(قضايا اقتصادية)..  اقتصاد سورية في عشرة أعوام قبل الحرب

(قضايا اقتصادية).. اقتصاد سورية في عشرة أعوام قبل الحرب

سُلّطت الأضواء بقوة مضللة بين عامي 2002 و 2011 على الأرقام الاقتصادية السورية الوهمية التي كانت تنال التصفيق والإطراء من المؤسسات الدولية، بينما كانت الحقائق تصرخ بالأرقام بأن أزمة الاقتصاد السوري، ممتدة من (نموذجه الاشتراكي)، ومتعمقة مع تبني (الليبرالية الصريحة)، مؤذنة بأن البنية الاجتماعية السورية تهتز وتندفع نحو الانفجار.

أصدرت دار الطليعة الجديدة كتاب (قضايا اقتصادية) للدكتور قدري جميل، أمين حزب الإرادة الشعبية، والذي ينقل في أكثر من 21 دراسة ومقال ولقاء، جانباً هاماً من سعي القوى الوطنية، واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين تحديداً خلال السنوات العشر التي سبقت الحرب إلى توضيح حجم الأزمة وكارثية عدم معالجتها. قاسيون تستعرض بعضاً من جوانب الكتاب.
الكتاب الذي تمتد عناوينه من عام 2002 وحتى 2011، يتضمن مراحل يمكن تصنيفها كما يلي: نقد النموذج السابق، والبحث عن جوهر المشكلة، وبلورة معالم النموذج البديل المطلوب، مروراً بنقاش (الإصلاح الاقتصادي) والذي تم على إثره اختيار السير باقتصاد السوق الاجتماعي، لتأتي مرحلة الخطة الخمسية العاشرة، ثم تقييمها، مروراً بالنقاشات حول موقع الفساد من أزمة النمو، ودور قطاع الدولة، وهل أزمته بنيوية من طبيعته أم (بفعل فاعل)، ثم تقييم نهاية الخطة في عام 2010، مع المرور على الأزمة الاقتصادية العالمية في عامي 2008-2009.

نمو ضعيف- توزيع منحاز- رأسمالية ومشوّهة

بداية يبحث د. قدري جميل في جوهر الأزمة الاقتصادية السورية، ليذهب إلى أن (الخلل بنيوي ومتراكم وقطباه هما: ضعف النمو الاقتصادي، وسوء توزيع الدخل الوطني، بين الأجور والأرباح)، أي ضعف إنتاج الدخل الوطني، وهو القيم الحقيقية الجديدة المنتجة في كل عام من جهة، وتوزيع ثلاثة أرباعه 75% لصالح الأرباح، وربعه فقط للأجور 25% من جهة ثانية.
مستنتجاً بأن النموذج الاقتصادي السوري، لم يكن يوماً اشتراكياً، بل لطالما كان نموذج إنتاج رأسمالي مشوه، لأن المحدد الرئيسي هو كيف يتم توزيع الإنتاج، لصالح العامة أم لصالح قلة.

العبرة في النتائج.. تقييم 30 عام!

يأخذ د. جميل في قياسه للأزمة، مؤشراً حاسماً هو تراجع قيمة الأجور الحقيقية، بما يعكسه من تراجع حصة الفرد من الدخل الوطني أولاً، وتوسع الأرباح على حساب الأجور ثانياً، ويظهر تراجع قيمة الأجور من خلال علاقتها مع الأسعار، حيث أن مستويات الأسعار تضاعفت 51 مرة، بينما تضاعف الحد الأدنى للأجور 17 مرة فقط خلال أربعة عقود تقريباً.

الأرباح والنهب.. يعيقان توسيع الاستثمار وزيادة العائدية

انخفضت حصة الفرد من الدخل الوطني بين عامي 1975 و 2000 بنسبة 50%، والسبب ليس في الزيادة السكانية بل في عدم توسع الإنتاج ليستطيع مواكبة الزيادة، (لماذا لم يكن الإنتاج يتوسع بالقدر الضروري المطلوب؟!)
يجيب د. قدري جميل، موصفاً مشكلة النمو الاقتصادي في سورية بأنها قائمة على خللين رئيسيين: الأول ضعف التراكم، أي جزء الدخل المخصص لتوسيع الاستثمار، والثاني هو ضعف فاعلية الاقتصاد، أو العائدية، أي العائد الراجع من كل ليرة مستثمرة في الاقتصاد السوري.
ولماذا كان التراكم ضعيفاً؟ لأن الدخل الوطني المنتج سنوياً كان قليلاً، ولأنه كان يوزع عكس المصلحة العامة، أي يوزع بجزئه الأكبر للأرباح، والتي تنقل جزءاً هاماً منه إلى الخارج، أي عملياً الاستثمار لم يكن يتوسع، والنمو لم يرتفع لأن الأرباح تأخذ الحصة الأكبر من الدخل وتنقل جزءاً هاماً منه إلى الخارج، أي أن المشكلة كانت تكمن في إنتاج الدخل، وتتفاقم في طريقة توزيعه.
فخلال التسعينيات بلغت نسبة النمو الاقتصادي السنوية 3,5% وسطياً، وهي غير كافية لتغطية الزيادة السكانية، وبالتأكيد تعجز عن تحسين مستوى المعيشة، وحل مشكلات التنمية المختلفة، حيث كانت الاستثمارات تتوسع بمقدار 2,5% سنوياً، فقط، ولم يكن يخصص لتوسيع الاستثمار أي للتراكم إلا نسبة لم تتجاوز 15% من الدخل الوطني الجديد المنتج سنوياً، وبالمقابل كانت الأرباح تزداد سنوياً بنسبة 36%، أما الأجور كانت تزداد بنسبة 10% فقط سنوياً، وبلغت إيداعات السوريين في الخارج 100 مليار دولار بالحد الأدنى في عام 2000.
أما لماذا (العائدية أو الفاعلية ضعيفة)؟ فيشير د. جميل بأن الأسباب متنوعة، إلا أن واحدة من أهم مؤشرات ضعف أداء الاقتصاد السوري هو أداء قطاع الدولة الاقتصادي، والذي أيضاً تتنوع أسباب ضعف فعاليته، إلا أن الكاتب يعتبر أن عمليات النهب والتخسير المنظمة التي تلحق به، هي السبب الحاسم في ضعف أدائه.

الفساد قضية اقتصادية.. وليست (أخلاقية)!

الفساد الذي كان في عام 2000 يأخذ حصة تبلغ 20% من الدخل الوطني بأقل التقديرات، هو عملياً سبب رئيسي لكل من عدم توسيع التراكم والاستثمار، وإضعاف الفاعلية الاقتصادية، وبالتالي عائدية الليرة المستثمرة، وهو قد توسع خلال العقد اللاحق إلى 30% من الدخل الوطني وفق التقديرات، وأصبحت استعادة هذا الجزء المنهوب وإدخاله في التراكم واحدة من ركائز أي نموذج اقتصادي بديل، وأية خطة أو مشروع إصلاح يتعامل مع الفساد كمسألة قانونية أو أخلاقية، فإنه يتجاهل ضرورة استعادة قرابة ثلث الدخل الوطني وإضافته للتراكم، أي يضع أهدافاً افتراضية، بحسب رأي د. جميل في كل من مشاريع الإصلاح الاقتصادي، واقتصاد السوق الاجتماعي التي كانت سمة العقد الأول من الألفية.

هل قطاع الدولة هو السبب؟!..

يتوسع الكاتب في مسألة كانت مطروحة ولا تزال، حول اعتبار أن قطاع الدولة الاقتصادي (خاسر بطبيعته) أي أن أزمته بنيوية تؤدي إلى البيروقراطية والفساد وإلخ.. ليرى بأن تبسيط المسألة، الغاية منه (رأس قطاع الدولة)، ويعتبر أن هذه المسألة تناسب رأس المال العالمي، الذي يعتبر قطاع الدولة منافساً قوياً بالمعنى الرأسمالي، لذلك سعت النيوليبرالية إلى عولمة سياسات تؤدي إلى تكتيفه، وإفساده، ثم قطع الأوكسجين عنه عبر إيقاف الاستثمار، وصولاً إلى خصخصته أو تركه للموت السريري، وهو ما تم في سورية، حيث تحول شعار إصلاح القطاع العام إلى دعوات واضحة إلى أن ( القطاع العام في حالة احتضار وبالتالي فالأحسن لنا أن نتركه يموت موتاً طبيعياً بدلاً من أن نبدد الإمكانيات في محاولة إنقاذه) وهو ما جرى مع التراجع التدريجي في الإنفاق العام عليه، ووقف توسيع القوى العاملة فيه، رافعاً مقولة: أن القطاع العام مخسّر وليس خاسر.
يرى د. قدري جميل بأن قطاع الدولة يعني مزيداً من التحكم بالعرض والطلب، وهو أمر تزداد الحاجة الموضوعية إليه كلما ازداد تطور القوى المنتجة، لذلك فإن فعالية قطاع الدولة الاقتصادي مرتبطة بتخليصه من عمليات النهب الممنهجة، التي تجعله يخسر بينما المتعاملين معه كلهم يربحون، مقدراً أن نصف الدخل الذي ينتجه قطاع الدولة ينهب، فتخليصه من النهب، يزيد الفعالية.
أما دور الدولة الاقتصادي فهو يقوم على حل مسألتين: علاقة الفعالية بالعدالة الاجتماعية، وعلاقة المساحة المتحكم بها من الاقتصاد، بالمساحة التي تتطور بشكل عفوي وعشوائي. أي التحكم بالنمو والتوزيع، والتحكم بفوضى السوق.


جوانب الخلل البنيوي للاقتصاد السوري

15-85 التراكم- الاستهلاك
ما ينتج من دخل وطني سنوي يوزع بين توسيع الإنتاج أو التراكم وبين الاستهلاك، وهذه النسبة في سورية كانت لا تتعدى 15% لتوسيع الإنتاج، و مقابل 85% للاستهلاك، أصحاب الأجور كانوا يمولون التراكم بنسبة 10%، وأصحاب الأرباح يمولونه بنسبة 5% فقط.

25-75 الأجور-الأرباح
تحصل الأجور على 25% من الدخل الوطني، بينما تحصل الأرباح على 75%، يتاح لأصحاب الأجور أن تستهلك 60% فقط من هذه الأجور، والباقي يعود للضرائب المباشرة وغير المباشرة، أما أصحاب الأرباح، فيتاح لهم استهلاك 93% من الأرباح التي يحصلون عليها، ينفقون جزءاً هاماً منها على المكتنزات أو بتحويلها إلى ودائع خارج البلاد.

15-100 العائدية- الاستثمار
إن كل 100 ليرة تستثمر في الاقتصاد السوري تحقق عائد 15 ليرة، وهي نسبة منخفضة، وتعود العائدية الضعيفة إلى ضعف أداء الاقتصاد الوطني وعدم توسيع الإنتاج وتطويره، بسبب حصة النهب الكبير، الكبيرة: حيث أن 30% من الدخل الوطني يذهب للنهب، وهو يأتي من سحب قدرات القطاعات الإنتاجية، وتحديداً بقطاع الدولة.


سنوات (الإصلاح الاقتصادي).. و(السوق الاجتماعي).. (كلام بيّاع)!

طرح مفهوم (الإصلاح الاقتصادي) بين 2000-2001 وكان هذا تعبيراً عن الاعتراف بالأزمة، ولكنه كان مطية للوصول إلى تبني اقتصاد السوق الاجتماعي بعد 4-5 أعوام.
ينتقد د. قدري جميل برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي صدر في ذلك الحين، ويعتبر أنه يضع أهدافاً ضعيفةً ودون الضرورات، فالبرنامج وضع هدف نمو سنوي 6%، وهو ما كان يعني الحاجة إلى أكثر من 12 سنة لمضاعفة الدخل الوطني، بينما الضرورة تقتضي مضاعفة الدخل الوطني خلال 6-7 سنوات، وهو ما يعني معدل نمو سنوي 10% تقريباً، والأسوأ بأن البرنامج لا يوضح طرق الوصول إلى هدفه، فـ 6% نمو سنوي، تقتضي زيادة نسبة التراكم من 15% إلى 30%، لم يأت البرنامج على ذكرها، أو بحثها.
وبالفعل تبين أن الإصلاح الاقتصادي لم يكن سوى شعار، توارى وراءه الراغبون باستهداف قطاع الدولة، والوصول إلى نموذج اقتصاد السوق، الذي أعلن مشروعه في الخطة الخمسية العاشرة، التي وضعت هدف نمو 7% سنوياً دون أسس علمية، والتي وضعت أهدافاً ضعيفةً للقضاء على الفقر، فأرادت تخفيض الفقر الشديد بمقدار 40 ألف شخص سنوياً، أي عملياً القضاء عليه بالكامل في عام 2030!، وبنهاية الخطة توسع الفقر بنسبة 10%، والتي وضعت أهدافاً لتخفيض البطالة، ا مرتبطة بتوسيع الاستثمار القادم من الخارج، وانتهت إلى تأمين 25 ألف فرصة عمل سنوية، من أصل هدف 250 ألف، معتبراً بأن الخطة الخمسية العاشرة قد فشلت في تحقيق 40% من أهدافها التي كانت ضعيفة أساساً وأقل من المطلوب.
وهو الذي كان قد حذر في عام 2006 من مخاطر المراحل الانتقالية قائلاً ( إذا كانت الخطة العاشرة هي بداية الانتقال من اقتصاد إلى آخر كما يقولون، فالمراحل الانتقالية هي الأكثر حرجاً وهي إن لم تنجح فإنها تؤدي إلى الانهيار الشامل).