الهجوم المضاد بالـ «الإحصاءات الدقيقة»!
تلجأ بعض الجهات الحكومية إلى الهجوم الاستباقي بهدف التّعتيم على تقصيرها أحياناً، أو لتبيان «إنجازاتها» أمام الجهات السياسية العليا في أحيان أخرى، وبالتالي تضليل الرأي العام حول النتائج الحقيقية للسياسات الاقتصادية الحكومية، من خلال تواري جميع «المصرحين» وراء الأرقام المستندة ادعاءً إلى «الإحصاءات الدقيقة». لكن التدقيق في تصريح المسؤول ذاته في فترات زمنية متقاربة يكشف ثغراته، كما يمكن اللجوء أحياناً لتصريح أكثر من جهة حكومية حول قضية واحدة، لكشف حجم المغالطات في هذا الرقم أو في ذاك التصريح..
الخيارات «الصعبة»
النائب الاقتصادي عبدالله الدردري - كعادته – طرح جملة من القضايا الإشكالية خلال لقائه التشاوري مع الصحفيين السوريين، ودخل في جملة من المغالطات التي تنفيها الوقائع والأرقام، وحتى حديثه ذاته، حيث أكد النائب الاقتصادي عند سؤاله من جانب صحيفة «الاقتصادية» عن تأخر الخمسية العاشرة في تنفيذ برامج الحماية الاجتماعية، بالقول: «يجب أولاً تعريف الحماية الاجتماعية؛ فالتعليم المجاني هو حماية اجتماعية، الصحة المجانية وخصوصاً الرعاية الصحية الأولية هي حماية اجتماعية، رعاية صحة الأم والطفولة هي حماية اجتماعية، دعم المازوت الذي ما يزال مدعوماً بـ12 ليرة على الليتر هو حماية اجتماعية، دعم الكهرباء المدعومة بـ80% من كلفتها هو حماية اجتماعية.. ونسعى اليوم إلى الانتقال لأسلوب حماية اجتماعية أوسع». وتابع: «الحكومة كانت أمام ثلاثة خيارات لا غير: تقليص الإنفاق العام بشكل مرعب بحيث لا يعود هناك تعليم مجاني أو صحة مجانية، وخصخصة كاملة لكل ما نملكه من قطاع عام حتى نستطيع تأمين الإيرادات؛ والخيار الثاني كان الاستدانة من الخارج؛ أو القضاء على كل احتياطاتنا من القطع الأجنبي وغيره من الاحتياطات المالية السورية، وحتى هذا لم يكن ليكفي لأنه كان لينتهي عام 2011»..
استسهال الحلول
انطلاقا من حديث النائب الاقتصادي، نجد أن ما تم تنفيذه خلال الخمسية العاشرة هو السيناريو الأول، والمتمثل بتقليص الإنفاق العام، لأن الحكومة لم تلجأ إلى الاستدانة من الخارج، كما أن احتياطاتنا النقدية ما تزال محافظة على مستواها، خصوصاً وأن السيولة المصرفية الفائضة في أروقة مصارفنا باتت عبئاً على الاقتصاد لارتفاعها بنسبة 10% في كل عام تقريباً، وبالتالي فإن تنفيذ هذا السيناريو يعني لجوء الحكومة بحسب النائب الاقتصادي إلى تقليص برامج الحماية الاجتماعية خلال الخمسية العاشرة فعلياً، وهذا ما يؤكده الواقع العملي.
تم خلال هذه الخطة الخمسية زيادة رسوم التسجيل الجامعي، ورسوم التسجيل في المدينة الجامعية أضعافاً مضاعفة.. وغيرها الكثير من الإجراءات التي تحد من مجانية التعليم، وهذه أحد مؤشرات تراجع الجانب الاجتماعي للدولة يما يتعلق بالشق التعليمي. أما في مجال الصحة فلم تعد المستشفيات الحكومية مجانية بالكامل كما اعتادها السوريون، وكان آخرها تحول مستشفى المواساة للأطفال إلى نسبة مجانية لا تزيد عن 70% فقط بدلاً من المجانية الكاملة.
أما إذا افترضنا أن كلام النائب الاقتصادي صحيح حول حجم الدعم المقدم على المازوت، فإن الحكومة تكون قد رفعت الدعم عن هذه المادة في شهر نيسان من العام بنسبة تزيد عن 50% خلال الخطة العاشرة بعد زيادة سعر الليتر من 7 إلى 20 ليرة سورية، أي أن حجم الدعم على هذه المادة قد انخفض فعلياً.
وكذلك إذا ما تحدثنا عن التعرفة الكهربائية التي تم رفعها وزيادة الرسوم أيضاً، حيث وصل سعر ك. و. س المباع في سورية للاستهلاك المنزلي إلى 2.17 ل.س، أي أن هذا المبلغ لا يشكل سوى 20% فقط من حجم التكلفة، أي أن تكلفة إنتاج ك. و. س يصل في سورية يصل إلى 11 ل.س تقريباً، وهذا الرقم بعيد عن الحقيقة تماماً لأن تكلفة إنتاج ك. و. س لا تزال مجرد تقديرات فردية دون دراسات دقيقة، كما أن النظر إلى التعرفة الكهربائية المعتمدة في دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية، سيبين أنها تتراوح بين 8 – 12 سنت/ لكل كيلو واط ساعي، أي ما يتراوح بين 5,52 - 6.68 – ل.س، وهذا يؤكد بشكل قاطع أمرين لا ثالث لهما:
الأول، إن تكلفة إنتاج الكيلو واط الساعي في دول الاتحاد الأوربي وأمريكا أقل من تكلفة إنتاج الكيلو واط الواحد لدينا، وهذا أمر غير منطقي، لأن تكلفة مدخلات وعناصر الإنتاج في هذه الدول أغلى من التكلفة ذاتها بالنسبة لنا بأضعاف، كما أن تكلفة اليد العاملة عندهم أكبر من ما لدينا بالتأكيد، وبالتالي هذا الخيار غير وارد، وبالتالي فإن هناك ما هو غير دقيق في تحديد حجم الدعم الحكومي من قبل النائب الاقتصادي..
الثاني، هو أن تكون حكومات هذه الدول الرأسمالية تدعم التعرفة الكهرباء لمواطنيها، وهذا يحتم على حكومتنا الاستمرار في دعم التعرفة الكهربائية وليس السعي الدائم لخفض هذا الدعم، فإذا كانت هذه الدول الرأسمالية تدعم التعرفة الكهربائية لمواطنيها، فهل هم بحاجة لدعم حكومتهم أكثر مما يحتاجه المواطن السوري؟!
تراجع الحماية الاجتماعية
الحماية الاجتماعية التي يُفترض تعزيزها خلال الخطة الحالية هي في تراجع واضح، سواءً من خلال كلام النائب الاقتصادي الباحث عن «إنقاذ» الاقتصاد السوري، وإجراء «إصلاحاته» الهيكلية، أو من خلال الأرقام والإجراءات المتبعة في السنوات الخمس الماضية، وبالتالي فإن قول النائب الاقتصادي بالسعي للانتقال لأسلوب حماية اجتماعية أوسع، لا يتعدى كونه مجرد محاولة جديدة فعلياً لتقليص حجم الحماية الاجتماعية مستقبلاً لا أكثر.
قٌضيَ على الفقر المدقع!؟
وفي مجال إنجازات الخطة العاشرة في مجال الفقر ومكافحته، أوضح النائب الاقتصادي في اللقاء التشاوري ذاته أنه فيما يتعلق بالفقر الغذائي- الفقر المدقع: «سورية تكاد تقضي على هذه الظاهرة»، حيث لفت إلى أن 4% من سكان سورية كانوا يعانون الجوع بداية الخطة الخمسية العاشرة، أما اليوم أصبح هذا الرقم أقل من 0.3% من السكان، وفي هذا مغالطة للواقع المعيشي الذي يعيشه السوريون، لأنه ووفق تقرير الفقر وعدالة التوزيع لعام 2009، فإن نحو 22% من سكان سورية معرضون للسقوط في الفقر الشديد في ضوء التزايد الذي شهدته أسعار الغذاء والوقود مؤخراً،كما أشار تقرير صادر عن البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة في العام 2009 إلى وصول 14 بالمئة من إجمالي عدد السكان في سورية لى حافة الفقر المدقع، أي أن نحو 3 ملايين من أصل 22 مليون نسمة لا يستطيعون تأمين احتياجاتهم الأساسية، فهل كل هذه التقارير المحلية والدولية على خطأ بينما النائب الاقتصادي وحده على صواب، خصوصاً وأن الفارق بين التقارير والدردري يصل إلى عشرات الأضعاف في تقدير نسبة الفقر المدقع في سورية؟.