أزمـــة تـراجع الإنتاج والاسـتهلاك.. تسـتهدف إعادة توزيع الثروة
تتعالى اليوم أصوات تحاول إيجاد الحلول الاقتصادية لأزمة الاقتصاد العالمي العميقة، التي ينكرها البعض إلى اليوم مع أننا نعيش مراحلها الأكثر قسوة ووضوحاً..
فتصاعد الفاشية وتسعير الحروب في عالم اليوم، لا ينفصل عن (الحلول التدميرية) لأكثر قوى رأس المال رجعية، تلك التي تتوسع بالهيمنة والتطفل على كل ما يستمر بالنمو والتقدم، والتي تختار تدمير كل ما يعيق استمرار منظومة العلاقات الرأسمالية المتخلفة، وتحديداً طريقة توزيعها للثروة.ومقابل هذا الحل التدميري، لا يتوفر للاقتصاد العالمي الرأسمالي، إلا حل عقلاني وحيد الاتجاه، ينطلق من تفاوت توزيع الثروة والدخل، العنوان الذي يتصدر طروحات الاقتصاديين في مراكز الرأسمال العالمي كما في كتاب (رأس المال في القرن العشرين) لبيكيتي، و(ثمن اللامساواة) لستيغليتز وغيرهم، ولتعتمد الأمم المتحدة نموذجاً جديداً قائماً على توسيع الطلب المحلي، وزيادة الأجور، وتوسيع الدور الحكومي الاقتصادي من الإنتاجي للإنفاقي، وذلك في تقارير التجارة والتنمية العالمية منذ 2012 وما بعد..
وهذا الاتجاه قائم على مقولة أن الطلب يولد العرض، أو الاستهلاك محرّك الإنتاج اليوم، وأنه يجب نقل جزء من الثروات والموارد نحو المجتمع ونحو الأجور تحديداً، ليتم توسيع استهلاك السلع الاستهلاكية النهائية، ونحو الإنتاج الحقيقي ليتم استهلاك الآلات ومستلزمات الإنتاج.
ولكن التطبيق الفعلي يظهر لدى القوى الاقتصادية الكبرى الناشئة في الشرق تحديداً، فتزداد الأجور الحقيقية في الصين ودول جنوب شرق آسيا، ويتوسع الإنفاق الحكومي، متمثلاً بمشاريع تنموية كبرى مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية برأس مال 100 مليار $، وتتزايد حصة الإنفاق الحكومي من الناتج إلى الربع في الصين على سبيل المثال، بينما يسود التقشف الحكومي في الغرب.
دعم (طفيلية) رأس المال في المراكز
بالمقابل فإن دول المركز الرأسمالي، وتحديداً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، تستمر وبقوة في تطبيق السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، فعملياً يستمر السحب من إمكانيات استهلاك المجتمع، وتخصيص الموارد للقوى الاقتصادية الكبرى المتأزمة متمثلة بالبنوك، فتطبق سياسات التقشف حتى لو كان ثمنها (بيع) دول بالكامل كاليونان، وتستمر سياسات التيسير الكمي القائمة على ضخ الأموال للمستثمرين عبر البنوك المركزية (4،5 تريليون $ خلال 6 سنوات في الولايات المتحدة)، بذريعة تحفيز رؤوس الأموال لتحريك عجلة الإنتاج، حتى لو وصلت معدلات الدين الحكومي إلى أضعاف الناتج في الدول المتقدمة. وعملياً هذا الاتجاه النيوليبرالي، قائم على مقولة العرض يولد الطلب، أو الإنتاج يولد الاستهلاك.
فأيهما يولد الآخر؟ العرض أم الطلب، الإنتاج أم الاستهلاك؟!
أيهما أسبق: الإنتاج أم الاستهلاك؟
الإجابة تتطلب العودة إلى أساس العلاقة بينهما الكامنة في دورة رأس المال الفردي، حيث أن كل صاحب رأس مال نقدي، يشتري وسائل الإنتاج، ويشتري قوة عمل العمال، لتدخل العملية الإنتاجية، ويخلق العمال قيمة جديدة، متمثلة في البضاعة، التي تحتوي قيمة رأس المال الأولي وقيمة مضافة هي مصدر الربح. ولكن تحقيق الربح واستعادة الرأسمالي لرأس ماله النقدي الأولي مضافاً إليه الربح، لا تتم إلا عبر عملية البيع في السوق، أي الاستهلاك.
والتي هي شرط لتحقيق هدف الإنتاج الرأسمالي وهو الربح، والذي بدوره يُستخدم لتوسيع الإنتاج من خلال مراكمة جزء منه، واستخدامه في توسيع رأس المال الداخل في عملية الإنتاج اللاحقة، ليحصل النمو.
أي أنه بدون الإنتاج لا تخلق (القيمة المنتجة مجدداً)، وبالتالي لا يوجد ما يتم استهلاكه، كما لا تخلق القيمة الفائضة وهي أساس الربح، وبدون الاستهلاك بشكل البيع في السوق، لا يمكن تحقيق هدف الإنتاج الرأسمالي وهو الربح، ولا يمكن توسيع الإنتاج وبالتالي النمو الاقتصادي، ويبدأ التراجع، كما لا يمكن للقوى العاملة بدون الاستهلاك أن تجدد قوة عملها وتستمر بالإنتاج.
وبناء عليه فإن العمليات مترابطة، وأساسها هو العلاقة بين الإنتاج وطريقة توزيع عوائده، ليستهلك المستهلكون سواء العمال أو مالكي وسائل الإنتاج، وليدخر الرأسماليون جزءاً من الربح ويوسعوا الإنتاج اللاحق.
ونحن اليوم في لحظة يتراجع فيها الإنتاج والاستهلاك معاً، ويفاقم تراجع كل منهما تراجع الآخر، مؤدياً إلى تعمق وتسارع الأزمة، ودخولها طور الركود.
توسيع الإنتاج.. يقلّص الربح!
تتراجع عمليات توسيع الإنتاج الحقيقي وتحديداً في دول المركز، بسبب انخفاض معدل الربح الصناعي، حيث انخفض في الولايات المتحدة من 28% إلى 14% خلال 40عام، وفي بريطانيا انخفض من24% إلى 5% خلال 30 عاماً. وهذا ما يدفع رؤوس الأموال عبر العالم إلى إيقاف توسيع الإنتاج الحقيقي، لأن الكثير من المنتجات سيخفض سعرها، ويقلل ربحها. وتم اللجوء إلى تشويه العمليات الإنتاجية بتركيز الإنتاج في القطاع العسكري من جهة، واستخدام رؤوس الأموال الفائضة في المضاربة في أسواق المال العالمية، لتدويره وعدم إدخاله في العمليات الإنتاجية الحقيقية، ويتضح التراجع في أوروبا منذ الستينيات من القرن العشرين، وتفاقم في الثمانينيات، وهو ما سنعود إليه لاحقاً.
إنتاج لا يمكن بيعه.. ربح لا يمكن تحقيقه!
أما السبب الثاني لمفاقمة تراجع الإنتاج، هو التراجع الكبير في إمكانيات الاستهلاك الاجتماعي، ما يمنع أيضاً مراكز الإنتاج من توسيع الإنتاج بطاقتها الكاملة. فتراجعت حصة الأجور مقابل الأرباح من الدخل العالمي من 62% إلى 53% بين 1980-2011، ما جعل استهلاك الطبقة العاملة عالمياً يتضاءل، ونتج عنه تراجع نمو استهلاك العائلات في الدول المتقدمة من 3،2% سنوياً في الثمانينيات، إلى 0،3% بين 2008-2011. وهذا يضعف إمكانيات استهلاك السلع النهائية، كما أن تراجع الإنتاج الحقيقي يؤدي إلى تراجع قدرات المنتجين على استهلاك سلع الإنتاج. كما أن استهلاك الحكومات التي تخضع موضوعياً لمن يملك، أصبح متكيفاً مع نمط الإنتاج العالمي، لينخفض إنفاقها الاستثماري الإنتاجي، وإنفاقها الاستهلاكي الذي يزيد الأجور. وذلك نتيجة للتراجع الكبير في دور الدولة، مع السياسة النيوليبرالية التي انتشرت وسادت منذ الثمانينيات وما بعدها.
محاولات توسيع الاستهلاك.. انتهت!
لقد حاولت قوى رأس المال تاريخياً أن تواجه تراجع الاستهلاك، عبر إيجاد أسواق جديدة، ومصادر نهب جديدة تسمح بعوائد كبيرة تزيد من إمكانيات استهلاك المجتمعات المتقدمة، ونجحت في ذلك عندما كانت تدخل مناطق جديدة لم تستثمرها آلة الرأسمالية الطاحنة، إلا أن الرأسمالية اليوم تمتد على بقاع الأرض ولا تملك أرضاً بكراً جديدة للاستغلال.
كما قامت قوى رأس المال بدفع حكومات العالم إلى تبني سياسات إنفاق عسكري كبيرة، وبتوسيع الإقراض الاستهلاكي والترفي للطبقة العاملة في الدول المتقدمة، إلا أن هذا لم يمنع انفجار الأزمات، وتحول هذا النوع من الإنفاق إلى عبءٍ على الحكومات، ساهم مساهمة كبيرة في توسع ديونها، حيث بلغ الدين العالمي في 2007 356% من الناتج العالمي!. وتحول الإقراض الاستهلاكي مع أزمات البنوك والأسواق المالية العالمية، إلى أداة لإفلاس وسحب مدخرات الطبقات العاملة، واستملاك ما رهنوه مقابل القروض، حيث أن حجم دين القطاع العائلي الأمريكي ارتفع من نصف تريليون عام 1970 إلى 13،8 تريليون عام 2007!.
إلقاء عبء الرأسمالية الثقيل.. أو الفناء!
تراجع الإنتاج الحقيقي والذي يعني تراجع في خلق (القيمة المنتجة مجدداً) عبر العمل، وتراجع توزيع جزء منها للمجتمع ليقوم بالاستهلاك، هو المسبب الأبعد للأزمة الحالية، والتي وصلت اليوم إلى تضييق إمكانيات الاستهلاك الاجتماعية العامة، إلى حد يعيق جدياً أي توسيع للإنتاج، حيث لن يتم استهلاكه!.
أصبح الخروج من أزمة اليوم يتطلب بالدرجة الأولى ليس فقط توسيع الاستهلاك لأنه محرك العملية الإنتاجية، بل إيقاف عملية تراجع الإنتاج وتشويهه التي تقوم بها قوى رأس المال بسبب تراجع معدلات الربح.
أي أن الحل الحقيقي يتطلب استهداف الثروة المتمركزة بشدة لدى رأس المال العالمي، وإعادة توزيعها للعمليات الإنتاجية الحقيقية، وإعادة توزيعها للمستهلكين ولفئات المجتمع المحرومة، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بتغيير كبير في المنظومة الرأسمالية وعلاقاتها، لأنه يعني مواجهة هدف الربح الأقصى، وأداته القائمة على الاستغلال، ونتائجها الأكيدة المتمثلة بتمركز الثروة والدخل، وتوسع الفقر والتفاوت، كقوانين تسم عمل الرأسمالية.
تعي قوى رأس المال العالمي طريقها المسدود، ولذلك تسعى لتدمير كل تطور يقف بوجهها، ويهدد منظومتها. دافعة نحو الخيارات الجنونية التدميرية التي تهدد البشرية، ولكن مقابلها أيضاً تقف قوى المجتمع البشري عموماً، متمثلة في اللحظة الراهنة بقوى اقتصادية كبرى في الجنوب والشرق محاولة تكبيل خيار الحروب والتدمير بطرق متنوعة من الردع العسكري إلى الحلول السياسية إلى التعاون الإنتاجي والتنموي المستقل فيما بينها، وهي لا تملك خيارات جدية للاستمرار في النمو إلا بتجاوز هدف الربح الأقصى، وبضرب التمركز والاستغلال، وتوسيع الاستهلاك والإنتاج، وإلا فإن تراجعاً عميقاً في الإنتاج سيطال النمو الذي تحققه حتى الآن..
أمام خيار عدونا الطبقي، لا تملك البشرية إلا أن ترمي حمل الماضي الثقيل المتمثل بعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وإمّا أن تفنى!.