تجار المازوت والسياسات واستدراج (المركزي) إلى سوق بيروت!

تجار المازوت والسياسات واستدراج (المركزي) إلى سوق بيروت!

من المعروف أن انخفاض قيمة الليرة كان له العديد من الأسباب لكن أهمها هو تراجع الإنتاج واختلال التوازن بين كمية النقود الموجودة في السوق وكمية السلع المقابلة لها، ولكن وبعد الاستقرار عند مستوىً منخفض من الإنتاج ينبغي أن تستقر الليرة عند سعر محدد وإن بانخفاض شديد، فما هي أسباب التقلب المستمر؟؟ خاصة وأن الحكومة مؤخراً صرحت لأكثر من مرة بعودة مؤشرات الانتعاش وارتفاع نسب التصدير!

يعتبر تعويم سعر صرف الليرة السورية أحد أهداف السياسات الليبرالية، وهو ما يعني جعل سعر الليرة خاضعاً لتقلبات العرض والطلب، خلافاً للمبادئ التي عرفها الاقتصاد السوري سابقاً والتي قامت على سياسة "سعر الصرف الثابت" لعدة عقود. وأن مبدأ التعويم هذا، يعني أن سعر الليرة لن يخضع لأية ضوابط اقتصادية أو إدارية كمنع المضاربة والمتاجرة بالعملة الأجنبية، حيث تكون الأداة الأبرز التي يستخدمها المصرف المركزي هي قيامه بشراء الليرة أو بيعها مقابل العملة الأجنبية للتحكم بسعرها عبر ضبط العرض والطلب على الليرة وفقاً لهذه السياسة. وهذا يشبه إلى حد بعيد سياسة المصرف المركزي الحالية، التي تقتصر على ضخ الدولار لسحب الليرة في مواجهة ارتفاع سعر الصرف.
إن ما يتم حالياً من تحديد متواتر ومتهاوٍ لسعر الليرة من المصرف المركزي ليس إلا أحد أشكال التعويم، وإن قيام "المصرف المركزي" بشراء أو بيع الدولار ليس إلا الأداة الرئيسية التي تسمح بها سياسة التعويم بالتدخل لضبط السعر لتحقيق هدف "المصرف المركزي" المعلن من هذه السياسة وهو (الحفاظ على استقرار الأسعار بوصفه الهدف النهائي لمصرف سورية المركزي) وفق لما يعلنه "المركزي" في سياساته المنشورة!.

 

حرية حركة رأس المال!

تتوازى إجراءات تعويم سعر الصرف مع العمل على هدف آخر ألا وهو (تحرير ميزان المدفوعات) وهو الذي رأته سياسات المصرف المركزي هدفاً ضرورياً للخطة الخمسية الحادية عشر والتي صيغت على الشكل الآتي (الاستمرار بالتحرير التدريجي والمضبوط للحساب الرأسمالي من ميزان المدفوعات). وفقاً لهذه السياسة فإن خروج الرساميل والأموال  من وإلى سورية هو أمر غير خاضع للضوابط، وهو ما أدى خلال الأزمة إلى هروب الرساميل إلى خارج البلاد بلغت مئات المليارات، أما قبل الأزمة فقد أدى هذا الإجراء إلى دخول المال الخليجي والتركي وقيامه بالعديد من المضاربات وتحقيق أرباح هائلة على حساب الشعب السوري وإخراجها خارج البلاد دون حسيب أو رقيب. إن إجراء تحرير ميزان المدفوعات هو أكبر خدمة لرأس المال الأجنبي الذي سيتمتع بحرية الحركة في الاقتصاد السوري وهو الهدف الذي لطالما تغنت به حكومات سابقة، ولا زالت تعمل بمقتضاه الحكومة الحالية.

 

أولويات صندوق النقد الدولي!

إن كلتا الأداتين السابقتين (تعويم سعر الصرف-تحرير ميزان المدفوعات) ماهي إلا السياسات التي تخدم رأس المال وحرية حركته وتأمين أفضل الأرباح له، وهما متلازمان إلى حد بعيد، فضمان خروج الأموال إلى الخارج ينبغي أن يسبقه ضمان التحويل من العملة الوطنية إلى العملة الأجنبية بسهولة في الاقتصاد السوري ليصار إلى تصدير أرباح الشركات إلى الخارج بسلاسة، ناهيك عن أن سياسات التعويم وما تقتضيه من افتتاح شركات للصرافة وسياسة تحرير ميزان المدفوعات وما تستدعيه لافتتاح شركات لتحويل الأموال تمثل مصلحة جدية لقوى رأس المال المختلفة في السوق السورية وخارجها.
إن أخطر مافي هذين البندين أنهما على رأس أولويات المنظمات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين) والتي تشترطها كضرورة لضمان تدفق الاستثمار الأجنبي ونشاط القطاع الخاص اللذين سيغطيان نقص التمويل والاستثمار في الاقتصاد السورية خاصة في رحلة إعادة الإعمار التي ستمنه علينا الدول المانحة سواء في مرحلة إعادة الإعمار أو كما حصل في فترات ما قبل الأزمة.

 

حركة المضاربة تحدد السعر الرسمي
 
نلاحظ من خلال الجدول التالي ارتفاع سعر الصرف الرسمي من قبل المركزي بشكل متواتر ومستمر مع ارتفاع سعر السوق السوداء، ومع هذه الارتفاعات تتسع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء، وهو ما يشكل أداة الضغط الرئيسية على المركزي لأجل اللحاق بالسوق السوداء، وهو ما ينعكس على شكل زيادة بمعدل "ارتفاع سعر الصرف الرسمي"، وهو ما قد يوصل يوماً ما إلى تبرير ضرورة توحيد السعرين على غرار ما جرى مع مادة المازوت، فالتحرير واحد وعقلية الحكومة وتبريراتها واحدة.

 يمكننا من خلال الجدول وضع ملاحظتين رئيستين:
أولاً- تبعية سعر الصرف الرسمي لسعر الصرف في السوق.
ثانياً- إن معدل ارتفاع سعر الصرف الرسمي آخذ بالتسارع.
كلا الملاحظيتن ينبآن بشكل واضح أن التعويم وآلياته تفعل فعلها بشكل واسع، ولا يمكن تبرير ذلك بمجرد القول أن المركزي يستهدف سعر الصرف المناسب للوضع الاقتصادي، فلو كان كذلك فعليه أن يصل إلى ذلك السعر دون مزيد من ضخ الدولار في السوق.


«مناورات» بيروت في «ساحات الخصم»؟!

 
إن محاولات المصرف المركزي التدخل في السوق السوداء والتي انبرى لها مؤخراً في سوق بيروت، والتي تقضي ببيع الدولار لتجار الصرافة هناك ليست إلا مساع مثيرة للريبة، ستستنزف احتياطي العملة الصعبة الذي جمعه السوريون عبر عقود طويلة من عرقهم ودمائهم، وهي باتت أشبه بملاحقة الشيء بظله وقد بات «المركزي» عملياً ظلاً للسوق السوداء، والسياسة الأخيرة تندرج في سياسات اللبرلة ذاتها ووصفات التعويم المدعومة من المؤسسات الدولية.
فكيف من الممكن للمصرف المركزي جمع الليرة من سوق بيروت؟ هل يعرف حجم الليرات المكدسة في الأسواق الخارجية والتي يتربص بها الأعداء لاستنزافنا؟ كيف يستطيع المركزي ضبط سوق بيروت في الوقت الذي فشل في ضبط السوق المحلية؟ وكيف يستطيع ضبط السوق المحلية أو الخارجية في الوقت التي لا تستطيع الحكومة التحكم بالوضع الاقتصادي في مساحات واسعة من الدولة السورية؟ وما هو حجم الدولارات التي سيفرط بها المركزي هناك لأجل هدف ثبت مراراً استحالة تحقيقه بهذه الطريقة؟!.
فإن نجح في بيروت سيستدرج إلى سوق أخرى لا يطالها. إن ذلك أشبه باستدراج فرقة عسكرية للتقدم في أراضي الخصم دون تأمين العمق الكافي لها من الإمداد والدعم اللوجستي والاتصال بالمركز مايهدد هذه الفرقة بالفتك بها من الأعداء، فماذا أعد مصرفـ«نا» المركزي لهذه المواجهة؟!.
من المثير للدهشة في هذا السياق أن تتحدث الحكومة والمصرف المركزي عن أن ارتفاع السعر الأخير مرده الطلب العالي على الدولار الناتج عن حاجة تجار المحروقات من القطاع الخاص للتمويل بالدولار من السوق السورية لأجل استيراد مادتي المازوت والبنزين والذي تعتبر لبنان أحد مصادره الرئيسية حالياً. لا بل ترى الأوساط الرسمية أنه من غير الممكن تخفيض السعر الحالي للدولار إلا بعد انقضاء فترة الشتاء حيث ستنخفض كميات استيراد المازوت. مايعني إحتمال ارتفاع أكثر له أيضاً.
إنه تهديد صريح لحياة المواطن، فإما ارتفاع الأسعار عبر ارتفاع الدولار أو انقطاع مادة المازوت، وإن من شأن كل التبريرات السابقة التعامي عن ترابط كل السياسات الحكومية سواء في المصرف المركزي أو في الوضع الاقتصادي، فالحكومة هي التي سمحت باستيراد مادة المازوت عبر القطاع الخاص وأدخلتنا في معمعة التمويل والذي استشرفت قاسيون مخاطره، فنبهت مراراً من عمليات استيراد المازوت عبر القطاع الخاص ومشاكل مصادر تمويلها والتي تقبع إحداها في زيادة الطلب على الدولار وما يستتبعه ذلك من انخفاض في قيمة الليرة، والتي تدعي الحكومة أن مناوراتها الأخيرة في سوق بيروت والتي ماهي إلا استكمال سياسات اللبرلة في المجال النقدي للتوافق مع سياسات اللبرلة في الاقتصاد الكلي التي تفرضها المؤسسات الدولية التابعة للمراكز الغربية التي نواجهها في ساحات المعركة (ضد المؤامرة)!.

 

آخر تعديل على الأحد, 08 شباط/فبراير 2015 18:00