عودة أوروبا.. والاستضافة من (النواعم)!
قبل عامين كان مسؤولون يتحدثون عن نسيان أوروبا من الخارطة الدولية. حينها كان الدم حامياً على ما يبدو، فأوروبا الغربية التي كنا نمنحها ميزة شراء ما لا يقل عن 95% من نفطنا الخام، والتي كانت علاقاتنا التجارية معها تعتبر الأكبر بالمقارنة مع باقي الدول، حيث استحوذت أوروبا الغربية على أكثر من ربع مشاريع الاستثمار الأجنبي في الفترة بين 2007 و2013 ناهيك عن أكثر من 50% من علاقاتنا التجارية تاريخياً، ومع ذلك، كانت أولى من عمل على حصارنا..
تعود أوروبا ذاتها هذه المرة بواجهة أثنوية، مجملة بماكياج الأصدقاء والمغتربين، ولا ضير ببعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي. فبدعوة من (سيدات أعمال سورية)، ومن خلفها رعاية رئيس مجلس الوزارء، وبحضور وزير الصناعة، وغيره من المسؤولين، نظمت لجنة سيدات الأعمال الصناعيات في غرفة صناعة دمشق وريفها، ومؤسسة بصمة شباب سورية، والجمعية السورية للبحوث والدراسات، وبمشاركة سيدات ورجال أعمال من سورية ودول الاغتراب والدول الصديقة في فندق الشام بدمشق مؤتمراً (الاستثمار والتشاركية الأول لإعادة إعمار سورية)!
توبة الغرب.. الإنكار رسمي!
طبعاً كان جزءاً من هذه الاحتفالية، هو حضور السيد فرانك كلرمين عضو مجلس النواب البلجيكي، ورئيس وفد الاتحاد الأوروبي، كما عُرّف عنه في المؤتمر. وإلى جانب ذلك حضر مواطنون سوريون مغتربون عن جاليات في سلوفاكيا وبولونيا، وممثل عن حزب تركي رافض لسياسات حكومة أردوغان العدوانية على حد تعبيره، بالإضافة إلى ممثل عن برلماني فنزويلي، ومستثمرون سوريون في دول الخليج.
لا داعي للوقوف مطولاً عند محاولة إثبات أن جزءاً من قوى رأس المال ومغطاةً من الحكومة رسمياً تحن للشراكة مع الأوربي، حيث لا يدل على ذلك حضور موفد عن البرلمان البلجيكي والاتحاد الأوروبي وحسب، بل أيضاً مضامين الطروحات حول كيفية التعامل مع الاستثمار الأجنبي، والتي تعودنا على سماعها في حقبة الدردري المستمرة حتى اللحظة وإن بواجهات مختلفة!
السيد كلرمين زار سورية في آذار الماضي مع وفد من البرلمان البلجيكي، وهو ما ظلت تفسره أوساط رسمية بأنها توبة أوروبية، أو انقساماً بين برلمانات الغرب وحكوماته، في محاولة متخلّفة لإنكار توازع الأدوار بين مختلف القوى السياسية في الأنظمة الغربية. بكل الأحوال وبغض النظر عن الأشخاص، فمضمون المؤتمر وهواه وفق مفرداته غربي بامتياز، وإن تم تطعيمه بآخرين، فالمهم هو المضمون وليس هوية رأس المال، فلا يختلف هذا المؤتمر كثيراً عن مؤتمرات رؤوس الأموال الأجنبية في أية دولة من العالم الثالث يسعى إلى ولوجها رأسماليو الغرب أو وكلاؤهم من رأس المال المحلي.
مالفارق بين الأجنبي والمهاجر؟!
لم تخفف العناوين والشعارات البراقة المستخدمة في المؤتمر، من طبيعة القوى المستنفرة لإعادة مسنن العلاقات الأوربية-السورية، فالكل يعرف ماذا يعني بالملموس (استعادة رؤوس الأموال المهاجرة) أو (اجتذاب المستثمرين في المغترب)، حيث لم يوضح الفارق بين استعادة هذه الأموال وسياسات اجتذاب رأس المال الأجنبي، والتي لم تعنِ سابقاً إلا مزيداً من التنازلات لرأس المال على حساب اقتصادنا، وعلى حساب حقوق عمالنا، حيث استدعت تلك المقولة تعديل قوانين العمل بما يضمن دوراً أكبر لرب العمل، وزيادةً لمعدل البطالة بما يخدم تخفيض الأجور لتخفيض تكاليف الاستثمار، وإعفاءات ضريبية خسرت بها الخزينة العامة مئات المليارات، ناهيك عن طبيعة تلك الاستثمارات وآثارها السلبية على الاقتصاد كحال استثمارات الخليج التي استقرت معظمها في المجالات غير المنتجة كالعقارات والمصارف وشركات التأمين.
لهيب العقارات درس (الخليج) المنسي!
هاهي تعود اليوم تلك الآليات من حيث المضمون، وإن اختلفت شكلياً بعض الشيء، حيث كان من أبرز ما تم عرضه في المؤتمر هو حديث هيئة التطوير والاستثمار العقاري، التي تحدثت عن وجود 23 منطقة تطوير عقاري، وعن منح تراخيص لـ44 مطوراً عقارياً. كما لفت المدير العام للهيئة انتباه المشاركين إلى (سعي الهيئة الى تعزيز أعمال التطوير العقاري وتشجيع الاستثمار وتفعيل دور القطاع الخاص الوطني، وتطوير القطاع العام، وجذب الاستثمارات العربية والاجنبية وخاصة المغتربين السوريين في المهجر)!. وكأن مآسي وآثار ما جرته علينا شركات التطوير العقاري الخليجية وغيرها، من مضاربة في أسعار العقارات، والتي جعلت امتلاك بيت في سورية أحد أحلام السوريين، باتت اليوم في خبر كان، فما الجديد الذي يضمن عدم تكرار تلك التجربة؟ لم يوضح أحد!؟
حاول المؤتمرون تمرير مشاريعهم بصيغ تبدو من حيث الشكل جديدة كالحديث عن (تفعيل التعاون مع الدول الصديقة) و(التنسيق بين أصحاب المشروعات المتميزة القائمة على أسس اقتصادية مدروسة، مع الراغبين من أصحاب رؤوس الأموال، الباحثين عن فرص استثمار جادة ذات عائد اقتصادي مضمون). لكن هذه المفردات وغيرها، تحمل مرتركزات تفعيل العلاقات مع الغرب، والتي كان مضمونها زيادة هيمنة قوى رأس المال الطفيلي، في العلاقات الاقتصادية السابقة/الحالية، على حساب المواطن السوري وحاجاته وأولوياته وقوة اقتصاده، فلا تزال طرق التعاطي مع هذه القوى هي العقلية ذاتها حيث يغدو ديدن الحكومة ومن خلفها جذب الاستثمار أياً كان مضمونه!
مسنن الغرب هل يدور من جديد!
طبعاً ليس مستغرباً هذا السلوك على واضعي سياساتنا، كيف لا، فالمسننات مع الغرب لم تنقطع نهائيا،ً فيكفينا التذكير بصفقات الطحين التي جلبناها من فرنسا في عز الأزمة، والتي كلفتنا ضعف السعر العالمي تقريباً، تحت حجة استبدالها بودائعنا المجمدة هناك!
إن توقع سلوك أوروبي إيجابي تجاه بلادنا واقتصادنا، كان ضرباً من الهرطقة والجنون في فهم العلاقات الدولية، خاصة وأن أوروبا، والتي تستمر بحصارنا اليوم، بعد ما فاوضتنا على ثوابتنا السياسية، لأجل دخولنا في اتفاقية الشراكة الأوربية أيام الحقبة الدردرية. لكن ماذا يمكن تسمية العودة لهذا الخيار، بعد مئات آلاف الضحايا، ومليارات الدولارات من الخسائر، التي يعد الغرب عموماً والأوربي منه تحديداً مسؤولاً عنها، وبعد أن صدع مسؤولونا رؤوسنا بالمؤامرة، والنوايا الاستعمارية الجديدة!.