(أفلا يعقلون..)! وصفة قديمة جديدة للاقتصاد السوري
يريد الليبراليون اليوم أن (نجرّب المجرّب) فبعد ست سنوات من الأزمة، تعود المقولة التبسيطية القائمة على فكرة التفاعل بين (أصحاب المشاريع ودولة القوانين) لتصدّر كحل للأزمة الاقتصادية السورية، ولاستعادة الاقتصاد السوري والليرة قوتهما، فهل يكفي أن تكون الدولة مشّرع وقانوني وميسّر أعمال؟!
تقول الرواية الليبرالية بأن النشاط الاقتصادي يقوم على رجال مال وأعمال، صغاراً وكباراً ومتوسطين يعملون في جو من التنافس، ترعاهم دولة قانون تحتكم بينهم بالعدل.
فتسُن القوانين التي تسهل الأعمال والنشاط الاقتصادي، وتؤمن لهم (مناخ الاستثمار) ومحدده الأساسي، أن تنسحب الدولة من دورها في الإنتاج الاقتصادي بالدرجة الأولى، ومن التحكم بقطاعات منه، ومن تشويهها للأسعار بالدعم، وأن تترك الأمور على مغاربها لـ (عفوية السوق) وتصبح (دولة القانون المشرفة). وبهذه الطريقة فإن الأمور تسير بشكلها الطبيعي إلى خواتم إيجابية فيحصل التشغيل والنمو وتزداد الأجور ويقوى الاقتصاد وتقوى العملة وتعمّ الأفراح والرخاء!
أي أن هناك من يريد أن يقول لنا وللسوق، بأن الدولة ستقتصر على (الإجراءات والتشريعات) لتساعد (أصحاب المشاريع) لينطلقوا.. ألم نسمع هذا الكلام منذ عام 2000، وتحديداً منذ 2005؟! فماذا جرى؟ يبدو أن التذكير ضروري..
هل يعقل أن (نجرب المجرّب)؟!
(حرية السوق) التي تم إفلات عقالها في سورية خلال عقد الألفية، وبعد 2005 تحديداً، سيّرت الأمور وفق مصالح أصحاب المشاريع، وهذا أدى بأحسن أحواله وفي ظروف السلم إلى تحقيق نمو اقتصادي سنوي 5% كما تقدر الإحصائيات الاقتصادية الرسمية، ولكن أصحاب المشاريع اختاروا قطاعات وتركوا أخرى للتدهور..
فهذا النمو بالفعل تحقق من تدفق (أصحاب المشاريع الخليجية) وغيرها لتعمل في السياحة والعقارات والمال والتجارة، فتوسعت التجارة سنوياً بنسبة 12%، وتوسع قطاع المال والمصارف والخدمات بنسبة 14%.
أما أصحاب المشاريع في الزراعة والصناعة السورية التي يغلب عليها الحجم الصغير والمتوسط، فقد تيتموا، بعد أن استهلكت أموال الخليج والقطاعات الريعية والخدمية والمالية، قدرات الدولة وحيويتها على رعاية رؤوس الأموال، حيث تدفقت القوانين والإجراءات والتشريعات على (القطط السمان)، وتجرد مزارعو سورية وحرفيوها وصناعيوها في العام والخاص، من دور الدولة الداعم ومن الإنفاق الاستثماري ومن حقوقهم من المال العام الذي راكموه، وتُركوا لينمون بقدراتهم الذاتية الضئيلة، حيث الزراعة كانت تنمو بنسبة 0,6% فقط خلال عشر سنوات من 2000- 2010، والصناعة لم تنمو سنوياً إلا بنسبة 2,7%.
أمر آخر لا بد من التذكير به، فهذه الـ 5% نمو المحققة، وصل 85% منها إلى 15% فقط من السوريين.. أي أن قلة غنمت معظم هذا النمو الضعيف وغير الكافي، بينما بقيت غالبية السوريين في وضع متراجع ومتآكل عاماً بعد عام إلى أن كان الانفجار والأزمة.
إذاً من يريد أن يعيد لنا (الوصفة القديمة) باعتبارها حل ناجع جديد، يريد أن يقول أن النتائج السابقة كلها مقبولة ومرغوبة..
ماذا عن (قوة الاقتصاد)!
لدى الليبراليين اليوم وصفة مجرّبة لقوة الاقتصاد، تؤدي إلى تراجع الزراعة والصناعة، وإلى النمو وفق خيارات كبار أصحاب المشاريع، وتحوّل الدولة إلى مُيسّر أعمال لحيتان المال، تخفض لهم الضرائب، وتقدم لهم الأصول، وتحرر لهم الأسواق، وتخلصهم من (تشوهات الدعم) وتعقلنه، وتمنحهم حصتها من الإنتاج الصناعي والخدمي الرئيسي، وأخيراً تؤدي إلى توزيع جُلّ النمو الضئيل المنتج على القلة القليلة من رؤوس الأموال وموظفيهم الكبار..
علينا أن نتساءل سؤالاً بسيطاً هل تناسب هذه الوصفة القائمة على خيارات أصحاب المشاريع، التصدي لمهمة واحدة من المهمات الاقتصادية الاجتماعية العديدة التي تواجه سورية بعد ست سنوات من الأزمة.. ودون أن نوسع بوصلة المهمات، هل تستطيع هذه الوصفة التي طرحت في سياق الحديث عن قوة الليرة وقوة الاقتصاد، هل تستطيع أن تحمي الليرة ذاتها؟!
شبح التدهور السريع يحيق بالليرة مهدداً موارد الدولة، وأصحاب الأجر، وبمعنى أعم، مهدداً بفوضى اقتصادية عارمة؟! فهل سيختار أصحاب المشاريع، أن يوسعوا أعمالهم الزراعية والصناعية، ويتركوا نشاط التجارة والمضاربة على العقارات وعلى السلع وعلى الليرة ذاتها؟! ترى هل سيختار أصحاب الأموال أن يقوموا بإيقاف عمليات تحويل أرباحهم إلى دولار، أو تهريبها للخارج؟! وما القوانين التي من الممكن أن تجترحها عبقرية السياسات لتحفيزهم بهذا الاتجاه وذاك؟!
آخر قرارات السياسة الاقتصادية كان رفع أسعار المحروقات، ولهذا القرار تأثير فعلاً على الزراعة والصناعة، فهو سيحفز من تبقى من المزارعين والصناعيين في سورية، لترك نشاطهم الاقتصادي الإنتاجي، والتوجه إلى (ما يفتح الله) من أعمال، وسيؤدي إلى تراجع قيمة الليرة، وأضعاف الاقتصاد.
فإذا ما كانت الوصفة تقول بأن الدولة هي التي تسن التشريعات والإجراءات لتحفيز أصحاب المشاريع، فإن هذه القرارات بالفعل تناسب كبار الناشطين في نهب قدرات البلاد الاقتصادية، وآخر ما تبقى فيها من عزيمة على العمل والإنتاج، وهي تناسب من يريد أن يقدمها فريسة واهنة غير قادرة على المقاومة، لتنهشها وحوش المال..