مسألة سعر صرف العملة إضعاف الليرة من الخطة العاشرة إلى اليوم..
د. منير الحمش د. منير الحمش

مسألة سعر صرف العملة إضعاف الليرة من الخطة العاشرة إلى اليوم..

المخططون للحرب على سورية وفي سورية، أحد أهم أهدافهم إشاعة التعامل بالدولار أو (دولرة الاقتصاد) وإضعاف الثقة بالعملة السورية، وبالتالي تخريب أحد أهم رموز الاستقلال الاقتصادي والمس بسيادة الدولة.

 

إلا أن قصتنا مع سعر الصرف لا تبدأ من الأزمة فقط، بل تبدأ منذ الأيام الأولى للتحول في الاقتصاد السوري، وعلى نحو أدق خلال سنوات الخطة الخمسية التاسعة وصولاً للعاشرة..

تم التحول في سنوات الخطة الخمسية العاشرة من سياسات اقتصادية تدخلية تلعب فيها الدولة والقطاع العام الدور الأساسي في قيادة الاقتصاد الوطني (من ضمنها وضع خطة سنوية للقطع الأجنبي)، إلى اقتصاد السوق المنفلت من أية قيود في ظل السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة.

تحرير حركة رؤوس الأموال

ضمن توصيات ونصائح الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، جرى هذا التحول، ومن خلف هذه السياسات تمّ إشاعة هدف (خُلّبي) توهم الفريق الاقتصادي إمكانية تحقيقه، وهو تحويل سورية لتكون مركزاً مالياً إقليمياً يستقطب الاستثمارات العربية والأجنبية وفوائض الصادرات النفطية من المنطقة! ومن أجل تحقيق هذا الهدف الوارد في الخطة الخمسية العاشرة كان لا بد من العمل على إطلاق العمل المصرفي للقطاع الخاص المحلي والعربي، والسماح بإنتاج شركات و(دكاكين) الصرافة. ولإشاعة اطمئنان المستثمر الأجنبي صدر المرسوم التشريعي 8 لعام 2007 المتعلق بتحفيز الاستثمار، وقد سمح هذا التشريع بخروج رأس المال الأجنبي وأرباحه وفوائده سنوياً، وقد كان لهذا الدور الأهم في نزوح الأموال الطائلة بالقطع الأجنبي، إلى الخارج، والتخلي عن فكرة التخطيط للقطع الأجنبي، مما كان له أبلغ الأثر على العملة الوطنية وشح موجودات العملة الأجنبية. 

ومن النتائج الكارثية لهذه السياسات الاقتصادية الليبرالية: توجه الاستثمار العربي والأجنبي نحو المؤسسات المالية والمصرفية والعقارات والخدمات، منها: السياحة، فارتفع شأن القطاع المالي والتجاري والخدمي على حساب القطاع الإنتاجي وخاصة الصناعة والزراعة.

هل نجحنا بالتركيز

 على (المربع السحري)؟

سعر الصرف بتعريف بسيط يعني: عدد الوحدات من العملة الوطنية في مقابل عدد من الوحدات من العملة الأجنبية. وهو نتيجة للسياسات التي يتم اتباعها، وليس وسيلة لتحقيق هدف نهائي! فالهدف النهائي هو: استقرار أسعار السلع والخدمات، أما سعر الصرف، فهو :مرآة لقوة الاقتصاد ولمدى الثقة بالنظام النقدي، وقوة الجهاز الإنتاجي وهذه العوامل جميعها تفرز الثقة بالعملة الوطنية التي هي مفتاح استقرار أسعار الصرف.

وبالتالي يمكن القول: إن سعر الصرف هو نتيجة مجموعة السياسات والاجراءات المتخذة على المستوى النقدي والانتاج الحقيقي، ولذا نخرج بنتيجة، وهي أن سعر الصرف ليس هدفاً بحد ذاته، وما انشغال (الفريق الاقتصادي)، وانشغال الناس على مختلف المستويات بسعر الصرف، إلا ابتعاداً عن الهدف الأساسي وهو: تحقيق استقرار الأسعار في الأسواق والعمل عل تخفيضها لتتلاءم مع المستوى العام للأجور. ومن الواضح، مما سبق، أن المحافظة على قوة العملة وثقة الناس بها، يمر عبر التنسيق والانسجام التام بين السياسات الاقتصادية المختلفة، وبين السياسة النقدية، وعلى الأخص بين السياسات النقدية والمالية، حيث تهدفان بالنهاية إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان نموه وتطوره بما يضمن التوافق والتنسيق مع السياسات الاقتصادية الأخرى لتحقيق المعادلة الصعبة، وما يدعى بمعادلة المربع السحري وهي:

معدل نمو عالي. 2- توظيف كامل. 3- استقرار سعر الصرف. 4- توازن ميزان المدفوعات. 

والسؤال الآن هو: هل استطاعت السياسات والإجراءات الاقتصادية الحكومية أن تحقق أي من عناصر تلك المعادلة؟

الجواب لا يحتاج الكثير من العناء لأي باحث اقتصادي، حيث لم تنجح السياسات في التركيز على الأهداف الرئيسية. 

وعلينا أن ننوه إلى أن القضايا العسكرية والسياسية التي لها الأثر الكبير على التردي الاقتصادي، عبر التدمير الممنهج المعتمد على العقوبات والحصار الغربي على سورية أولاً، ومجموع نتائج الحرب والممارسات الإرهابية التدميرية ثانياً. إلا أن الحديث عن السياسات الاقتصادية يفرض عزل هذه الجوانب نسبياً، لتوضيح كفاءة السياسات الاقتصادية والإجراءات الحكومية خلال الفترة المنقضية ومنذ بداية الأحداث، والتي لم تتوافق مع متطلبات الظرف، أو على الأقل متطلبات التخفيف من الآثار الكارثية لهذا العدوان على الاقتصاد السوري.

الإنكار .. ثم الاضطراب

ونحاول أن نبين هنا مسار السياسات الاقتصادية وأهم سماتها خلال الأزمة من خلال النقاط التالية:

حالة الإنكار التي كانت تعيشها الحكومة منذ بدء الأحداث، وعلى مدى سنوات، حيث استمرت بالترويج إعلامياً على أن الأمور تسير على نحو طبيعي في البلاد، واستمرت في سياساتها الاقتصادية الليبرالية، بل ومضت في سياساتها الانفتاحية، ولم تعلن عن اجراءات استثنائية تتخذ عادة في إطار (اقتصاد الحرب) ورغم أنها أعادت وزارة التموين  تحت اسم جديد، إلا أن سمة انفلات السوق بقيت هي المسيطرة، بحيث خرجت الأسعار عن الإطار المقبول، وتصاعدت تكاليف المعيشة، وبرزت فئات جديدة من التجار الاحتكاريين، وأصبح الاستغلال هو العنوان في علاقات السوق. وكان من النتائج البارزة، توسع الفساد والمضاربة بأشكالها، وعملية (دولرة) العلاقات في معاملات الأفراد فيما بينهم وخاصة في المتاجرة ببيوت السكن والسيارات.

تحت ضغط العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي ومع تصاعد العمليات الإرهابية، وتخريب المؤسسات، والبنية التحتية، والاستيلاء على آبار النفط، وتفجير أنابيب نقل النفط والغاز، بدأت تظهر علامات التوتر والاضطراب في قرارات واجراءات الحكومة. وكان من أهمها: ما يتعلق بسعر الصرف، فقد أصبح الشغل الشاغل للمصرف المركزي والحكومة هو تخفيض سعر الصرف، بعد أن بدأت العملة الوطنية بالانخفاض على نحو غير مسبوق. وأمام انخفاض إيرادات الدولة السريع، وتزايد النفقات، فقد حكمت إجراءات وقرارات الحكومة هواجس الاستقرار المالي وتحقيق عائد إضافي للخزينة من العجز. وأمام هذا الهدف فإن المتضرر الوحيد في النهاية هو المواطن ذو الدخل المحدود، وقبل ذلك وبعده الجهاز الإنتاجي حيث أدت إجراءات الحكومة والمصرف المركزي إلى ارتفاع جنوني في الأسعار وانعكست أثاره على دخل المواطن، وعلى تكاليف الإنتاج. وكانت أهم القرارات الحكومية في هذا السياق، رفع أسعار المحروقات التي أدت بدورها إلى رفع أسعار المواد والخدمات جميعها، هذا فضلاً عن رفع أسعار الأدوية بنسب غير مسبوقة .

رافق ذلك إجراءات مرتبكة وغير موزونة للمصرف المركزي في سباقه غير المتوازن مع المضاربين بالعملة الوطنية، فقد اتخذ المصرف المركزي مجموعة من القرارات التي تبدو أحياناً غير مفهومة إذا افترضنا حسن النية، وكان من بين هذه الإجراءات بيع العملة الأجنبية للمواطنين وتنفيذ هذه الإجراءات عدة مرات، وضخ العملة الصعبة لزيادة العرض عن طريق المزاد، والسماح لشركات الصرافة بتمويل المستوردات، هذا فضلاً عن التصريحات المتضاربة للمسؤولين حول أسعار الصرف.

إن هذه الإجراءات والقرارات، التي جاءت تحت عنوان دعم الليرة السورية، أدت في الواقع إلى إضعافها وزعزعة الثقة بالعملة الوطنية.

إن عملية ضخ الدولار بأشكال مختلفة التي أطلقها المصرف المركزي، أفقدت الليرة السورية وظيفتين أساسيتين من وظائفها، وهي وظيفتها الادخارية، ووظيفتها كوسيلة لتقييم أسعار الخدمات. ذلك أن المواطنين اتجهوا إلى تحويل مدخراتهم الى دولار أو ذهب، سعياً للتخلص من الليرة إلى ما يحفظ قيمتها، كما أن قسماً من السلع المتداولة (خاصة السلع المعمرة) فضلاً عن العقارات أصبحت تقيم بالدولار.

مخارج

الخروج من أزمة سعر الصرف لا ينفصل عن الخروج من الأزمة الاقتصادية عموماَ، ويقتضي وضع ملامح سياسات اقتصادية ومالية ونقدية تعمل كمنظومة اقتصادية متكاملة يكون هدفها الأساسي: التعامل مع الواقع الاقتصادي والسياسي والعسكري، بالإعلان عن حالة اقتصاد الحرب، ومحاربة الفساد والفاسدين والمفسدين والقضاء على الاحتكار، لتوفير الموارد، واستخلاص العبر لوضع استراتيجية واضحة للاقتصاد السوري، تنطلق من إعادة الاعتبار للقطاع العام واعتماد مؤسساته من أجل تنفيذ المهام الإنتاجية والتجارية، وتعزيز دور الجهاز الإنتاجي وإعادة الاعتبار لثقافة الإنتاج والعمل، عبر توفير الإمكانيات.

ولتعزيز القوة الشرائية لليرة السورية، يجب: توفير السلع الأساسية بأسعار تتناسب مع مستوى الدخل وذلك عن طريق مؤسسات القطاع العام. ووضع خطة عملية للقطع الأجنبي، كما كان سابقاً، وعلى أن تكون القرارات والإجراءات تنبثق من تحفيز ثقة المواطنين بالاقتصاد الوطني ومؤسسات الدولة والعملة الوطنية في مسعى حقيقي لتحقيق المعادلة الصعبة:

نمو اقتصادي مرتفع، توظيف كامل، استقرار سعر الصرف، توازن ميزان المدفوعات.