ملف إعادة إعمار سورية (12): تجربة كوسوفو... بين اللبرلة وصراع المؤسسات الدولية!

ملف إعادة إعمار سورية (12): تجربة كوسوفو... بين اللبرلة وصراع المؤسسات الدولية!

تستمر قاسيون في قراءة أبرز تجارب إعادة الإعمار التي سبق وأن طُبقت في دول مختلفة تعرضت لأزمات سياسية، وستتناول في هذا العدد تجربة إعادة إعمار كوسوفو وهي واحدة من جمهوريات البلقان التابعة لجمهورية يوغسلافيا سابقاً، حيث اندلعت فيها حرب أهلية في شباط عام 1998 وانتهت في حزيران 1999، غذتها الدول الغربية على أساس عرقي وطائفي، ثم تدخلت عسكرياً عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو).  

تسببت الحرب في كوسوفو بأزمة إنسانية خطيرة، هاجر على إثرها حوالي نصف سكانها المقدرون بـ 1,7 مليون عام 1998 إلى (ألبانيا) و(مقدونيا) و(مونتي نغرو) خلال سنة واحدة، بينما تشرد أكثر من نصف مليون شخص داخلياً وافتقروا للغذاء أو للملجأ، وفق تقييم الاتحاد الأوروبي في عام 1999، تشير التقديرات إلى أن 58% من المنازل تعرضت للتدمير جزئياً أو كلياً، وقُدّرت تكلفة إصلاح هذه المساكن وحدها بـ 1,2 مليار دولار في حينه.

مساعدات لا تنمية!

وفق التقييمات التي أجراها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي في عام 1999 أن الاحتياجات التمويلية المقدرة لإعادة إعمار كوسوفو بلغت 2,3 مليار دولار على مدى 4-5 سنوات، وفي 15 أيلول 1999، أنشأ الاتحاد الأوروبي رسمياً وكالة لتعمير كوسوفو لإدارة برنامج إعادة الإعمار.

وخلال مؤتمرات المانحين في ذلك العام، تعهد المانحون بتقديم 1,5 مليار دولار لجهود إعادة الإعمار، وفي عام 2001 إنخفضت التعهدات إلى 593 مليون دولار، تقتصر مساهمة الولايات المتحدة فيها على 15٪ من المجموع المبالغ المتعهد بها، و80% منها للاتحاد الأوروبي.

على الرغم من أن التركيز الرئيسي للجهات المانحة كان على  توفير التمويل على المدى القصير، ومعظمه على العمليات الإنسانية والمساعدات 1,4مليار دولار تم التعهد بها في مؤتمر المانحين عام 1999 منها كميات كبيرة قدرت بـ775مليون دولار تعهد بها لدعم «الحقوق المدنية» والإدارة  والمساعدات العاجلة الأخرى أكثر  من جهود إعادة الإعمار والتنمية على المدى الطويل، والتراجع وعدم الوفاء بالتعهدات المالية، مما ساهم باستمرار حالة الصراع والأزمة التي عانى منها الإقليم وعدم نجاح عملية إعادة الإعمار.

المؤسسات الدولية وسياساتها!

إن أبرز مشكلتين واجهتا عملية إعادة إعمار كوسوفو هما التاليتين:

وضع إدارة البلد في مختلف المجالات تحت وصاية المؤسسات الدولية.

حيث أديرت كوسوفو من الاتحاد الأوربي (EU)، وحلف شمال الأطلسي (NATO)، ومنظمة الأمن والتعاون الأوربية (OSCE)، والأمم المتحدة (UN)، وسنتوقف في استعراض هذه المشكلة عند أهم خلاصات الباحث أويا درسن أوزكانكا (Oya Dursun-Ozkanca) من قسم العلوم السياسية في جامعة (إليزابيث تاون)، في بحثه بعنوان: (إعادة بناء كوسوفو: التعاون أم التنافس بين الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي؟، 2009)، وهو ما سنتوقف عنده في هذا العدد.

المشكلة الثانية وهي طبيعة السياسات التي حكمت عملية إعادة الإعمار. والتي مثلت مصلحة تلك المؤسسات التي دفعت بالاتجاه الليبرالي والخصخصة، وسنتقوقف في استعراض هذه المشكلة عند بحث بعنوان (الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار من منظور نقدي نظري) للباحث (Michael Pugh) ميخائيل بو منشور في المجلة العالمية لدراسات السلام عام 2005)، وهو ما سنناقشه في عدد لاحق.

أما المشكلة الثالثة، والتي نوقشت كثيراً في الملفات السابقة فهي دور المنظمات غير الحكومية (NGO’s)، والتي زادت في كوسفو 65  منظمة غير حكومية محلية و5  منظمات غير حكومية دولية إلى ما يقرب من  2500 من المنظمات غير الحكومية المحلية و500 من المنظمات غير الحكومية الدولية، ولن نناقش دورها في هذا الملف توخياً لعدم التكرار فالنتيجة العامة هي ذاتها تقريباً المستنتجة من الأدوار السلبية لهذه المنظمات في التجارب الأخرى، المصدر: (إستراتيجية المنظمات الدولية لإعادة الإعمار لفترة ما بعد الحرب- نموذج إقليم كوسوفو، رسالة ماجستير من كلية العلوم السياسية للباحثة أمينة زغيب، جامعة الحاج خضر باتنة المنشورة عام 2011-2012).

مؤسسات دولية أم للدول الراعية!

أدارت الأمم المتحدة إقليم كوسوفو وفق إستراتيجيتها العامة التي أطلق عليها اسم (UNMIK)، حيث فرضت الدستور والسياسات الاقتصادية وصولاً إلى الجوانب من الشؤون الانسانية كافة لبناء المؤسسات وإعادة الإعمار، وتتألف هيكلية (UNMIK)، على أساس أن تكون الإدارة المدنية بقيادة الأمم المتحدة، والمسائل الإنسانية بقيادة المفوض الأعلى للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبناء المؤسسات بقيادة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وإعادة الإعمار الاقتصادي بقيادة الاتحاد الأوروبي، كما تؤمن القوات التي يقودها حلف شمال الأطلسي (قوات كوسوفو أو كيفور) الوجود الأمني الدولي.

أمام هذه البنية المؤسسية الغربية التي يخال المرء أن نتائج بناء كوسوفو ستكون قمة في الإتقان، ولكن ما حصل هو أمر آخر، وهو ما يوضحه البحث الذي استندنا عليه في قراءة تجربة كوسوفو، ورغم أن الباحث أوزكانكا استخدم في دراسته منطقاً نقدياً مخففاً لسلوك المنظمات الدولية، فحاول أن يصور لنا أن جوهر المشكلة هو سوء «تقسيم العمل بين المنظمات الدولية» الأربعة الرئيسية، والتي استلمت إدارة إقليم كوسوفو ودفعته لإعلان الاستقلال عن صربيا في عام 2008 ما شكل عاملاً آخر من عوامل التدهور السياسي والأمني والاقتصادي، إلا أن أبرز خلاصات بحث أوزكانكا كانت صادمة وهي ما يلي:

عندما يتم إدخال أطراف دولية متعددة لبناء السلام فإن العواقب غير المقصودة لذلك هي عدم كفاءة العمليات، وإزدواجية المهام.

إن إتخاذ القرارات محكوم بـ(اللعبة السياسية) ويتم عبر المساومة على الموازنة والكوادر وبشكل مجاهر وعلني، ناهيك عن بيروقراطية المنظمات الدولية، وإزدواجية وظائفها وأعمالها الميدانية.

إن هذه المنظمات الدولية تظل محكومة بالدول التي تمثلها فهم وكلاء لتلك الدول حيث تنفذ هذه المؤسسات سياساتها. 

ينبغي على كل من الأمم المتحدة والناتو والاتحاد الأوربي ومنظمة الأمن والتعاون تعزيز التنسيق والتنظيم فيما بينها على أساس التكامل بين الوظائف وليس التداخل أو المنافسة.

ومع أن هذا المنطق النقدي الناعم هو جزء من العقلية العلمية الأوربية في معالجة ملفات شائكة كهذه، إلا أن الباحث خلص إلى عدة أفكار هامة توضح أن المشكلة ليست قضية «سوء تعاون» بمقدار ما هي صراع المصالح بين هذه المؤسسات، والقائم على صراع سياسي ومصلحي بين الدول التي تقف خلف تلك المؤسسات الدولية

آخر تعديل على الأحد, 28 شباط/فبراير 2016 01:15