مشروع موازنة 2016..  (كـبـر مـقتـاً)..

مشروع موازنة 2016.. (كـبـر مـقتـاً)..

لم تصدر الحكومة السورية قطع موازناتها خلال سنوات الأزمة باستثناء إصدارها لقطع موازنة 2011 في العام الحالي! أي عملياً لا يتم توضيح الطريقة الفعلية التي أنفقت فيها جوانب الموازنة، والإيرادات الفعلية التي تم تحصيلها!، بل تنشر التقديرات و(النوايا) في مشروع الموازنة العامة للدولة فقط، وفي ذلك محاولة لتجنب التقييم العلمي الدقيق للعمل الحكومي، الذي يعكس طريقة تصرف أصحاب القرار في السياسة الاقتصادية بالمال العام السوري.

إلا أن إخفاء الأرقام الفعلية، لا يستطيع أن يخفي نتائج الأفعال.. فالسياسة الاقتصادية في سورية تعتبر من أكبر الأثقال على السوريين إلى جانب الحرب، ومن أوسعها تأثيراً، وهي تنعكس في أداء الحكومة ككل، وتظهر أهدافها ومنهجها بشكل واضح بين أرقام الموازنة العامة حتى لو كانت مجرد مشروع أو خطة عمل!
صدر مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2016، وبدأ نقاشه في مجلس الشعب، باتجاه إقراره.. «قاسيون» تناقش أرقام الموازنة الرئيسية انطلاقاً من إجمالي اعتماداتها، وصولاً إلى إيراداتها مروراً بالدعم الاجتماعي وانتهاءً بالعجز..


 -25% الموازنة الفعلية تتراجع للربع!

يعتبر اختيار رقم اعتمادات الموازنة النقطة الأهم فيها، فهو يدل على واحد من القرارات الحاسمة في السياسات الاقتصادية، فحجم الاعتمادات هو حجم الإنفاق الحكومي على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وهو يؤخذ من إجمالي المال العام، ويحدد دور الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة.
وعلى الرغم من أن المليارات الحكومية المعلنة في الموازنات تزداد في كل عام، إلا أن قيمتها الفعلية تتضاءل مع تراجع قيمة الليرة، بالتالي فإن قدرة هذه الأموال المخصصة تتقلص في كل عام، معلنة عن سياسة تقشف حكومية، وتقليل النفقات، وانسحاب تدريجي من أداء دور فعال في الحياة الاقتصادية للبلاد في ظروف الحرب، أي في ظروف لا تملك أي قوة اقتصادية خاضعة لمنطق السوق تحقيق عوائد جدية فيها، إلا على حساب شرائح اجتماعية واسعة!.
حيث تخصص الحكومة في عام 2016 مبلغاً قدره  1980مليار ل.س، مقابل 1554 مليار ل.س عام 2015، بزيادة مقدارها 426 مليار ل.س وبنسبة زيادة 27%، ولكن هذه الزيادة إذا ما عدلت بسعر صرف الليرة مقابل الدولار تختفي ويظهر تراجع في الإنفاق الحكومي بمقدار 3 مليار دولار وبنسبة تراجع بمقدار الربع تقريباً 24% عن عام  2015 وحده!. (الشكل 1)
فرقم موازنة 2015 يبلغ 10.63 مليار $، وفق سعر صرف موازنة العام الماضي المقدر بـ 150 ل.س/$، أما رقم موازنة هذا العام فيبلغ 7.92 مليار $ وفق سعر صرف الليرة الرسمي في موازنة العام القادم والبالغ 250 ل.س/$. أي أن الاعتمادات الفعلية انخفضت 2.7 مليار $، ولم ترتفع القدرة الفعلية على الإنفاق على حاجات وخدمات السوريين.
من يعطي أصحاب القرار الاقتصادي، وواضعي السياسات، الحق بتخفيض الإنفاق الفعلي إلى هذا المستوى في لحظات الحرب، وتحديداً أن هذا المال العام مجني من موارد السوريين ومن تحصيلات الحكومة من أعمالهم؟!


 50% نصف الإنفاق الاستثماري (احتياطي)!

الإنفاق الحكومي في مشروع الموازنة البالغ 1980 مليار، ثلاثة أرباعه سيتوزع على النفقات الجارية، بينما ربعه فقط سيذهب إلى الإنفاق الاستثماري، بمقدار 510 مليار ل.س.
أما الزيادة في النفقات الجارية عن العام السابق، فترتبها الحكومة وفق أولوياتها: بأنها مخصصة لعمليات تشغيل في القطاع الإداري، ولنفقات وزارة الدفاع، وتسديد الديون والالتزامات. الزيادة ستبلغ 326 مليار ل.س، منها 56 مليار ليرة لزيادة الرواتب والأجور وتعويضات إضافية، و28 مليار ليرة زيادة على رواتب المتقاعدين، بنسبة 25% من الزيادة.
الإنفاق الاستثماري الذي سيصبح رقمه الإجمالي 510 مليار ليرة في 2016، بزيادة 100 مليار ليرة سورية، ستكون أقل من ثلث زيادة الجاري، والأهم أن هذه الزيادة لن تنفق بشكل كامل! حيث أن 21 مليار ليرة منها فقط هي النفقات الاستثمارية الإضافية التي ستتوزع على مختلف القطاعات، بينما سيوضع حوالي 79 مليار ل.س كاحتياطي للإنفاق الاستثماري، وهي تنفق في حال الحاجة فقط ويتطلب استخدامها موافقة رئيس مجلس الوزراء!.
 ما يدل على أن خطة توسيع الإنفاق الاستثماري هي إنفاق خمس المبلغ الإضافي تقريباً، وترك أربعة أخماس كاحتياطي لينفق بعد صعوبات بيروقراطية وإن دعت الحاجة، وكأننا لسنا بحاجة ملحة لإنعاش عجلة الاقتصاد في هذا العام!
أما الإنفاق الاستثماري ككل (510 مليار ليرة)، فأقل من نصفه 200 مليار موزعة على المشاريع الاستثمارية، وأكثر من 258 مليار ليرة احتياطية، و50 فقط مخصصات إعادة الإعمار والتأهيل!
وعليه فإن النتيجة هي تراجع في الإنفاق الاستثماري على جوانب رئيسية مثل الكهرباء التي انخفضت مخصصاتها الاستثمارية بمقدار 25,5 مليار ل.س!.
كما يظهر تشوه الإنفاق الاستثماري من كون الإنفاق على الزراعة والصناعة معاً لا يتجاوز مجموعها 14.9 مليار ليرة، بينما الإنفاق على الإدارات المحلية والإدارات الحكومية يبلغ 33.2 مليار ليرة!.
التقديرات الحكومية في مشروع الموازنة تشير إلى زيادة الإيرادات في مشروع موازنة عام 2016 إلى 1358 مليار ل.س، بنسبة 36,88% زيادة عن إيرادات موازنة عام 2015 البالغة 992 مليار ل.س.
فمن أين ستسعى الحكومة لتحصل هذه الإيرادات بالدرجة الأولى؟! وما الذي يعكسه هذا السعي من سياسة؟!
عملياً ستزيد الحكومة إيراداتها من طبيعة نشاطها الجاري (الضرائب والرسوم- بدل خدمات- إيرادات متنوعة)، بينما ستنخفض الإيرادات الاستثمارية كنتيجة طبيعية للتقليص الكبير في الإنفاق الاستثماري الفعلي.
حيث تضع الموازنة العامة هدفاً بمضاعفة الإيرادات الجارية لتزداد من 350 مليار ل.س إلى 738 مليار ل.س، بينما تتوقع تقلصاً في الإيرادات الاستثمارية من النشاطات الاقتصادية للمنشآت والمشاريع الاقتصادية الحكومية العامة والتي ستنخفض من 509 مليار ل.س إلى 472 مليار ل.س، بانخفاض مقداره (7,3 %). وكذلك الأمر ستنخفض مجمل الإيرادات الاستثمارية مع الإيرادات الاستثنائية الأخرى (حقوق الدولة من النفط ومن شركات عقود الخدمة للهاتف النقال وغيرها من 629 مليار ل.س إلى 600 مليار بمقدار 3,6%).


فروقات الأسعار والضرائب

يعتبر توقع انخفاض تحصيل الإيرادات منطقياً، طالما أن الحكومة لا تنفق على الاستثمار، فإيراداتها من عمليات الاستثمار لن تزيد، بل ستركز على تحصيل الإيرادات الحكومية من مطرح رئيسي هو فروقات الأسعار. أي التحصيل من المواد والخدمات المدعومة السابقة، والتي رفعت وسترفع الحكومة أسعارها، حيث يزداد بند فروقات الأسعار من 161 مليار ل.س إلى 466,8 مليار ل.س، أي بمقدار 305 مليار ليرة وهي نسبة 78% من الزيادة في الإيرادات.
أما الجزء الأعظم الباقي من الزيادة فسيأتي من تحصيلات الضرائب والرسوم، وتحديداً من زيادة الضرائب المباشرة على الدخل بشقيها الرئيسيين الضرائب على الأجور المحصلة من رواتب العاملين بأجر من السوريين، والضرائب على الأرباح المصنفة بأنواعها وتفاوتاتها في ضريبة واحدة هي ضريبة «دخل المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية» التي تندمج فيها ضرائب كبار الشركات، مع ضرائب كبار التجار، مع ضرائب صغار الحرفيين وأصحاب المهن!.
«المساواة» بين الأرباح والأجور
حيث أن تقديرات كل من الضريبتين ترتفع، لتزداد التحصيلات من ضريبة دخل الرواتب والأجور من 15 مليار ل.س في العام الماضي إلى 25 مليار في 2016 بنسبة زيادة 66%، وتزداد أيضاً الحصيلة المرتقبة من ضريبة الأرباح على جميع المكلفين بأنواعهم الصغار والكبار، بمقدار 22 مليار ل.س، وبنسبة 68% أيضاً.
اللافت أن زيادة الأجور لا تتعدى 17 % وبمقدار 56 مليار ل.س، فكيف ستزداد الضرائب عليها نسبة 66%؟ وهل سيعوض هذا من الضرائب على أجور عمال القطاع الخاص، وأغلبهم في القطاع غير المنظم؟!
المفارقة الأخرى هي أن نسبة زيادة التحصيل من مكلفي الأرباح تعادل نسبة الزيادة من مكلفي الأجور، فهل يزداد دخل الأرباح فقط بمقدار 66%، لدى كل الرابحين؟!
فكيف تتساوى نسبة زيادة ضريبة دخل الأجور والرواتب في الظروف الحالية، مع ضريبة دخل الأرباح بأنواعها؟! بينما الأجور ثابتة، والأسعار محررة، أي أن أصحاب الربح قادرون على رفع الأسعار والتحصيل من الاجور؟! (شكل رقم 2)
ستسعى الحكومة لتحصل المال العام في عام 2016 من خلال زيادة أسعارها، وتحصيل فروقات في الأسعار من المحروقات والمواد المدعومة الأخرى، كما ستسعى لتحصيل إيرادات إضافية من الضرائب المباشرة على الأجور، بالنسبة ذاتها تقريباً التي ستزيدها على ضريبة دخل الأرباح.. في مساواة غير عادلة على الإطلاق!.

 

«العجز» ثلث الموازنة..!
عجز الموازنة وفق أرقامها، يبلغ قرابة الثلث من النفقات العامة، فالإنفاق العام المتوقع للعام القادم سيزيد عن الإيرادات المرتقبة بمقدار 621,7 مليار ل.س وهو ما يشكل نسبة 31% من اعتمادات الموازنة تقريباً، أما إذا ما تم إنفاق «مبالغ الدعم» التي تضعها الحكومة خارج الموازنة فإن العجز يصل إلى نسبة 70% من الاعتمادات.
سعي الحكومة لتقليص الإنفاق وزيادة التحصيل، لا يمكن تبريره بهدف تخفيض العجز، حيث أن هذا الهدف الضروري والمشروع، يتناقض مع وجهات الإنفاق، ومصادر التحصيل. فالإنفاق عندما يكون متوسعاً في الجاري، متقلصاً في الاستثماري، لا يمكن أن يولد إيرادات إلا من التحصيل، ولا يمكن أن يشكل دافعاً للاستثمار وخلق إنتاج جديد.
إن مجمل سياسة تقليص الإنفاق على مواضع الإنتاج الحقيقي أو على دعائمها، لا يمكن أن تنتج إلا مزيداً من العجز، لأن مصادر الإيرادات الفعلية تتقلص تدريجياً، وتقتصر على التحصيل والجباية بأسهل الطرق من الجوانب الإدارية، ومن أضعف القوى الاقتصادية كأصحاب الأجور، ومن أكثر جوانب الاستهلاك إلحاحاً وضرورة كالخبز والوقود والكهرباء لاحقاً!.

 

الدعم الاجتماعي تغيرات كماً ونوعاً



تضع الحكومة في مشروع موازنتها لعام 2016 مبلغ 192 مليار ليرة فقط للدعم الاجتماعي، 170 مليار منها على المواد التموينية الدقيق والسكر والأرز، وعلى صندوق المعونة الاجتماعي 10 مليارات، وصندوق دعم الإنتاج الزراعي 10 مليار ل.س أيضاً ليتبقى دعم المؤسسة العامة للأقطان ومؤسسة تجارة وتصنيع الحبوب، أو تغطية عجزها بمقدار 2,25 مليار ل.س.

حيث أثمرت سياسة عقلنة الدعم المتبعة، تغيراً باتجاه تخفيض لرقم الدعم التمويني بشكل كبير، والاتجاه نحو تغيير بنية دعم الطاقة بنقله لحسابات الربح والخسارة، أي خروجه من منطق الدعم.
المواد التموينية بنصف الكمية أو بضعف السعر؟!
دعم المواد التموينية الدقيق والسكر والرز والتي تعتبر مواد مستوردة سينخفض بالقيمة الفعلية إلى أكثر من النصف، بعد تعديل مبلغ دعم 2015 بسعر صرف الدولار 150 ل.س/$، وتعديل مبلغ عام 2016 بسعر صرف الدولار في الموازنة 250 ل.س/$..
أي أن المخصصات في العام الحالي البالغة 170 مليار ل.س تستطيع أن تغطي نصف حاجات استيراد الدقيق والسكر والأرز، أو أن رفع أسعارها سيكون إلى الحد الذي يخفف نصف التكاليف الفعلية!.
دعم الطاقة.. أرباح وخسائر؟!
أما بالنسبة لدعم المشتقات النفطية ودعم الكهرباء، فهو موضوع خارج الموازنة، ولم يدرج فيها، حيث سيعتبر حالياً خسائر في نتاج أعمال الجهات المشرفة على قطاعي توزيع المحروقات والكهرباء، (وستعالج وفق أحكام القانون المالي الأساسي بأرباحها المستقبلية) وفق ما ورد في البيان المالي لمشروع الموازنة، لذلك الحكومة تتوقع أن تستطيع أرباح الكهرباء في العام القادم تعويض خسائر الدعم المدفوعة على القطاع، كما فعلت أرباح المحروقات وتحديداً المازوت والبنزين بعد تحرير أسعارها، في إشارة مرتقبة على نوايا رفع أسعار الكهرباء بعد موجات الرفع السابقة لأسعار شرائح محددة، والتي تعتبر طفيفة حتى الآن. (الشكل رقم 3).

آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين2/نوفمبر 2015 16:45