(التبادل اللامتكافئ).. التجارة العالمية تنقل القيمة من الضعيف للقوي..

(التبادل اللامتكافئ).. التجارة العالمية تنقل القيمة من الضعيف للقوي..

توسعت التجارة العالمية بنسب كبيرة، وأصبح الناتج  المخصص للتبادل في السوق العالمية، في أغلب الدول يشكل نسبة كبيرة من مجمل ما تنتجه محلياً، حيث كانت التجارة الدولية تزداد سنوياً بوسطي 5,3%، خلال الفترة بين 1993-2013، بينما كان الناتج العالمي لا يزداد إلا بوسطي سنوي 2,8% تقريباً، أي أن العالم كان يوسع مقدار وقيمة ما يتبادله، أكثر مما يوسع إنتاجه الجديد.

ولهذه التجارة العالمية تاريخياً سمة واضحة، هي عدم التكافؤ، أي عدم العدالة في العلاقات التجارية بين دول العالم، لصالح الدول الأقوى اقتصادياً أو دول المركز الرأسمالي، وعلى حساب الدول الأضعف اقتصادياً، أو دول المحيط أو الأطراف، وفق تسميات الاقتصاديين الذين درسوا هذه الظاهرة.

فدول المركز تنتج بتكاليف أقل، وتبيع بسعر أعلى في السوق العالمية، لتربح أرباحاً مضاعفة، مما تخسره دول الأطراف، التي بالمقابل تنتج بتكاليف أعلى وتبيع منتجاتها بسعر أقل في سوق العالم الرأسمالي،  وهذا التوصيف هو الأبسط لظاهرة (التبادل اللامتكافئ)، التي يقتضي تفسيرها مزيداً من التوسع والتعمق في الأسباب الموضوعية لهذه الحالة.

رأسمال كبير.. تكاليف أقل

قد يخيل للبعض بأنه يحق لدول المركز أن تبيع بأسعار أعلى، على اعتبارها تنتج سلعاً نوعية، وتستخدم تكنولوجيا أعلى ذات تكلفة أكبر، ومنشآت أضخم، وتعطي أجوراً أعلى لعمالها، مقابل دول العالم النامي التي تنتج في منشآت أصغر، وبأجور عمال أقل..

ولكن المفارقة أن هذا (التراكم الرأسمالي) في دول المركز، على شكل آلات ومعدات وصناعات كبرى، وتكنولوجيا نوعية، ومراكز بحث، هو تحديداً مصدر القيمة المنخفضة أو التكلفة الأقل بطبيعة الحال.

وهذا لفهمه يقتضي أن نستخدم القيمة الحقيقية للمنتجات، وليس سعرها، أي القيمة المقدرة وفق كم وعدد ساعات العمل المبذول في إنتاج كل منتج،  لتكون القيمة الفعلية لمنتج دول العالم المتقدم، أقل من القيمة الفعلية له في العالم (المتأخر)، حيث ينتج بعدد ساعات عمل أقل، وبتكاليف أقل تتيحها وسائل الإنتاج المتطورة، والتي قد يعبر عنها بمستوى ما مفهوم (الإنتاجية). 

ويعود السبب إلى الاحتكار التاريخي لإنتاج وسائل الإنتاج، من الآلات الميكانيكية وصولاً إلى منتجات العالم كلها التي تخدم الإنتاج الصناعي والزراعي وطرق إنتاج الطاقة، وغيرها من حاجات البشر المختلفة، ومنع الدول النامية من التقدم في إنتاجها الأشكال الممكنة من الضغط بكلها، حيث يُستخدم في زراعة دول المركز، عامل واحد مقابل آلات ومعدات ومستلزمات بمقدار 92456 $، بينما في زراعة دول المحيط، فإن العامل الزراعي الواحد، يعمل بوسائل إنتاج لا تتعدى قيمتها 2610$، وهذه العلاقة بين العامل ووسائل الإنتاج المتطورة والمكثفة هي المفصل الرئيسي في زيادة الإنتاجية، وتخفيض التكاليف.

دول المحيط.. محكومة بالتراجع

إن هذا القانون الذي يحكم علاقات التجارة الدولية في ظل السوق الرأسمالية العالمية، أبقى ويبقي الدول النامية في دائرة مغلقة من العجز والتبعية، فهي عندما تنتج لتبيع في السوق العالمية، فإنها في كثير من الحالات لا تحصل على سعر يعوض القيمة الحقيقية لما أنتجته، وبالتالي لا تتمكن من إعادة إنتاجها وتوسيعها لاحقاً، وتجعلها محكومة بالتراجع الاقتصادي، بينما هذه القيمة التي خسرتها تربحها دول المركز المتعاملة معها، التي تحصل من الأسعار المرتفعة لمنتجاتها رخيصة التكلفة، على قيمة إضافية على شكل أرباح، تراكمها رأسمالياً أي تستخدمها في تطوير وسائل الإنتاج واحتكارها.

العمال الأضعف يدفعون الثمن

ولا تمتلك الدول النامية في هذه الحالة لكي تعوض خساراتها إلا أن تخفض أجور العاملين، وهي النقطة التي أدت لاحقاً إلى استفادة أكبر لدول المركز، التي أصبحت تنقل معاملها إلى دول المحيط لتستفيد من فرق الأجور، وتصدر الناتج محصلة الأرباح لمصلحتها.

حيث بلغت الأجور الوسطية في الولايات المتحدة 5 أضعاف الأجور في الصين تقريباً، والأجور الوسطية في فرنسا 8 أضعاف الأجور الوسطية السورية كتعبير عن الفوارق بين أجور دول المحيط المنخفضة، والمركز.

وآلية تخفيض الأجور الحقيقية، التي تعتمدها دول المحيط، في مواجهة التبادل اللامتكافئ، هي أحد أهم عوامل استمرار الانخفاض الحاد في قيمة الأجور الحقيقية لعمال هذه الدول الأضعف، وبالتالي مساهم رئيسي في زيادة الفقر كسمة عامة لدول الأطراف لم يخرج منها نسبياً إلا القليل من الدول التي تمتلك قاعدة هامة من وسائل الإنتاج، وموارد هائلة مثل روسيا والصين والهند، والدول التي تحاول اتباع نموذج تنمية مستقل مثل أميركا اللاتينية، وإيران.

الاندماج العالمي.. مقابل الاستقلال

يعتقد البعض بأن شعار الاكتفاء الذاتي والتنمية المستقلة للدول النامية، (شعار قديم)، بعد أن سادت أفكار النيوليبرالية التي تنادي بالاندماج العالمي، وتحرير التجارة، بينما العلم الاقتصادي، والتجارب الواقعية تقول غير ذلك، وتؤكد بأن دول المحيط  لكي تخرج من دوامة التخلف عليها أن تقطع الصلات التجارية الوثيقة مع دول المركز، أي مع دول العالم المتقدم، أو ما نسميه مجازاً (الغرب)، وتحديداً الصلات القائمة على تصدير المواد الخام، أو تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد تصديري، أي ينتج للسوق العالمية، والانتقال نحو محاولة المحافظة على القيم المنتجة محلياً، وعدم هدرها في علاقات التبادل اللامتكافئ، بل محاولة تعويضها في داخل البلاد، أي تأمين قدرات لشرائها واستهلاكها، عن طريق زيادة الأجور وزيادة الاستهلاك وزيادة الإنفاق الحكومي، والأهم من هذا وذاك هو السعي نحو كسر الاحتكار العالمي التكنولوجي، بمحاولة إنتاج وسائل الإنتاج وتوسيع قاعدتها، وكل هذا يعتمد بالضرورة على التعاون مع دول المحيط التي حققت اختراقات كبرى في هذا المجال، في الشرق والجنوب.

دول الأطراف..

تخسر ربع ناتجها خلال 30 عام

أجرى الباحث الألماني Gernot kohler دراسة في منتصف التسعينيات حول التبادل التجاري اللامتكافئ، محتسباً خسائر دول الأطراف خلال مرحلة زمنية من 1965- 1995، وأرباح دول المركز من هذه العلاقة، معبراً عن هذه الخسائر والأرباح كنسبة من الناتج الإجمالي لهذه الدول.

وكانت النتائج الإجمالية خلال ثلاثين عاماً:

أرباح دول المركز

1965: +1,4%

1995: 8%.

خسائر دول الأطراف

1965: -1,8%

1995: -24%.

أي خلال 30 عام انتقلت دول الأطراف إلى خسارة ربع إنتاجها من علاقات التبادل اللامتكافئ، بينما زادت دول العالم المتقدم نسبة 8% من إنتاجها ربحاً إضافياً إلى إنتاجها المتزايد.

أما مقدار التبادل اللامتكافئ مقيمة بالدولار الامريكي الثابت وفق أسعار عام 1995، بحسب الباحث نفسه فإنه قد بلغ: 

1965: 84 مليار دولار

ارتفعت إلى 1752 مليار دولار في عام 1995.

إيران تحقق

خرقاً هاماً..

وصلت إيران خلال مرحلة العقوبات الاقتصادية عليها، إلى التركيز على تطوير عملية إنتاج وسائل الإنتاج، حيث ساعدتها علاقات التعاون السابقة مع الاتحاد السوفييتي التي نقلت المعرفة التكنولوجية التي احتكرها الغرب، بالإضافة إلى إمكانياتها الهامة كدولة متنوعة الموارد وتحديداً مصادر الطاقة. وصلت إيران إلى إنتاج الطاقة النووي بمستوياته التكنولوجية كافة وصولاً إلى الماء الثقيل والحق في إنتاجه وتصديره، وهو ما يعني تخفيض كبير في قيمة إنتاج الطاقة، إلى الثلث، وهذا يساهم في تخفيض كلف الإنتاج كافة، ويحقق لمنتجات إيران موقعاً متقدماً في التجارة العالمية، كما يتيح فرصة لدول الأطراف كافة بالحصول على هذا المنتج الهام بأسعار أقل من الأسعار الاحتكارية لدول المركز..

 

آخر تعديل على السبت, 01 آب/أغسطس 2015 21:36