الإصلاح الذي يفهمه المواطن.. والإصلاح الحكومي!!
لأن الظروف غير ملائمة لتغييرات جذرية، لذلك عندما يُشار إلى مطارح الخلل فإن القصد من وراء ذلك هو الإصلاح، ولكن يبدو أن هناك بوناً واسعاً بين الإصلاح الذي يريده المواطن، والإصلاح الذي تقوم به الوزارات والجهات الوصائية. فالقطاع العام الإنشائي الذي قام عبر 40 عاماً بتنفيذ المشاريع الإنشائية، ارتُكبت بحقه أكبر الموبقات، وأُنهك من خلال ظروف مفتعلة: قلَّة جبهات العمل، ارتفاع أسعار المواد الداخلة في أعماله، تأخر صرف الكشوف المالية، الدخول في المنافسة مع القطاع الخاص رغم عدم توفر عوامل المنافسة، ارتفاع تكاليف الصيانة والإصلاح، قِدَم الآليات والتشابكات المالية.
تبين التقارير الرسمية أن الكشوف المستحقة للشركة العامة للطرق والجسور 2.400 مليار ل.س، وللشركة العامة للمشاريع المائية 1.764 مليار ل.س، وللشركة العامة للبناء والتعمير 500 مليون ل.س، وهذه ديون على الجهات الحكومية لم تُدفَع. فهل تسكت الشركات الخاصة عن هكذا ديون؟ وهل تتأخر الجهات الحكومية في دفع أي مبلغ للقطاع الخاص؟
الخلل الإداري والفساد في الشركات الإنشائية أدى إلى تسليم أعمال هامة من إدارات الشركات الإنشائية إلى متعهدين لقاء حصص معلومة ونسب للمدراء، رغم أن الشركات العامة تملك من الآليات واليد العاملة الخبيرة والفنية والمؤهلة ما يكفي للقيام بأي مشروع، وبدلاً من التشدد في محاسبة الإدارات يصدر مؤخراً قرار عن رئاسة مجلس الوزراء يسمح بموجبة لشركات القطاع العام الإنشائي التعاقد مع القطاع الخاص لتنفيذ المشاريع بحيث لا يتجاوز العمل 25% من القيمة، ويسمح باستخدام عمال بعقود عمل مؤقتة على المشروعات. وقبل صدور هذا القرار كانت إدارات الشركات الإنشائية تسلم 35% من أعمالها للقطاع الخاص دون مساءلة أو محاسبة، الآن في قرار رسمي عن رئاسة الوزراء يعني تسليم 80%، وهذا يعني شرعنة الفساد.
الانفتاح في الشؤون الاجتماعية
قبل أشهر دعت وزيرة الشؤون الاجتماعية القيادات النقابية إلى اجتماع قالت فيه: «إن البنك الدولي قدم مساعدة مالية لدراسة واقع مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وقد استقدمت الوزارة خبيرة اكتوارية درست واقع المؤسسة خلال ثلاثة أشهر، وخرجت بنتيجة تقول إن المؤسسة سوف تكون مفلسة عام 2017 إذا لم نخفض الرواتب التقاعدية، وقوبل هذا الاقتراح برفض شامل من القيادات النقابية. الخبيرة الاكتوارية لم تطالب بإصدار مرسوم أو قانون يجبر أصحاب العمل على تنسيب عمالهم للمؤسسة، ولم تطالب بتحصيل 60 مليار ل.س ديوناً على وزارة المالية، ولم تطالب بتوسيع استثمارات المؤسسة، طالبت فقط بتخفيض رواتب العمال.
رئيس اتحاد عمال دمشق قال للنائب الاقتصادي في اجتماع لمجلس الاتحاد العام لنقابات العمال: «لماذا تأخذ من الاتحاد الأوروبي مليون ونصف يورو لتجديد مكتبك، أنا أعطيك هذا المبلغ لو طلبته» فقال النائب الاقتصادي: «من حقي أن أجدد المكتب وهذه منحة أوروبية».
قال وزير الزراعة لمدير في الصندوق الدولي للتنمية الزراعية «إيفاء»: «درسنا مشروع تطوير الثروة الحيوانية وأهميتها فهي تلعب دوراً كبيراً في تأمين الغذاء، وأن هذا القطاع يحتاج إلى عناية خاصة وآلية عمل لتأمين الأعلاف، والدخول في النهج التشاركي وتنظيم المراعي والاهتمام بعملية التسويق، ونتمنى أن يحقق المشروع الهدف الأساسي له». وطبعاً وصلت الوزارة إلى النهج التشاركي بعد أن أوصلت المؤسسة العامة للأبقار إلى الخسارة، تلك التي كانت تملك أكثر 10 ألاف بقرة وآلاف الدونمات الزراعية!!
في وزارة النقل سيتم إلغاء الرسم السنوي للسيارات ورفع سعر البنزين، وهذه الدراسة تمت مع فريق وكالة التنمية بالأمم المتحدة، والهدف تخفيف العبء على المواطنين الذين يملكون سيارات، ولتبسيط الإجراءات وتخفيض الكلف المباشرة كالورقيات والمطبوعات والوقود والمصاريف الأخرى. وفي عملية حسابية لسيارة عمرها 10 سنوات رسومها العادية 4000 ل.س سنوياً سيعفى منها، ولكنه سيدفع فرق سعر البنزين 17000 ل.س سنوياً إذا احتاج إلى 12 لتر بنزين كل يومين.
يقول وزير النفط على هامش الندوة التي أقامتها المؤسسة العامة لتكرير النفط وتوزيع المشتقات النفطية بالاستعانة مع شركة «شل» بأن شركة «شل» قدمت تقريرها النهائي حول تقييم واقع صناعة التكرير في مصفاتي حمص وبانياس والسبل والمقترحات الكفيلة بتحسينه بعد دراسة قامت بها على مدى أكثر من عام قدمه الخبير اندرو مورتيمر حدد فيه الفجوات بين الوضع القائم وما يمكن أن يكون عليه الحال بعد جسر هذه الفجوات، بتغيير طريقة التشغيل والسلوكيات والذهنية السائدة بما يجعل عمل المصافي أكثر كفاءة، مع الأخذ بعين الاعتبار ضغط النفقات. ووصل الخبير إلى الاستنتاج أن مصفاة حمص تستهلك 2.5 ضعف ما يجب استهلاكه من الطاقة لنفس كمية الإنتاج. وكذا الأمر لمصفاة بانياس التي تستهلك 1.7 ضعف ما يجب استهلاكه، والهدر يقدر بنحو 185 مليون دولار سنوياً. وحدد الخبير أن التقانة السائدة تعتمد على ردة الفعل لا على حس المبادرة، وتوقف عند الحجم الكبير في أعداد القوى العاملة في كلتا المصفاتين، قياساً إلى مصافي بلدان أخرى إذ تصل إلى 16 ـ 18 ضعفاً بالقياس مع مؤشر شل للعمالة.
هناك تقارير نقابية منذ 20 عاماً تشير إلى الخلل في مصفاة حمص التي أقيمت منذ عام 1985 وبقيت دون تجديد أو تطوير أو تحديث، وتطالب هذه التقارير الحكومة بتطوير المصفاة، وتطالب تقارير لاحقة بإقامة مصاف جديدة، خصوصاً وأن إقامة مصفاة قبل 10 سنوات لا تكلف أكثر من 100 مليون دولار، ولكن الحكومة كانت آنذاك تستسهل الاستيراد، وإذا كان الخبير قد نفى حس المبادرة فقد كان من واجب وزير النفط أن يشرح له الدور الهام الذي قام به عمال المصفاة حين قصفت من العدو الإسرائيلي واستطاع عمال المصفاة بناءها من جديد بإمكانات ذاتية وبالاعتماد على الذات، وإذا كان الخبير قد توقف عند حجم العمالة الكبير كان على السيد الوزير أن يشرح له دور القطاع العام ووظيفته الاجتماعية في بلدان العالم، ومتوسط أعمار عمال المصفاة ونسبة الأمراض المهنية المتفشية في صفوفهم.
ولا شك أن الخبير لم يعلم بالمافيا التي تقوم بضرب الخطوط النفطية وسرقتها وتسجل ضد مجهول، ولم يعلم بالمليارات التي كانت تهرب إلى البلدان المجاورة ولم تستطع الوزارة أو الجهات الحكومية إيقاف هذا الهدر الكبير، وحملته للمواطن من خلال تحرير أسعار النفط، ولم يعلم السيد الخبير بالفساد الإداري الذي استشرى في المصافي وفي غيرها من الشركات من خلال العقود والمناقصات والسمسرات، ولكنه علم بالعمال الفائضة.
ماذا بعد؟!
مازالت الندوات تعقد في الفنادق الكبرى والفخمة، ومازالت الورش تقام، ومازالت المنظمات الدولية تتوافد على سورية لإقامة هذه الندوات وتقديم النصائح الاقتصادية والاجتماعية تحت يافطة التطوير والإصلاح والتحديث، وينظر المواطن بخوف إلى هذه الأنشطة التي تهدف في مجملها إلى ضرب مكاسب تحققت منذ أكثر من 40 عاماً، في حين تتوالى التصريحات التي تبشر بما هو قادم. ومن هنا نجد أن البون شاسع بين الإصلاح الذي يفهمه ويريده المواطن، والإصلاح الذي تقوم به الحكومة.