استبدال الليرة؟! شروط ثلاثة لسيادة العملة الوطنية
دعت ما يسمى(مجالس محلية) و(خبراء اقتصاديين) في مناطق سيطرة الجماعات المسلحة في مدينة حلب، إلى الانتقال للتعامل بالليرة التركية، عوضاً عن الليرة السورية داعية جهات المعونات الدولية في تلك المناطق إلى اعتماد الليرة التركية، تحت ذريعة تجنيب السوريين آثار (تذبذب الليرة السورية ومخاطرها) في تلك المناطق، بالإضافة إلى اعتبار أن التعامل بالليرة السورية يدعم (النظام السوري) ويجب إيقافه!.
الخطوة التي يكثر التسويق الإعلامي لها، في منابر محددة، لم تنتقل بعد إلى حيز التنفيذ بشكل كامل ولا زالت في إطار الدعاية الإعلامية السياسية الساذجة، في واحدة من (الاحتياطيات القذرة) كما عبرت قاسيون سابقاً، عن الأدوات السياسية التي تهدف إلى خلق أمر واقع يزيد من تعقيدات الحلول السياسية بهدف تشويهها، ولكن بعيداً عن الهدف السياسي لدعوات استبدال الليرة المتجسد بمحاولة الإجهاز على ما تبقى من إمكانات استقرار الدولة، ما هي الظروف الاقتصادية التي جعلت هذه الدعوة ممكنة، لدى هذه الأطراف، وما هي الشروط التي تمنع موضوعياً أي طرف سياسي، من فرض استبدال العملة الوطنية للسوريين أينما كانوا بعملات أخرى؟
تخسر الليرة في الظروف الحالية وخلال الأزمة الشروط الثلاث الموضوعية التي تبقيها العملة المعتمدة والموثوقة لجميع السوريين في كل المناطق وهي دورها (في الإدخار-التسعير- التبادل).
الكبار أرباحهم بالدولار..
الشرط الأول أن تكون الليرة معتمدة كعملة ادخار، أو تخزين للثروة، أي يراكم بها أصحاب الربح أرباحهم، ويسعى حتى صغار المدخرين إلى حماية ما جمعوه بشرائها، وهذا الشرط اليوم لم يعد محققاً بالنسبة لليرة، التي أصبح الاتجاه العام لكل أصحاب الربح الكبار والصغار منهم، هو استبدال أرباحهم المحققة بها، بالعملات الأخرى وبالدولار تحديداً، وهي العملية التي تؤدي إلى موجة المضاربات على قيمة الليرة من حين لآخر..
الليرة انعكاس الإنتاج السوري!
أما الشرط الثاني فهو أن تبقى هذه العملة مقياساً للقيم، أي أداة التسعير، ويرتبط هذا الشرط بشكل أساسي بمصدر المواد الموجودة في الأسواق المحلية، فطالما أن نسبة 58% من الناتج المحلي السوري أصبحت من المستوردات، وتحديداً مستوردات القطاع الخاص، فعملياً تقييم المواد والسلع الموجودة، هو (بكلفها الدولارية)، وينطبق الأمر على السلع المستوردة من تركيا في المناطق الشمالية، التي يوجد للأسواق والبضائع التركية فيها وزن رئيسي، أي أن هذا الشرط الثاني لم يعد محققاً لليرة السورية، إلا بمقدار ما تنتج من سلع ومنتجات محلية، وبمقدار ما يتراجع الاستيراد.
تداول الليرة: توفرها -الحاجة لها!
أما بالنسبة للشرط الثالث فهو أن تكون هذه العملة هي عملة التداول التي يشتري الناس ويبيعون بها، وهذا محقق في المناطق الآمنة من خلال تجريم التداول بالعملات الأخرى، على الرغم من أن هذا الإجراء القانوني غير كافٍ في ظل المعطيات السابقة، إلا أنه يبقى أفضل من المناطق الخارجة عن السيطرة. حيث تستنتد دعوات تلك الجهات المشبوهة على وضع المناطق المحاصرة المعزولة اقتصادياً إلى حد ما لتثبيت فكرتهم، ولكن هل هذا منطقي وقابل للتطبيق؟!
أعقد من دعوات وتصريحات..
يعتبر ضعف توفر الشرط الثالث (دور الليرة في التبادل) في المناطق الخارجة عن السيطرة، واحداً من أكثر العوامل التي تهدد بإمكانية استبدال الليرة بأية عملة أخرى في المنطقة الشمالية أو غيرها، ومع ذلك تبقى هذه العملية معقدة ومشروطة بوجود مركز مالي هناك، يؤمن تدفقاً مستمراً ومنظماً بالعملة التي قد يتم الاستبدال بها، لتؤمن كل حاجات الإنتاج والتداول والادخار في تلك المناطق، وهذا غير متاح حتى الآن، وتحديداً في ظروف تعدد وتشتت الأطراف الداعمة والممولة، وعدم استقرار في وضع الليرة التركية، ومجمل هذه الشروط سيبقي الليرة في إطار التداول إلى جانب غيرها من العملات التي تتدفق بشكل غير منتظم إلى تلك المناطق، لتعود وتسود مع عودة الإنتاج والتواصل بين مناطق البلاد، وعودة جهاز الدولة ليخدم مناطق البلاد كافة.
مسؤوليات الحكومة وسبل المواجهة
بالنسبة لاستمرار استخدام الليرة في التداول، هو أمر قابل للتحكم من قبل الحكومة الرسمية التي تستطيع قطع الطريق بإجراءات عدة على دعوات أطراف مشبوهة لضرب الليرة السورية، وذلك عبر جانبين أساسيين:
الأول: أن تتوفر الليرة السورية في تلك المناطق في ظل غياب أجهزة الدولة الخدمية التي تؤمن تدفقها، وتتعامل وتلزم بالتعامل بها، وهذا يعتمد في الظروف الحالية بشكل أساسي على استمرار تدفق الأجور والرواتب للموظفين الباقين في تلك المناطق. ولا تزال رواتب السوريين والكثير من المتقاعدين توزع في تلك المناطق، إلا أن جملة من التعقيدات البيروقراطية والأمنية، تعيق جدياً في الكثير من الأحيان استلام الرواتب لمستحقيها الموجودين في حلب وريفها، وإدلب وريفها، أو المنطقة الشرقية، وهذا يقلل من وزن الليرة السورية في تلك المناطق، ومن توفرها..
الثاني: الذي يضمن استمرار تداول الليرة في تلك المناطق، بعد توفرها، هو توفر الحاجة الضرورية للتداول بها، وهذا يرتبط باستمرار تواصل السوريين في تلك المناطق إنتاجياً وتجارياً وخدمياً مع المناطق المتعاملة بالليرة، لأن هذا يعتبر حافزاً رئيسياً للمنتجين السوريين هناك ليبقوا الليرة عملة متوفرة معهم يحتاجونها لمبادلة منتجاتهم ويحصلونها من بيعها، فعلى سبيل المثال: لو استطاع منتجو القمح والقطن في الأرياف السورية غير الآمنة، وفي حلب تحديداً، أن يوصلوا منتجاتهم إلى مراكز الاستلام للقمح الحكومية، لكانت لليرة الآن كتلة رئيسية في تلك المناطق، لا تسمح لهؤلاء بطرح من هذا النوع، إلا أن عدم السعي الحكومي الجدي، من خلال رفع السعر للقمح أو القطن، أو من خلال زيادة وتأمين مراكز الاستلام إلى أقرب المواقع، لم يشكل حافزاً حقيقياً، ليحاول المزارعون الوصول، وهذا أضاع فرصة مبادلة أهم المنتجات المحلية الحالية بالليرة السورية، عوضاً من أن تباع لتركيا، وهذا فقط أحد النماذج والاحتمالات..
الدولار للصرافة 283 ل.س
المصرفي يرفع السعر 27% في 4 أشهر!
حتى 25-6-2015 كان المصرف المركزي يحدد سعر الصرف الخاص بمؤسسات الصرافة بمقدار: 276 ل.س مقابل الدولار.
بتاريخ 7-7-2015: رفعه إلى 281 ل.س/ الدولار، ثم تم رفعه إلى 283 ل.س/$، ويستمر هذا السعر حتى تاريخ 15-7-2015.
يرتفع سعر المركزي لمؤسسات الصرافة، مع ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء الذي عاد ليقترب من 300 ل.س/$، وهذا بعد أن استقر لفترة شهرين تقريباً، عند سعر 293-296 ل.س/$، بعد موجة المضاربة، والضخ الحكومي الأخيرة في شهر نيسان 2015.
فهل نحن على عتبة موجة ارتفاع سعر صرف الدولار مجدداً؟ وما هي المتغيرات التي تتيح للمركزي، رفع سعر مؤسسات الصرافة، وتقليل قيمة الليرة بشكل تدريجي؟
هل ازداد الطلب على القطع الأجنبي، لتمويل المستوردات من مؤسسات الصرافة، هل انخفض حجم التحويلات اليومية من الخارج، هل شهد شهر تموز تحديداً انخفاضاً في عوائد قطع التصدير؟
إن هذا الشهر لم يشهد حدثاً ذا تأثير على قيمة الليرة مقابل الدولار، إلا توقيع الخط الائتماني الإيراني، بمليار دولار، والذي من المفترض أن ينعكس إيجاباً على السوق، وخصوصاً بأن تجار القطاع الخاص وكبار المستوردين للمواد الغذائية الرئيسية يستفيدون من هذه التسهيلات الائتمانية..
الحكومة لم تجد أنها مضطرة لتبرر ارتفاع سعر الصرف الذي تحدده لمؤسسات الصرافة، كما أن معلومات من السوق تقول بأن المتعارف عليه بأن كبرى مؤسسات الصرافة هي مساهم رئيسي في تحديد هذا السعر، ما ينبئ بموجة ارتفاع جديدة يحضر كبار قوى السوق لها.
ينبغي التذكير بأن هذا السعر، يضع حداً أدنى للسوق، لا ينزل عنه، وهو في ارتفاع كبير ومتسارع، حيث كان في منتصف شهر آذار من العام الحالي عند مستوى 222 ل.س/$!، أي أن المصرف المركزي رفع سعر بيع وشراء مؤسسات الصرافة للدولار بمقدار : 27% خلال 4 أشهر.
إنّ أهم ما يهدد الليرة السورية فعلياً اليوم ليس دعوات دعائية سياسية هنا وهناك لاستبدالها، بل هي الحرب المستمرة التي تدهور الإنتاج السوري، وتزيد من وزن اقتصاد المضاربة والدمار، والتي تقطع أوصال تعامل السوريين ومبادلة إنتاجهم مع بعضهم البعض بعملتهم، وتزيد الاعتماد على الخارج، استيراداً أو معونات، أو مساعدات، مضافاً إلى الحرب، خطر السياسات الاقتصادية التي تغتنم من التدهور وتوزع لكبار الرابحين الذين يُعتبر مستخدمو الليرة ومنتجو قيمتها أداتهم، والدولار هدفهم، في ظل غياب أية إجراءات اقتصادية جدية لاستمرار شروط سيادة الليرة السورية، فإن الحرب المستمرة تجعل كل الاحتمالات ممكنة..