التنمية في سورية.. مؤشرات الانحراف

التنمية في سورية.. مؤشرات الانحراف

مرت سبعة عقود تقريباً على تشكيل الدولة السورية، بحدودها الحالية، خاضت خلالها هذه الدولة الكثير من «المطبات» والاستحقاقات، ولم تبد خلالها أية إشارات عودة جدية للوراء، كالتي تبديها اليوم. مفترق الطرق الواضح الذي تقف عليه سورية اليوم بين الدولة الوطنية، وبين هشاشة المكونات السابقة يفتح التساؤلات حول مستوى متانة البناء، بناء جهاز الدولة خلال هذه العقود، فمؤسسات جهاز الدولة ودوره الاقتصادي- الاجتماعي هي الأداة الملموسة لتشكيل مفهوم الوطن والمواطنة، وهي التفسير لمفردة وطن بمكوناتها الضرورية الأولى أي ضمان الحقوق، ليتحول الوطن إلى الحاضن الاجتماعي الأول، وتبقى المكونات الأخرى إضافية ومكملة اجتماعياً فقط. وهذا إن حصل خلال مرحلة ما، فقد اهتز جدياً في المراحل الأخيرة، مؤشرات فقدان الحاضن الاجتماعي وتراجع عملية السير إلى الأمام كثيرة، سنذكر منها أولها وأهمها وهو توزيع الثروة.. فالآلية التي توزع وفقها الثروة المنتجة بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح تعكس خط سير جهاز الدولة ومستوى «حياده» أو تحوله إلى أداة «تجميع» الثروة، فانحراف جهاز الدولة نحو أصحاب الربح، يعبر عنه هذا المؤشر، ويعبر عنه مايستتبعه من إهمال للدور الاقتصادي والخدمي العام الذي يخدم بالدرجة الأولى أصحاب الأجور، ولذلك سنستخدم  مجموعة من مؤشرات التنمية التي نشرتها منظمة الأمم المتحدة في تقرير التنمية لعام 2013، لتدل على واقع جهاز الدولة ومستوى انحرافه.

تنمية ..!!

وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2013 فإن سورية تصنف من بين الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة، ليأتي قبلها تصنيفان (دول ذات تنمية مرتفعة جداً، ودول بمستوى تنمية مرتفع).

أما رقمياً فإن سورية تأتي في المرتبة 116 من أصل 186 دولة، بمؤشر تنمية وسطي 0.645 في عام 2012. يعبر دليل التنمية هذا عن مجموعة مكونات ندرجها مع تقديراتها في سورية وفق تقرير التنمية لعام 2013:

متوسط العمر المتوقع عند الولادة 76 سنة/ متوسط سنوات الدراسة 5,7 سنة/ متوسط سنوات الدراسة المتوقع 11,7/ نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي 4,674 دولار(عام 2005)

وإذا ما أخذنا تغيرات مؤشر التنمية الوسطي خلال عقود ثلاثة أي من 1980- 1990 / 1990-2000 / 2000-2010 يتبين التالي: زيادة المؤشر لم تكن بوتيرة مرتفعة حتى أن مستوى الزيادة كان يتراجع في بعض الفترات، على الرغم من أن الحاجات خلال العقود المتتالية تفترض زيادة في مستوى التنمية.

في العقد الأول (الثمانينيات): زاد مؤشر التنمية بمعدل 1 درجة تقريباً.

في العقد الثاني (التسعينيات): انخفضت الزيادة إلى 0.6 درجة زيادة.

في العقد الثالث (الأول من القرن 21): كانت الزيادة بمعدل 0,8 درجة زيادة.

الريف السوري ثلاث صدمات في تسع سنوات

مؤشر مشاركة قوة العمل -المأخوذ من تقرير الأزمة للمركز السوري لبحوث السياسات- بين المناطق الحضرية والريف يدل على التغيرات النوعية والسريعة في تركيبة وطبيعة العمل في المجتمع السوري.

فالريف السوري على سبيل المثال بلغت نسبة مشاركة قوة العمل المقيمة فيه في عام 2001- 2002: 58% من القوى العاملة، وهي تدل على طابع العمل الريفي الواسع، ومستوى من الاستقرار. خلال عام واحد بين 2002- 2003 انخفضت هذه المشاركة بمعدل سبع نقاط مئوية، لتنخفض مشاركة قوة العمل المقيمة في الريف إلى 51%، وهي تدل على هجرات وبطالة ريفية واسعة وتغير سريع في استقرار الريف السوري. لتشهد أيضاً انخفاض سريع آخر خلال عامي 2004-2005 من نسبة 50% تقريباً إلى نسبة 46% أي بانخفاض أربع نقاط مئوية، وهي موجة أخرى من الهجرة أو البطالة. أما الجولة الأخيرة فكانت بين أعوام 2007-2009 التي قلصت أيضاً مشاركة القوى العاملة المقيمة في الريف من 46% إلى 41% أي بمعدل 5 نقاط مئوية.

ماذا تعني هذه النقاط المئوية؟

هذا الانخفاض هو المؤشر الأهم ربما في تحديد وقود الأزمة الحالية فالأعوام التسعة بين 2001-2009 شهدت ثلاث صدمات للقوة العاملة في الريف. أخرجت ما نسبته 17% من القوى العاملة من دائرة الاستقرار والعمل الزراعي غالباً إلى البطالة، حيث مؤشرات تطور مشاركة قوة العمل كمحصلة للريف والمدينة لم تتجاوز في عام 2009: 43%، وهو ما يفتح التساؤل حول الأخطاء التي تكتنف معدلات البطالة الرسمية التي كانت تعلن نسبة بطالة أقصاها 8%.

هل تطورنا إنتاجياً؟

في البحث في مؤشر آخر يدل على مستوى التقدم الإنتاجي، سنستخدم تقييم لمعدل النمو، فإذا ما أغفلنا معدلات النمو الاقتصادي رقمياً، وبحثنا في مولداتها فإن المؤشرات تدل على أن مصدر النمو الرئيسي هو تراكم كمي لرؤوس الأموال، دون أن يتحقق أي تغير جدي في العائدية والإنتاجية. حيث بلغت تطورات إنتاجية عوامل الإنتاج الكلية خلال أربعة عقود بين السبعينيات وبداية العقد الأول من القرن العشرين بنسبة 18% فقط. وازدادت إلى 23% خلال العقد الأخير إلا أن عدم توافق مستوى التشغيل مع هذا التغير لم يؤدي إلى زيادة حقيقية في النمو، وتحديداً في القطاع الزراعي، حيث ارتفعت إنتاجية الزراعية بنسبة 60% خلال الفترة من 2000- 2008 إلا أن تراجع المساحات المزروعة وتراجع مشاركة القوى العاملة الزراعية لم يسمح بتحقيق تقدم في الإنتاج الزراعي يترافق مع زيادة الإنتاجية.

مؤشرات مختلّة

نسبة البطالة بين الشباب (15-24) بين عامي 2005- 2011: 40%

الخسارة في دليل التنمية البشرية نتيجة عدم المساواة: 20%

نسبة تشغيل الأطفال بين 5- 14 سنة بين عامي 2001-2010: 4%

نسبة التسرب من التعليم الابتدائي بين عامي 2002- 2011: 5,4%

نقص الوزن الطفيف والحاد لدى الأطفال بين عامي 2006-2010: 10%

نسبة الأمية بين الأفراد الذين يزيد عمرهم عن 15 عاماً في 2010: 15.6%

تراجع الإنفاق الأسري بين عامي 2004- 2009 بمعدل: -2% على مستوى سورية.

أقصاها في دير الزور -10%، إدلب، درعا: -5%، الرقة: -4%.

نسبة الأسر السورية في عام 2009 التي تنفق على الغذاء أقل من الحد الأدنى المطلوب من السعرات الحرارية: 18%.

نسبة السكان الذين يعانون من حرمان شديد في التعليم كوجه من وجوه الفقر: 36%

نسبة السكان الذين يعانون من حرمان شديد في الصحة كوجه من وجوه الفقر: 31%

نسبة السكان الذين يعانون من حرمان شديد في مستوى المعيشة: 21%

أرباح / أجور .. انحراف 6 درجات

إن أكثر ما يعبر عن اختلال دور جهاز الدولة، واختلال مفهوم المواطنة معه بالمعنى الجوهري والعميق هو المؤشر الدال على كيفية توزيع الثروة، فما ينتج على مستوى الوطن، يوزع بين الأفراد وفقاً لما تقتضيه علاقات هذا الإنتاج التي تقوم على أساس سمة العلاقات الرأسمالية أي من «يملك يأخذ..» والتي تقتضي ليس في سورية فقط وإنما عموماً أن صاحب العمل أي من يمتلك أدوات العمل ويشتري عمل الأُجراء (العاملين بأجر) بالتالي يمتلك البضاعة أو الحق في قيمة الخدمة المقدمة من منشأته، ويمتلك الربح العائد عنها، بينما يحصل العامل الذي يولّد وحده الثروة بعلاقته الإنتاجية مع هذه الأدوات، على أجره فقط الذي قد يكون أقل من قيمة قوة عمله التي يحتاجها.

فتوزيع الدخل الوطني بين أصحاب الأرباح وأصحاب الأجور، يعبر عن مستوى انحراف جهاز الدولة، وفق قاعدة «من يملك يحكم»، ويعبر عن عدم قدرته على القيام بعملية الموازنة التي يعتقد البعض أنه يستطيع القيام بها، إن اختلال دور جهاز الدولة، وتحديداً كما كان في الحالة السورية دوراً إنتاجياً، وضامناً اجتماعياً في لحظة من اللحظات هو نتيجة حتمية لتوسع حصة الأرباح على حساب الأجور. فالدخل الوطني الناتج أياً كانت تبويباته  يوزع بين الأرباح من جهة، والتي تختلف مسمياتها الإحصائية لتعبر عن أشكال الربح المتنوعة بتنوع أشكال الملكية الخاصة (فوائد، أرباح ربوية، ايجارات، دخول أصحاب الأعمال الصغيرة)، وبين الأجور من جهة أخرى وهي كم الرواتب والأجور الموزعة على العاملين بأجر.

2010 «المثال لا الحصر»

العاملين بأجر: بلغ تعداد العاملين بأجر من القوة العاملة في عام 2010: 3,6 ملايين شخص، بينما كان متوسط الأجور 11344 ل.س. أما الناتج المحلي الصافي بتكلفة عوامل الإنتاج لعام 2010 فبلغ حوالي 2661 مليار ل.س (وهو الناتج الإجمالي بسعر السوق بعد اقتطاع اهتلاكات رأس المال، واقتطاع محصلة الضرائب غير المباشرة والإعانات وفقاً للأسعار الجارية).

 حسابات بسيطة

مجموع الأجور شهرياً: 40,8 مليار ل.س

مجموع الأجور سنوياً: 490 مليار ل.س

الدخل الوطني المحلي: 2661 مليار ل.س

المتبقي للأرباح: 2171  مليار ل.س

أرباح   أجور

81.5%  18.5%

تبلغ نسبة الاعتمادات غير الموزعة في عام 2010: 112 مليار وهي تطابق في عامي 2011- 2012 مبلغ الدعم. بافتراض توزيع الدعم مناصفة بين أرباح وأجور فإن النسبة تبلغ (80% أرباح / 20% أجور).

النسبة المتعارف عليها في سورية لتوزيع الدخل بين أرباح وأجور كانت تتراوح قريباً من توزيع) 75% أرباح / 25% أجور) في التسعينيات وحتى 2003، والانتقال بمعدل 6,5 درجة يدل على تغيرات كبرى نظراً لتوسع كبير في دائرة القوى العاملة التي تحصل على الأجور، أي زيادة القوى العاملة، وزيادة نسبة الإعالة لديها، مقابل تضييق في نسبة من يحصلون على الأرباح مقابل زيادة نسبة ما يحصلون عليه من الناتج. وهذه الأرقام تنعكس اجتماعياً بأشكال كثيرة فزيادة العاملين بأجر تعني خروج أصحاب الأعمال الصغيرة من دائرة الأرباح، وتقتضي حكماً خروج العديد من القوى العاملة إلى دائرة البطالة، وتقتضي أيضاً مع تراجع ضرائب الأرباح حصة أقل للدولة من الثروة الموزعة. وتقتضي حكماً انحراف جهاز الدولة ودوره الخدمي نحو تخديم أصحاب الربح وإهمال أصحاب الأجر.

العقد الأخير

تسارع التغير في حصة أصحاب الربح خلال العقد الأخير، والانحراف نحوهم يجعل جملة السياسات التالية مفسرة وواضحة:

تراجع الإنفاق الحكومي: الصحي، التعليمي.

تراجع الإنفاق الحكومي الاستثماري.

تحرير كامل التجارة وفوضى الاستيراد.

إزالة جزء هام من الدعم الإنتاجي واستهداف المتبقي.

تخفيف ضرائب الأرباح على الشركات.

الكثير من السياسات الليبرالية التي تتلخص تحت شعار «الأغنياء قاطرة النمو» هي نتاج الانحراف المتسارع لجهاز الدولة، الناجم عن انحراف سريع وكبير في توزيع الثروة. الضرورة اليوم تقف في مواجهة هؤلاء الذين يتحولون في لحظة الازمة إلى عبء اقتصادي يفترض اجتثاثه، واستعادة توازن جهاز الدولة، لأن هذا الانحراف يقف في مقدمة مسببات الأزمة الوطنية اليوم، وفي مقدمة عوائق حلها جدياً.