كيف يصنع القرار الاقتصادي في سورية؟ د. نزار عبد الله: القرارات الاقتصادية أسيرة بنية تاريخية مخلّفة تخدم مَنْ لا يعملون!
تتابع قاسيون فتح ملف «كيفية صناعة القرار الاقتصادي في سورية» الذي استقبله ويتابعه قراؤها بكثير من الاهتمام.. وضيف الملف لهذا العدد الباحث الاقتصادي المعروف د. نزار عبد الله عضو جمعية العلوم الاقتصادية، الذي التقيناه وأجرينا معه الحوار التالي:
• د. نزار، ما يزال القرار الاقتصادي السوري وكيفية إعداده وصياغته واتخاذه، ولاحقاً تنفيذه، سؤالاً يكتنف الجواب عليه الكثير من الغموض.. فكيف تراه أنت؟
الجهات التي تصدر القرارات في بلدنا وهي تتشكل من تآلف قوى طبقية ـ اجتماعية مختلفة، غالباً ما تتعرض لضغوط أو مطالب أو تهديدات من كل نوع، فتستجيب لها إما سلباً أو إيجاباً بدرجات مختلفة وحسب الظروف الداخلية والخارجية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن بنية الإنتاج لدينا مخلّفة، مدمرة، نتيجة الاحتلال العثماني الذي استمر طوال أربعة قرون، وجاء الاستعمار الفرنسي ليزيدها تدميراً، حيث أسس لبنية مرتبطة بالاقتصاد الأوربي؛ ندرك بعضاً من جواب السؤال. فنحن نزرع القمح والتبغ والقطن على سبيل المثال كي نزود بها المصانع الفرنسية، وسابقاً دود الحرير أيضاً جرى اعتماده لهذا السبب، وطالما أن الإدارة الاقتصادية لم تغير هذه البنية، فهي بهذا الشكل أو ذاك تعمل على استمرار المصالح والهيمنة الاستعمارية على بلادنا.
• لكن في السنوات الأخيرة، حدث ما يشبه الانعطاف بالمسار الاقتصادي السوري بعد تبني المؤتمر القطري العاشر اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي فهمه الفريق الاقتصادي على أنه توجه نحو الاقتصاد الحر.. فما الذي تغير؟
ليس هناك اختلاف جوهري بين ما كان سائداً سابقاً وما هو قائم حالياً.. هناك تغيّر، ولكن إذا نظرت إلى السياسة الاقتصادية ودرستها جانباً جانباً.. لا ترى تغييراً مهماً لصالح الشرائح الأوسع في المجتمع، فهامش الأرباح الذي يحققه تاجر الجملة والمفرق منذ أيام الاحتلالين العثماني والفرنسي كان ولا يزال قائماً حتى الآن، ولاشك أن القرارات والتوجهات التي حدثت في الآونة الأخيرة ساهمت في تكريسه وزيادته.
فخلال العقود الماضية، لم تتدخل الدولة في هذا الجانب على الإطلاق، تاجر الجملة والمفرق يربح كفائدة 20 ـ 30% باليوم، وفي السنة تجاوز أرباحه 20 ـ 60 ألفاً.. هذه الآلية وحدها كافية لأن تخنق الاقتصاد، وهذه لم يمسها أحد. حالياً وجدوا صياغة جديدة لها (ضع السعر الذي تريده، لكن أعلن عنه)، في الدول الرأسمالية لا يحدث هذا.. نظام اقتصاد السوق المطبق عندنا اليوم كان مطبقاً في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر وليس في القرن العشرين!! في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية راحت الدولة تحدد الأسعار خاصة في القطاع الزراعي، إما بتثبيتها أو عبر سياسة الدعم أو إعطاء الضمانات، مثلاً سعر منتجات الأبقار في ألمانيا مضمونة، بحيث يحصل المنتج على ربح مجز، إذا السوق أعطاه سعراً أقل فإن الدولة تدفع الفارق، الدولة تتدخل عن طريق مؤسسة الخزن والتبريد، تأخذ الفائض وتطرحه بالسوق (تستورد وتصدر) بقصد الحفاظ على استقرار الأسعار.
هذا غير موجود لدينا، وهامش ربح معظم الفلاحين لا يذكر، أو أنه غير موجود أصلاً.. النظام الرأسمالي في الغرب يضمن للفلاح المنتج دخلاً مرتفعاً يقارب دخله لو كان يعمل في الصناعة، وإلا لعزف الناس عن العمل الزراعي بكل ما يعني ذلك من آثار سلبية: اقتصادية واجتماعية ووطنية.
في بلدنا لا أحد يعلم أرباح التجار، حتى في المجموعات الإحصائية لا توجد تفاصيل وبيانات نظامية حول التجارة الداخلية.. عموماً الربح عندنا يتشكل في قطاع الخدمات وفي العقارات وليس في القطاعات المنتجة، وهذا ما يجعل اقتصادنا مشلولاً.
• ما التداعيات التي تنشأ عن عدم الشفافية وغياب الرقم الإحصائي العلمي الدقيق؟
ببساطة.. يستحيل التحليل، وبالتالي يستحيل التغيير.. في إحدى الحروب التي وقعت بين فرنسا وألمانيا في ثلاثينات القرن التاسع عشر وخسرتها ألمانيا، حاول الألمان تحليل سبب الخسارة، فاكتشفوا أن السبب هو نظام العبيد الإقطاعي السائد عندهم، فتجاوزوه، وأعطوا الفلاح جزءاً من الأرض، عندها حدث التغيير، وفي الحرب التالية انتصرت ألمانيا.
الآن هناك من يسأل: لماذا لا يتطور البلد؟ الجواب ببساطة لأن الفلاح ليس لديه فائض ربح يطوّر فيه استثماراته ويحسن إنتاجه، ولذلك سيظل حجم وتقنية الإنتاج كما هي، فيما البعض يأخذ ربحاً كبيراً دون تعب، ويبدده بشكل غير عقلاني.
• إذاً أنت تعتقد أن قوى ذات طبيعة طفيلية تتسلط على القرار الاقتصادي السوري؟
بالتأكيد، وسأورد لك مثالاً: الأرباح عندنا أين تتشكل.. هي لا تتشكل لا بالزراعة ولا بالصناعة، تلك تؤمن أرباحاً صغيرة.. الصناعي يلاقي عقبات هائلة جداً، وجميعنا تتذكر القرارات الحكومية التي ساوت بين من يستورد السلعة وبين من يصنعها، في الحالتين هامش الربح نفسه. من أصدر هذه القرارات هو من يحكم ويتحكم بالقرار!!
كيف نساوي بين من يستورد السلعة وليس فيها أية مخاطر، وبين الصناعي الذي يعمل وينتج وعمله فيه مخاطرة؟ وكأنهم يقولون للصناعي: ابتعد عن الصناعة، لماذا تقامر؟ هذا توجيه معلن: كونوا في قطاع الخدمات فهو أربح لكم ولنا!!
الدولة لا تتدخل ليكون هناك قطاع خاص منتج وقوي، والسياسة الاقتصادية المتبعة حالياً معادية للقطاعين العام والخاص..
مثلاً: الكرنك كانت إحدى الشركات المنظمة، منعوها أن تشتري باصات جديدة، منعوها من التطور.. فماتت! فكيف نفسر قراراً كهذا؟
• ما دور المؤسسات الدولية في كل ذلك؟
المؤسسات الدولية أدوات الاستعمار الحديث، سواء منظمة التجارة العالمية، أو صندوق النقد، أو البنك الدولي، فبدلاً من الاستعمار بالدبابة عاد المستعمرون بالحقيبة وكخبراء، يقولون: هذه مصلحتكم.. اعملوا كذا.. وتأتي وصفاتهم قاتلة للدول النامية..
إحدى التوجيهات جعل الأجور متدنية، واعتبار ذلك مزية اقتصادية نسبية من أجل مجيء المستثمرين، وهذا الكلام غير صحيح.. فالاستثمارات تتجه للبلدان التي فيها أعلى الرواتب لأن هناك إنتاجية عالية وخدمات متطورة. الدول النامية لا تذهب إليها الاستثمارات ولا المستثمرون، فإذا لم تكن لديك رواتب عالية، لن توجد قوة شرائية، فمن يشتري إنتاجك؟ مصانعك ستعاني الكساد، وبالتالي لن تكون أمامك فرصة للتطور.. يجب أن ترفع الرواتب، وهذا ليس في مصلحة العمال فقط بل في مصلحة الاقتصاد ككل.
• ما السبيل لتصحيح مسار القرار الاقتصادي السوري؟
يفترض أن تتحرك القوى الاجتماعية من فلاحين وعمال ومثقفين، وتطالب بحقوقها بطرق سلمية.. على الجماهير ألا تكف عن المطالبة بحقوقها؟ يجب أن يعلموا أن كل شيء له ثمنه، في كل الأحوال نحن ندفع ثمناً غالياً سواء كأفراد أو كمجتمع نتيجة السياسات الاقتصادية القائمة.
• ما دور الاقتصاديين الوطنيين في هذا المجال؟
دورهم أن يساهموا بإنضاج الوعي الاقتصادي. الاقتصادي لديه فرصة للتوعية عبر النشر في الصحافة، طالما من الصعب عليه طباعة الكتب.. ألفت كتاباً عن اقتصاد سورية لكنه مايزال حبيس الأدراج منذ 30 سنة.. بعض القوى الاجتماعية تشتري بعض الاقتصاديين: «كن عاقلاً ولا تكتب ما يزعجنا ويوجع رأسنا نؤمن لك مصالحك..».
• ما دور جمعية العلوم الاقتصادية كمؤسسة في المساهمة بعملية التوعية؟.
كان لها مساهمة.. د. عصام الزعيم (رحمه الله) كان قبيل رحيله يعد مع عدد من الاقتصاديين (تقريراً اقتصادياً) لأول مرة في سورية، ولكن عندما توفي د.عصام تم إفشال المشروع.. هناك قوى اجتماعية ممن يدعون الليبرالية أصبحوا في موقع القرار، ويتمثلون بالفريق الاقتصادي، وهم لا يسمحون بالرأي الآخر الاقتصادي.. بل يقمعونه.. ويحاولون خنقه..
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.