هذا القانون فوق الطاولة ولكن بمحاولة تخديرية) .
•ولنأخذ قرار رفع سعر الفيول الذي اتخذ في الشهر (12) على الرغم من الأزمة العالمية والتراجع عنه بعد عدة أيام من خلال توصيات القيادة، فهل كان قرار الرفع مدروساً بدقة قبل قيام الفريق الاقتصادي باتخاذه؟

 سياسات ضد الوطن
الفريق الاقتصادي هو المسؤول عن جميع القرارات الاقتصادية في المرحلة الماضية، مع وجود تدخل خجول وغير مؤثر للنقابات ومجلس الشعب، وبالتالي فإن السياسات الاقتصادية في الفترة الماضية، قد أدت إلى تقليل المستوى المعاشي للأغلبية العظمى من الشعب السوري من خلال زيادة الأسعار وزيادة الضغط الضريبي وزيادة الرسوم، وخاصة الكهرباء والمياه والهاتف وأجور النقل. والحقيقة أن هناك فئات قليلة جداً هي المستفيدة من هذه السياسات، وحتى الكثير من الصناعات الوطنية قد اضطرت إلى الإغلاق من خلال الانفتاح الزائد الذي أدى إلى عدم قدرة البضائع الوطنية على مواجهة البضائع المستوردة. وبالتالي هذه السياسات أدت إلى زيادة عدد الفقراء والعاطلين عن العمل وانهيار الشريحة الوسطى الموازن الأساسي للمجتمع والركيزة الرئيسية للتطوير والتحديث، وزيادة عجز الموازنة والميزان التجاري وميزان المدفوعات.. هذه الانعكاسات التي من المتوقع أن تزداد في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، إن لم نستطع الوصول إلى دراسات معمقة ودقيقة عن الواقع الحالي والتوقعات الناجمة عن انعكاس هذه الأزمة على اقتصادنا، وبالتالي الوصول إلى خطط مرحلية واستراتيجيات.
إن هناك خلافاً واضحاً وعميقاً بين رؤيتين :
الرؤية الأولى: وهي التي تتبنى التفكير المبرمج وفق النهج الليبرالي، والذي يقارب وصفات صندوق النقد الدولي، وأصحاب هذه الرؤية يتحملون مسؤولية جميع القرارات التي اتخذت منذ سنوات إلى الآن، ويتحملون كذلك مسؤولية جميع الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن هذه القرارات على المجتمع.
والرؤية الأخرى: تتبناها الأغلبية العظمى من المواطنين، والأحزاب والمؤسسات الوطنية، والقيادة السياسية، ونستطيع أن نسمي هذه الرؤية بالرؤية العقلانية والموضوعية والواقعية كونها ترى بضرورة الإصلاح الاقتصادي والإداري بما يتماشى مع البنية الاقتصادية والاجتماعية، وترى بوجوب أن يكون الانفتاح الاقتصادي وفق مبدأ مصلحة سورية فوق كل المصالح، هذه الرؤية تؤمن بالإصلاح وبالتطوير وبالانفتاح وبالمرونة، ولا تشخصن الخلاف، وإنما تنطلق من أسس وثوابت تتمثل في استمرارية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وبالتالي فإن الخروج عن الإطار النظري الذي اتفق عليه بشكل جماعي من قمة الهرم إلى قاعدته، يتحمل مسؤوليته الفريق الاقتصادي الذي أعطي مطلق الحرية والصلاحيات، ولكنه أثبت بوضوح أنه لا يتمتع بمرونة، ولو أنه يحاول أحياناً أن يقوم بمناورات، هذا على الرغم من أنه كان يستند على قوة ودعم لا يستهان بها ناجمة عن المواقف الخارجية الدقيقة.. المتمثلة بهزيمة مشروع الشرق الأوسط الكبير وهزيمتين متلاحقتين للكيان الصهيوني الإرهابي، والانكسار العسكري للقوى الغربية في هذه المنطقة بتعاون قوى المقاومة والممانعة .
 وهنا نقول إن المرحلة المقبلة خطيرة من ناحية لجوء الغرب الرأسمالي إلى أسلوب المناورات لتحقيق الاستراتيجيات التي لم تتغير وإنما تغير الأسلوب، فقد استبدلت لعبة الملاكمة التي انهزمت بها بلعبة الشطرنج تتطلب الكثير من الحنكة والذكاء والبنيان القوي، خاصة وأن الأزمة العالمية المالية قد تحولت إلى أزمة اقتصادية، ومن المرجح أن تتحول إلى أزمة اجتماعية متفاقمة، وبالتالي المرحلة المقبلة تتطلب بنياناً اقتصادياً واجتماعياً قوياً يتحقق بأحد الحلين :
إما تغيير السياسات الاقتصادية من سياسات مبرمجة إلى  سياسات واقعية مرنة تراعي متطلبات المصلحة الوطنية والشعبية من جميع النواحي .
أو تغيير الأدوات الحالية المسؤولة عن اتخاذ هذه السياسات لعدم قدرتها على تغيير التفكير المبرمج إلى تفكير واقعي مرن يناسب متطلبات المرحلة ويراعي خصوصية بلدنا الغالي سورية .