ملف إعادة إعمار سورية (13): كوسوفو... (السلام الليبرالي) و(ديمقراطية) الناتو!
في عدد قاسيون رقم (734) الصادر بتاريخ 31/1/2016، تناول ملف إعادة إعمار سورية تجربة (إعادة إعمار كوسوفو) بعد حربها الأهلية التي اندلعت في شباط عام 1998 وانتهت في حزيران 1999، وغذتها الدول الغربية على أساس عرقي وطائفي، ثم تدخلت عسكرياً عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) حينها.
أضاءت المقالة في ذلك العدد على أبرز عناصر مشاكل تلك التجربة والتي تكثفت بمشكلتين رئيسيتين هما:
أولاً: وضع إدارة البلد في المجالات المختلفة تحت وصاية المؤسسات الدولية، والتي ركزنا عليها في ذلك العدد.
ثانياً: طبيعة السياسات التي حكمت عملية إعادة الإعمار تلك التجربة التي قامت على السياسات الليبرالية والخصخصة، والتي سنبرزها في هذه المقالة.
ومن الجدير ذكره أننا ذكّرْنا بمشكلة ثالثة وسمت تجربة الإعمار في كوسوفو وهي المتعلقة بالدور السيء للمنظمات غير الحكومية (NGO's)، ولكننا لن نستعرضها كونها عولجت بشكل موسع في تجارب سابقة.
السلام الليبرالي!
في الحقيقة لا تنفصل مشكلة (وصاية المؤسسات الدولية) عن (طبيعة السياسات الليبرالية المطبقة)، فالسياسات المطبقة هي جزء من أدوات المنظمات الدولية في التحكم بعمليات (إعادة الإعمار) بشكل عام، ويرى الباحث (Michael Pugh)، مايكل بو، أن عمليات إعادة الإعمار في القرن العشرين قد جرى تطبيقها تحت مسمى (مشروع السلام الليبرالي).
ويقوم ذلك المشروع بشكل رئيسي على دفع المجتمعات التي مزقتها الحروب، إلى إقامة خط للتعاون العالمي نحو ما يعرف بـ (تحرير الأسواق)، فوفقاً لوجهة النظر التي تتنباها المؤسسات الدولية فإن (السلام الليبرالي يعزز التحول من الصراع والحرب إلى الاستقرار الاقتصادي الكلي والنمو). ويضيف الباحث (مايكل بو) أن أبرز مقوّمات ذلك السلام هي: (الحد من دور الدولة وضغط الفضاء الجماعي والعام، والسعي من أجل الثراء الخاص، والاعتماد على الخصخصة وعلى الصادرات والاستثمارات الأجنبية لتحفيز النمو الاقتصادي)!
كانت كوسوفو نموذجاً لذلك (السلام) والذي لم يتحقق فعلياً، فعلى الرغم من مكانتها باعتبارها مقاطعة صربية، فقد حدد دستورها ومكانتها الدولية وسياستها الرسمية الاقتصادية من منطلق ما جاء به حلف الناتو وما أقرته الدول المساهمة في العملية الإعمارية، وذلك في مؤتمر رامبيوية في 23/2/1999، وهو ما يعني مصادرة حقها في صياغة وتبني سياسات اقتصادية خارجة عن رؤية الناتو أو رافضة لـ(مشروع السلام الليبرالي).
في ذلك المؤتمر أُعلن أن كوسوفو ستعمل وفق مبادئ (السوق الحرة) وهو الهدف الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من أهداف حلف شمال الأطلسي (NATO)، وهو ما طبق في ميثاق الاستقرار في منطقة البلقان، والتي بدورها فرضت وعممّت فكرة (السوق الحرة) في أنحاء أوروبا الشرقية جميعها، وهو ما يتناقض مع مبادئ الاستقلال الوطني، كما يكشف زيف تصريحات الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية التي ادعت ضرورة أن تحكم كوسوفو وفقاُ لمبادئ الديمقراطية! وهذا ما أكده الباحث (مايكل بو) بالقول: (الهدف الأول لما بعد الحرب الذي سعى المجتمع الدولي والمنظمات الفاعلة في مجال إعادة الإعمار لتحقيقه هو حماية الشعب الكوسوفي عرقياً وثقافياً ودينياً ولغوياً، ولكن حلف شمال الأطلسي عمل على تقليص حقهم في اختيار المستقبل الاقتصادي)!
ديمقراطية الناتو!
طبعاً لم تطال الإملاءات الدولية الجانب الاقتصادي من سياسات حكومة كوسوفو الداخلية فقط، بل أيضاَ شملت الجانب السياسي والذي فرض على الكوسوفيين سياسات بلادهم وبأعتى أشكال القمع، أي القوة العسكرية للناتو، مثلها مثل العراق ويوضح الباحث (مايكل بو) هذه النقطة بالقول: (بالإضافة إلى الدستور العراقي المؤقت، فإن أبرز مثال على التدخل الخارجي هو الذي حدث في كوسوفو، فعلى الرغم من مكانتها باعتبارها إقليماً صربياً في دولة صربيا والجبل الأسود، وعلى الرغم من التفاوت في درجات التنفيذ والآراء، شهد كلٌّ من العراق وكوسوفو إملاءات وخيارات مفروضة عسكرياً، حيث حددت وقررت الجهات الخارجية الفاعلة الإطار الدستوري لكوسوفو، ومكانتها الدولية وتنميتها الاقتصادية بشكل رسمي)!.
جوهر العملية شروط صندوق النقد!
لقد مثلت الشروط التالية أدناه مضامين عملية مشروع إعادة إعمار كوسوفو التي فرضتها المؤسسات الدولية، حيث اُشترط دعم المانحين لتقديم التمويل ولتعزيز النمو وفرص العمل تحقيق ما يلي:
الانتقال السريع إلى اقتصاد السوق الحر.
تشجيع وتطوير مؤسسات القطاع الخاص، سواء التي تم إنشاؤها حديثاً أو الناشئة من الاقتصاد غير الرسمي.
المساعدة في إعادة تشغيل الشركات المملوكة للقطاع العام القابلة للحياة، من خلال الخصخصة.
قطع العلاقات الاقتصادية مع جمهوريات يوغسلافيا السابقة.
إن النقاط السابقة ليست إلا جزءاً من وصفات المؤسسات الدولية وتحديداً صندوق النقد الدولي بوصفته الشهيرة (سياسات الإصلاح والتكييف الهيكلي)، والتي تمثل مصلحة الدول الإمبريالية في الهيمنة على مساحات أوسع، ومنع إنشاء أي نموذج تنموي بديل يحفظ حقوق وكرامة شعوب البلدان النامية، حيث تُفرض هذه السياسات على تلك الدول إما بالقوة العسكرية أو بالضغوطات الاقتصادية والسياسية، ولن تجد المؤسسات الدولية ظروفاً أفضل من دمار كوسوفو حتى تفرض وصفاتها سيئة الصيت.
هوامش للمراجع:
أويا درسن أوزكانكا (Oya Dursun-Ozkanca) من قسم العلوم السياسية في جامعة (إليزابيث تاون)، في بحثه بعنوان: (إعادة بناء كوسوفو: التعاون أم التنافس بين الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي؟، 2009).
(Michael Pugh) مايكل بو، بحث بعنوان (الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار من منظور نقدي نظري) للباحث منشور في المجلة العالمية لدراسات السلام عام 2005).
أمينة زغيب، جامعة الحاج خضر باتنة، رسالة ماجستير من كلية العلوم السياسية للباحثة المنشورة عام 2011-2012، بعنوان (إستراتيجية لمنظمات الدولية لإعادة الإعمار لفترة مابعد الحرب- نموذج إقليم كوسوفو).
أبرز النتائج:
في عام 2001، عاش ما يقدر بـ 50% من السكان في فقر، و12% في فقر مدقع (USAID، 2001).
تباطأ النمو وارتفعت معدلات البطالة وهبطت القوة الشرائية في 2002-2003، ومع ذلك رحب صندوق النقد الدولي في فرض قيود على الإنفاق ونصح بفرض مزيد من الضوابط على الأجور والرعاية الاجتماعية والتوظيف في القطاع العام، (IMF، 2003).
وفي عام 2003 قدرت نسبة البطالة ما بين 49 و57 % (70% بين الذين تتراوح أعمارهم بين 16-24 سنة)، تم تسجيل حوالي 25% من القوى العاملة كباحثين عن عمل.
وحتى عام 2008 ظل معدل البطالة بحدود 55%، كما شهدت البلاد انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، وصنف البنك الدولي كوسوفو دولة هشة، كما عادت الاحتجاجات وأحداث العنف للمشهد السياسي إثر مظاهرات ضد الحكومة في أواخر عام 2008 وبداية عام 2009.
خلاصات تجربة إعمار كوسوفو:
أولاً: كان من المتخيل، وفق العقل السائد، أن تكون تجربة إعادة إعمار كوسوفو تجربة مميزة كونها أديرت غربياً بالكامل ومن أبرز المؤسسات الدولية والغربية، حيث من المفرض أن يسعى الغرب إلى جعلها نموذجاً إعمارياً يحتذى به كونه أراد أن يكون إقليم كوسوفو صنيعته الكاملة بتفاصيله كافة من البنية السياسية إلى المؤسسية إلى الاقتصاد والعسكر.
ثانياً: إن ما خلصت إليه التجربة من نتائج اقتصادية مخيبة للآمال يشير بكل وضوح إلى أن فشل السياسات الغربية الليبرالية في عملية إعادة الأعمار تحديداً وعملية البناء الاقتصادي بشكل عام، سواء طُبّقت هذه السياسات في الدول البعيدة عن فضاء الغرب الاقتصادي أو في الدول القريبة كأوروبا الشرقية.
ثالثاً: إن وظيفة هذه السياسات خلق دول تابعة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وذلك لإعادة دمجها في التجمعات الاقتصادية الكبرى على أساس أنه دول طرفية وظيفتها الاستهلاك وحسب وليس الإنتاج الذي يتيح هامشاً أوسع للاستقلال الاقتصادي والسياسي.
رابعاً: إن المؤسسات الدولية التي تشرف على عمليات إعادة الإعمار تحمل سياسات الدول المانحة بالتحديد، كما أنها لا تراعي حاجات تلك البلدان ولا تراعي إمكانية تطبيق مثل هذه السياسات من عدمها في تلك البلدان الطرفية.
خامساً: إن أجندات المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي ووصفته المعروفة (سياسات الإصلاح والتكييف الهيكلي) هي على ما يبدو الوصفة الوحيدة التي ترغب بها المؤسسات الدولية وتفرضها في معظم بلدان العالم الثالث ولا سيما بعد الدمار إثر الصراعات.