تقرير اقتصادي خطير... والوزراء آخر من يعلم!!
لم تكن المداخلات الساخنة التي طرحتها بعض القيادات النقابية في مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال، أكثر حرارة من تقرير المكتب التنفيذي للاتحاد العام الذي تم تقديمه إلى المجلس والحكومة في آن واحد.
التقرير طرح قضايا خطيرة: الأزمة المالية الاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الاقتصاد السوري، الدولة ودورها الاقتصادي، القطاع العام، اقتصاد السوق الاجتماعي، السياسة المالية والموازنة العامة للدولة لعام 2009. حيث تشير المصادر الرسمية إلى أن الاقتصاد السوري قد حقق معدل نمو قدره 6.5% بالأسعار الثابتة في عام 2007، مما دفع واضعي التقرير إلى التساؤل: من أين جاء هذا الرقم في ظل كل الوقائع والأرقام الاقتصادية التي باتت معروفة للجميع؟
فقد اقتصر النمو على المشاريع العقارية والسياحية، التي بلغت قيمتها خلال العامين المنصرمين حوالي 750 مليار ل.س فقط، أي مايعادل 75% من مجمل الاستثمارات التي وظفت في الاقتصاد، في حين مازال القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص يعاني من جملة من الهموم والمشكلات التي تبعده عن المساهمة الفاعلة في العملية الاقتصادية. ويضاف إلى ذلك تردي حال القطاع الزراعي بسبب رفع الدعم والجفاف، ليطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى مشاريع الاستصلاح الزراعي، وحول ماتبقى من الأمن الغذائي المهتز بقوة جراء التراخي في تحسين كفاءة استخدام الموارد المتاحة، وتحسين غلة وحدات المساحة، ولاسيما المزروعة منها قمحاً. وحسب مصادر الحكومة فإن قطاع التأمين والمصارف نما بمعدل 30%، وافترض التقرير أن باقي القطاعات الخدمية نمت بمعدل 20%، وهذا يعني أن قطاع الإنتاج السلعي، كالزراعة والصناعة والبناء، قد حققت معدلات نمو سالبة لاتقل عن 20%!!
والنتيجة: إن النمو الذي تحقق كان ناجماً عن نمو في قطاعات هامشية على حساب الاقتصاد المنتج، وهو مايدفع إلى التأكيد على أن الاقتصاد السوري الذي أريد له أن يكون اقتصاداً منتجاً متنوعاً، بات أقرب مايكون إلى الاقتصاد الريعي، لاعتماده على القطاعات الخدمية، كالسياحة والمصارف والتأمين، وبالتالي فإن النمو الذي تحقق، لا يخدم أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولايعالج مشكلتي الفقر والبطالة المتفاقمتين.
أيضاً لم يرافق النمو المتحقق، وفق تصريحات رسمية متعددة، توزيع عادل لهذا النمو، بمعنى أن أغلبية الشرائح الاجتماعية لم تستفد منه، بل على العكس، فقد تم تحقيقه على حساب أصحاب الدخل المحدود، حيث ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 40% على الأقل، والإيجارات بنسبة 50%، والمواد الاستهلاكية بنسبة 40%. وارتفع معدلا البطالة الفقر إلى مايزيد عن 62%، وبلغت حصة الرواتب والأجور من الدخل القومي 38%، مقابل 62% للأرباح والريوع، ويؤكد التقرير بأن النمو الاقتصادي سوف يشهد تراجعاً حاداً، يقدر بنصف المعدل الذي تم تحقيقه في العامين الماضيين. وحسب هيئة تخطيط الدولة فإن هذا المعدل سوف يبلغ 3% فقط في عام 2009.
وفي موضوع التضخم أشار التقرير إلى أن عدم الاستقرار في الأسعار، والتضخم النقدي المستمر، وتحرير سوق التجارة الداخلية، وأسعار المواد التموينية، سيؤثر سلباً على ذوي الدخل المحدود، الأمر الذي أدى إلى هذا الانهيار السريع في قيمة الليرة السورية، وانخفاض قدرتها الشرائية. ويعود السبب في التضخم الذي تشهده البلاد منذ أشهر إلى:
1) زيادة حجم الطلب على السلع والخدمات بما يفوق طاقة الاقتصاد الوطني على تلبية مستويات الطلب العالية في المدى القصير.
2) ارتفاع أسعار عوامل الإنتاج من مواد أولية وتجهيزات وآلات، مايؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، فتنعكس في ارتفاع أسعار المنتجات.
3) مبالغة كبار المنتجين في الحصول على الأرباح، بالاستفادة من صعوبة حصول المستهلكين وتجار المفرق على المعلومات عن السلع وأسعارها ومواصفاتها وأماكن توفرها وبيعها، وغياب المنافسة، وتحكم القلة في الأسواق، مايؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
4) استشراء الفساد الذي تتأتى منه دخول كبيرة غير ناتجة عن جهد أو تعب، مما يسهِّل على أصحابها صرفها وإنفاقها في مطارح متعددة، ولاسيما في قطاع العقارات، وشراء السيارات والمطاعم، والإنفاق الترفي، مما يؤدي إلى ارتفاعات متلاحقة في الأسعار.
5) وأدى تعديل أسعار المحروقات «الإلغاء الجزئي للدعم المدفوع عن المازوت، والمشتقات التغطية الأخرى والغاز» إلى زيادة تكاليف الإنتاج، وتعديل أسعار بدل خدمات النقل والمواصلات، وأسعار المنتجات الزراعية والغذائية والصناعية، وجاء توقيت رفع الدعم في أسوأ بيئة اقتصادية محلية وعالمية.
6) ارتفاع قيمة فاتورة المستوردات السورية، من المنتجات المختلفة الغذائية والاستهلاكية المباشرة، وسلع الاستهلاك الوسيط اللازمة لقطاعي الصناعة والزراعة والبناء والتشييد.
ويخلص التقرير إلى أن الاتجاه القوي في الاقتصاد السوري يسير نحو تشكيل احتكار القلة، ولا سيما بالنسبة للسلع الأساسية، وهو ما يجعل أسعار الكثير من السلع أو الخدمات تتحدد وفق أمزجة قوى الاحتكار، وسعيها غير المحدود لمراكمة مزيد من الأرباح، ولو على حساب قوت الشعب، وتحت ضغط حاجته.
ويتوقع تقرير الاتحاد بأن آثار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية على الاقتصاد السوري سوف تكون سيئة للغاية، حيث ستتأثر أسعار الصادرات نتيجة انخفاض أسعار النفط وأسعار مختلف السلع في الأسواق الدولية، ناهيك عن تراجع الطلب بمعدلات مرتفعة، تجعل من إمكانية التصدير أكثر صعوبة عما قبل، مع العلم بأن هذه الصادرات تعاني أصلاً من انخفاض قدرتها التنافسية. ومن جهة ثانية فإن تحويلات العاملين السوريين، والتي تجاوزت ملياري دولار في العام الماضي. سوف تشهد تراجعاً في الأشهر القادمة بسبب الركود الذي يشهده الاقتصاد العالمي، ولاسيما في دول الخليج. ومن جهة ثالثة فإن المستوردات السورية سوف تتراجع قيمة فاتورتها.
ويطالب الاتحاد أمام جملة المشكلات التي تواجه الاقتصاد السوري، وخاصةالبطالة والفقر، إلى تدخل الدولة لأن معدل الفقر يزداد ارتفاعاً، مترافقاً بزيادة معدل البطالة، مقابل زيادة معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، وهي ظاهرة متناقضة يفسرها زيادة حدة التفاوت والاستقطاب الطبقي في سورية، وزيادة تهميش الطبقة المنتجة، والشرائح الوسطى، لصالح تضخم ثروات الطبقة الغنية، التي تحصل على مزيد من الدخل القومي، وكل ذلك لابد من معالجته عبر تدخل فاعل وخلاق من الدولة في الحياة الاقتصادية، سواءً بشكل مباشر عبر الاستثمار في القطاع العام، أو بشكل غير مباشر، عبر سياسات ضريبية عادلة تستهدف بؤر الفقر والبطالة.
وهكذا فإن ما قدمه المكتب التنفيذي إلى المجلس كان كافياً لوحده، بحيث لم تعد هناك حاجة حقيقية للاستماع إلى المداخلات الأخرى، إلا المطلبية منها، وأعتقد جازماً بأن الوزراء الذي حضروا المجلس لم يستمعوا إليه فعلاً، وإلا لكانوا مضطرين للرد عليه، باعتبار أنه يعارض السياسة الحكومية جملةً وتفصيلاً.