المضاربة نزولاً تحفة أخرى لـ(المركزي)!
انخفض سعر الدولار بمعدل ليرتين في السوق السوداء في العشر الأواخر من نهاية عام 2015، من 389 ل.س للدولار وسطياً في 20/12/2015، إلى 387 ل.س للدولار في 29 /12. هذا الانخفاض جاء بعد عدة أسابيع من استقرار السعر في السوق السوداء عند 390 ل.س وبعد أن فاق سعر الدولار حاجز الـ 400 ل.س لأول مرة في تاريخه في بدايات شهر كانون الأول الماضي!
الاستقرار ثم الانخفاض بعد ذروة قياسية يعزوه البعض لإجراءات المصرف المركزي والحكومة مؤخراً، والتي شملت وفق مصادر إعلامية قيام المصرف بتثبيت سعر الحوالات عند 337 ل.س/للدولار، ومزيد من ضخ الدولار في المحافظات، وتعهد المركزي بالاستمرار بتمويل المستوردات (بأسعار صرف تفضيلية تقل عن الأسعار الرائجة بحوالي 40 ليرة). الحزمة الحالية من الإجراءات لا تبدو جديدة إلا أن البعض بدأ يرسم على أساسها سيناريوهات تفاؤلية تؤدي إلى تحسن سعر الصرف وإنخفاض سعر الدولار، فهل هذا ممكن؟!
مصطلح جديد (السعر الرائج)؟!
بداية من الملفت استخدام فكرة (بيع الدولار بأسعار أقل من الرائج)، فمالمقصود بمفردة (الرائج)؟! هذا المصطلح جديد على سياساتنا النقدية، فهل ما تم قصده بالسعر الرائج هو سعر السوق السوداء أم سعر شركات الصرافة؟! لا يتوضح ما يعنيه هذا المصطلح الذي نقلته وسائل الإعلام عن مصرف سورية المركزي، ولكن ما يخشى منه أن يتم التعامل مع سعر السوق السوداء على أنه السعر (الرائج) وبالتالي سيتم تمرير وشرعنة سعر السوق السوداء ودورها في تحديد سعر الليرة، وفيما إذا كان كذلك فهو أمر خطير جداً، ويستدعي المساءلة والمحاسبة، وإلا فينبغي توضيح معنى هذه التصريحات سريعاً.
السوق السوداء
معنّدة حتى اللحظة!
من ناحية أخرى وفيما لو توقفنا عند إجراءات المصرف المركزي المتبعة، والتي يتفاءل فيها البعض علينا أن نوضح عدة نقاط:
إن ما تم حتى اللحظة هو لجم سعر السوق السوداء عن تجاوز الـ400 ل.س، وتثبيت سعره في السوق السوداء عند 387 ولعدة أيام، وعلينا بالتالي أن ننتظر لنرى مدى مقاومة السوق السوداء لإجراءات اعتاد عليها المركزي خلال الأزمة دون أن تجدي نفعاً.
قيام المصرف المركزي بعملية التثبيت هذه ليست جديدة، فلطالما جرت عمليات تثبيت مؤقتة ومنها من دامت لأشهر، لكن سرعان ما كانت تنفلت الأمور من عقالها.
صعّد المركزي
ثم عاد للنزول فماذا بعد؟!
إذاً ما يمكن قوله، رغم آمالنا بتحسن سعر صرف الليرة، هو أن ما جرى حتى اللحظة لا يعني شيئاً هاماً على صعيد ضبط السعر أو تحسين القوة الشرائية لليرة، ولكن الأسوأ من ذلك كله أن المركزي عاد للاعتماد على تكتيك (المضاربة نزولاً) بالسعر، أي بيع الدولار لشركات الصرافة بسعر رسمي أقل من السعر الرسمي السابق، ما يؤدي إلى اضطرار مالكي الدولار لبيعه وذلك درءاً لاحتمالات الخسارة، وهو ما يَفرض المركزي أن يؤدي إلى زيادة أوتوماتيكية في كمية الدولار المباعة في السوق، ويؤدي إلى انفخاض سعره بسبب زيادة العرض.
على هذا الأساس عكف المركزي على تخفيض سعر الدولار الرسمي في شركات الصرافة، من أقصى ذروة صعود حددها بـ(346 ل.س والتي دامت من 11/11 وحتى 12/12/ 2015) إلى أقصى ذروة هبوط، حيث بلغت 336 ل.س بتاريخ 29/12 2015، ولا زلنا ننتظر نشرات المركزي القادمة لنعرف الذروة الدنيا التي يريد بلوغها، علماً أن ذورة الهبوط هذه أعادتنا شهرين ونصف فقط للخلف، حيث كان سعر الصرف الرسمي لشركات الصرافة عند القيمة ذاتها بتاريخ 13/10/2015، ثم عمد المركزي إلى رفعه بعد أقل من شهر إلى 346 بتاريخ 11/11، في عملية المضاربة صعوداً!.
إن مشكلة هذا التكتيك من «التدخل» أنه وفيما لو نجح آنياً بتثبيت سعر الصرف أو تخفيضه، إلا أنه يعمل وفق منطق السوق ذاتها، أي منطق المضاربة، ما يعني أن المركزي يكرس مبدأ المضاربة ويشرعنه، وهو بذلك يشرعن ردات فعل السوق اللاحقة التي ستعمد للمضاربة صعوداً لاسيما أن السوق السوداء أثبتت خلال الأزمة قدرة عالية على التحكم بعرض وطلب الدولار، لا تقل عن قدرات المركزي، وهو ما يعني خضوع المركزي لمنطق السوق بدل إخضاعها، فهل يعقل أن يصبح المصرف المركزي مضارباً على الليرة صعوداً أو هبوطاً؟ أية سلطة نقدية هذه التي تدير سعر الصرف بهذه الطريقة؟! وهل سيستمر بالتخفيض أم سيتوقف أم سيضطر للرفع مرة أخرى.. لا أحد يعلم؟!.
لا تراجع عن عقلية السوق!
الطامة الكبرى أن هذا التكتيك والذي يتأمل منه المركزي تخفيضاً أو تثبيتاً ما لسعر الدولار، لن يتم استغلاله، فيما لو نجح بذلك، للانقضاض على السوق السوداء وإعادة مسك قطاع الصرافة وضبطه لمنع استمرار عمليات البيع غير المجدية، والتي تعترف الحكومة بمشاكلها، بل ستستمر الأمور على حالها بترك عرض وطلب الدولار لتحديدات السوق، وكبار التجار في هذا المجال. كما أن المركزي يتعامى بشكل أو بآخر عن أن أحدى أهم مشاكل سعر الصرف بالإضافة إلى انخفاضه هي تقلباته المستمرة، التي تمنع إقلاع أية عملية إنتاجية، والتي ستظل تتنشط بناءً على مثل هذه الإجراءات.
لا يريد (المركزي) وراسمو السياسات الاقتصادية والنقدية، التراجع عن هذه الإجراءات بل يعززونها يومياً بتبريرات شتى، مما يؤمن مصالح كبار الصرافين في السوق السوداء والسوق الرسمية، ضاربين بعرض الحائط انعكاسات ذلك الخطيرة على الإنتاج، وتضرب مصالح الشعب الذي يفتقر يومياً وبشكل أكثر من السابق من انخفاض قيمة العملة الوطنية وتقلباتها، يبدو أن هذا ما تعنيه حقاً ثقافة السوق!